رياح الحرية تهب من داخلنا وتبدأ بالتربية للمقهورين

-

رياح الحرية تهب من داخلنا وتبدأ بالتربية للمقهورين
خرج الى النور مؤخرا كتيب بعنوان" التربية للمقهورين والطريق للتحرير"، وهو من اعداد وتحرير الدكتور رباح حلبي، ترجمة مرزوق حلبي ومن اصدار معهد الدراسات- مدرسة السلام.

يشتمل الكتاب على ترجمة للفصلين الأول والثاني من كتاب "التربية للمقهورين" لصاحبه الكاتب والمناضل باولو فريري، بالأضافة الى مادتين مختارتين احداهما نشرت في مجلة هارفارد العلمية والثانية مأخوذة من احد فصول كتابه" سياسة التربية".

باولو فريري من ابرز فلاسفة التربية في القرن العشرين. ولد في العام 1921 في مدينة رصيفة، شمال البرازيل وتوفي في العام 1997 في مدينة سان باولو. درس الحقوق وحصل على اجازة في الموضوع في العام 1947. واصل دراسته العليا الى ان نال الدكتوراه في تاريخ وفلسفة التربية من جامعة الفنون في رصيفة في العام 1959.

يتناول فريري قضية القهر والإضطهاد واستلاب الإنسان انسانيته بجرأة وصراحة متناهية. كما يتصدى لإفرازات الوضعية القهرية فيتحدث عن ظاهرة تذويت القهر حيث يتقمص المقهور شخصية القاهر وفكر القاهر عنه، ويتوقف بعمق عند ظاهرةالخوف من عملية التحرير والحرية.

فريري يتطرق ايضا الى التقنيات التربوية التي يجب ان يعمل المربي بواسطتها كي يحرر طلابه من الوضع القهري. وهو يشير الى طريقة التربية الكلاسيكية البنكية التلقينية، كطريقة تربوية تعمل في صالح القاهر وتكرس الوضع القهري لكونها تعمل على كبح ابداع الطالب وحريته.

في المقابل يقترح فريري استبدالها بطريقة التربية الحوارية للخروج من الوضع القهري المرضي. ويؤكد على العلاقة الوثيقة بين السياسة والتربية، بل يوضح ان عملية التربية عادة ما تخضع للمؤسسة الحاكمة وتعمل لصالحها. وانه لاحيادية في التربية، فإما ان تعمل في صالح السلطة، واما ان تعمل لصالح الطالب والمجتمع في وجه السلطة المهيمنة القاهرة والظالمة.

نذكر ان فريري ابن البرازيل تعرض للسجن والنفي ومارس نشاطه الفكري في جامعة هارفارد وجنيف وجامعات اخرى.

الدكتور رباح حلبي من اشد المربين حماسة لنظرية فريري الا انه لا يتأخر عن توجيه النقد فيقول:"هناك مواضع ضعف في نظرية فريري خاصة في الجانب التطبيقي فيسأل السؤال مثلا كيف يمكن اختراق المؤسسة التربوية وتوعية الطلاب ضدها عندما تكون السلطة مسيطرة على سلك التربية ومستثمرة اياه بالكامل لصالحها؟! لكن افكار فريري تبقى اهم ما انتج من افكار تربوية في القرن العشرين. فهي احدى الدعائم الرئيسية التي قامت عليها التربية النقدية والراديكيلية. وضع فريري الأمور في نصابها، موضحا العلاقة الجدلية بين التربية والسياسة والدور الذي تلعبه التربية في صالح المجموعة المسيطرة ضد الطالب والمجتمعات المقموعة.

تماما كما تسخر المؤسسة الإسرائيلية سلك التربية كي تنتج فلسطينيا مشتتا، هلامي الهوية، ليسهل عليها التحكم بالفلسطينييين الذين يعيشون فيها.

تماما كما تجير الأنظمة العربية التربية لتتحكم بعقول الجماهير العربية لمصلحتها. بل كما يجير النظام الرأسمالي التربية ليخلق انسانا مستهلكا ليس الا".

ظل مذهب فريري مهمشا حتى هذه الأيام، على يد مؤسسات التربية والأكاديمية الغربية ربما للخطورة التي يشكلها هذا الخطاب على النخب المشرفة على هذه المؤسسات التربوية المحسوبة على المجموعة المهيمنة.

ويضيف الدكتور رباح:" العمل النهائي الذي يظهر في سطور هذا الكتيب هو نتاج احتكاك فكري تربوي بيني وبين فريري. حيث ان نص اقواله بالعربية مرت من خلال التجربة التربوية المتواضعة التي مررت بها خلال السنين وصقلت من خلالها الفكر التربوي الذي اكتسبته".

* احد الأشخاص، وهو موسيقار، اعترف امام فريري انه الف قطعة موسيقية بوحي من الكتاب –"التربية للمقهورين" ماذا فعل هذا الكتاب بالدكتور رباح؟

** انا عمليا قرأت الكتاب قبل 15 عاما،ومن وقتها حصل تحول جذري في مفاهيمي بالنسبة لأمرين؛ اولهما موضوع التربية وثانيهما موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وخصوصا توقف فريري عند نقطتين: قضية العنف موضحا ان العنف لايصدر عن المقهورين. لأن العنف يتجسد بعملية القهر ذاتها المتمثلة بسلب انسانية المقهورين. ومن هنا تنهار عمليا كل ادعاءات السلطة فيما يخص عنف الفلسطينيين وارهابهم. ومن هذا المنطلق بدأت اتعامل مع الآخر وما يصدر عنه. اما القضية الثانية التي توقف عندها فريري وتأثرت بها فهي مسألة تذويت القهر،التي تفسر سلوك اهالينا المتمثل بالقول القديم "امشي الحيط الحيط وقول يا رب السترة" هذا هو عمليا تذويت القهر، تقمص شخصية القاهر وفكره عنك بحيث تقتنع من عدم قدرتك واهليتك للمجابهة.

ارتأيت ان اقتطف نماذج من ادبيات باولو فريري اطلع القراء عليها واناقش الدكتور رباح بشأنها فأضرب عصفورين بحجر.

يقول فريري:" يحوي التصادم بين المسيطر والمسيطر عليه صراعا حضاريا- ثقافيا وصراعا طبقيا. الطبقة المسيطرة في هذا الصراع تعمل ما في وسعها كي تجرد الطبقة الضعيفة من جميع مواردها، تحاول جاهدة تخدير بل وقمع وعي ابناء الطبقة الضعيفة. يعمل المسيطر جاهدا محاولا اقناع ابناء الطبقة الضعيفة بوجود كم هائل من السلبيات الكامنة في ثقافتهم. لكن في نقطة ما يحدث تفجر في هذه العلاقات المرضية، يتكرر في عدة مراحل، يكتشف المستضعفون عندها القوة الكامنة داخلهم، يكتشفون ثقافتهم وأصالتهم ويناضلون من منطلق هذه الثقافة ومن اجل ترميمها واعادة بنائها، معتمدين على الأدوات العلمية نفسها التي اعتمدها المسيطر لفرض سيطرته وتكريسها لكن هذه المرة من اجل التحرير والحياة الأنسانية الكريمة.

* د. حلبي كيف تطبق هذه النظرية على حالتنا الفلسطينية المعاشة، فهبة يوم الأرض وهبة الأقصى (اكتوبر2000) هي حتما نقاط تفجر فكيف تقيمها؟

** فعلا هبة يوم الأرض وهبة الأقصى هم نقطتا تفجر وفقا لتحليل فريري. وبناء على ذلك انا اعتقد اننا دخلنا مرحلة اكتساب الوعي، والوعي عادة هو الطريقة الأولى لأكتساب "البراكسيس" (وعي مشروط بفعل مرافق) اذا برأيي نحن في طور البراكسيس. خاصة الشباب واؤكد على كلمة الشباب -ورغم محاولات التقليل من قيمة وعي الشباب -الا انني الاحظ نسبة متزايدة من الوعي لابأس بها تدل على ان الشباب واعون لوضعية القهر التي يعيشونها وهم يرفضون اكثر واكثر مقولة "امشي الحيط الحيط وقول يا رب السترة" مستعدين للمواجهة وتحمل ثمن ذلك. فأحد الإشكالات التي يشير اليها فريري هي ان المضطهد يخاف من الحرية ويعني بذلك دفع ثمن الحرية لذلك فهو يخشاها. بعد هبة اكتوبر حصل تراجع خطوة او اكثر الى الوراء لأن الثمن كان مرتفعا جدا (ارواح ثلاثة عشر شابا) .لكن عملية الوعي قد بدأت، الوعي لم يندثر وحسب رايي ستكون هناك هبة اضافية اذا استمر الوضع الظالم المنطوي على التمييز والأقصاء والتهميش. المؤسسة الحاكمة لم تتعلم الدرس من هبة اكتوبر، لم يتغير شيء .

* تخطر ببالي، لدى قراءتي هذه السطوركذلك، مؤسسات اهلية تناضل وفق المعايير العلمية التي يتحدث عنها فريري فأتذكر"عدالة "و"مؤسسة حقوق الأنسان" و" جمعية الجليل " وغيرها من الجمعيات الفاعلة محليا-*فهل تخميني في مكانه؟

** نعم تخمينك في مكانه. هذه المؤسسات بالفعل تستعمل الأدوات نفسها ولكن لأغراض متناقضة كليا. يعني اذا المؤسسة الحاكمة تمكنت لغاية اليوم من استعمال الأساليب العلمية لتكرس قهرها واضطهادها تأتي "عدالة" تحديدا لتقلب ظهر المجن، بحسب الأدوات العلمية ذاتها لتغير الوضع بحيث يصبح انسانيا اكثر. انا بنظري هذه الجمعيات لها دور كبير جدا في كشف اكاذيب السلطة، دورها هذا يأتي ضمن مرحلة في سبيل التحرير وليست هي من سيجلب التحرير. فهم يحرجون المؤسسة امام العالم التي بدورها قد تنجر لتغيير القوانين لتضمن ترسيخ الوضع القائم، وقد تجرها الملاحقة من قبل الجمعيات الى وضع الأبرتهايد وعندها تكون بداية النهاية.
يقول فريري :"من اجل ان يصبح هذا النضال( من اجل الأنسنة)ذا معنى ينبغي الا يمارس المقهورون في سعيهم الى استعادة انسانيتهم المسلوبة دور القاهرين بل عليهم ان يرمموا انسانيتهم وانسانية قاهريهم على السواء"

* كلام روحاني بالتأكيد – لكن هل هناك سبيل الى تنفيذه؟؟(خصوصا انه مرت عقود على ثورة غاندي الهادئة وتعليماته الروحانية التي تنادي الى التغيير الذاتي اولا ولم نر بشائر انعتاق وتحرير!)

** كما تقولين الأمر صعب جدا. لكن كونه صعبا لايعني ان لانصبو اليه. هذا تحد لنا كفلسطينيين داخل المناطق المحتلة، تحد انساني من الدرجة الأولى. انت تحدثت عن غاندي، دعيني احدثك عن نلسون مانديلا – هذا المناضل القدوة الذي لقن العالم الأبيض (المضطهد بغالبيته) درسا لاينسى في الرقي الأنساني. واثبت انه من ناحية ضمائرية ارقى من كل البيض في العالم. (العالم الأبيض تخوف من وقوع مذابح واعمال انتقام من قبل السود فور تسلمهم السلطة في جنوب افريقيا). وعليه انا اتأمل ان يكون هناك نلسون مانديلا فلسطيني وهذه مهمة صعبة لكن ممكنة لأن الحق معنا في هذا الصراع، واتمنى ان نكون من ناحية ضمائرية واخلاقية افضل منهم.

* مرة اخرى، نلتقي كفلسطينيين مع فكر فريري فها هو يتحدث حينا عن "الكرم الزائف" للقاهرين حين تراهم يحاولون التخفيف من قوتهم مسايرة لضعف المقهورين. وحينا آخر يتحدث عن "تذويت القهر" هل هذا دليل تأكيد على شمولية نظرية فريري؟

** اولا بودي التوقف قليلا عند مثال" الكرم الزائف"، فهو في غاية الأهمية ويتجلى بكامل فظاعته عند اليسار الإسرائيلي(وهو يحمل هذه التسمية بالخطأ) فهذا اليسار غارق في عقدة الكرم الزائف. فهو لايتعامل مع الفلسطيني كإنسان ومنطلقاته لحل الصراع ليست من منطلق انساني وانما من منطلق الحفاظ على الدولة اليهودية، وتعاملهم مع الفلسطينيين في الغالب يكون استعلائيا فيه نوع من الوصاية الأبوية وليس من الند للند. هذا ليس يسارا، اليسار الحقيقي عليه ان ينخرط في النضال الفلسطيني وليس ان يسدي النصائح للفلسطينيين لكيفية حل الصراع، تماما كما تفعل جمعية "تعايش" اليهودية العربية.

اما بالنسبة لشمولية نظرية فريري، نعم هذا يثبت ان نظرية فريري ومصطلحاته صالحة في كافة اوضاع القهر في العالم دون الحاجة لأن يذكر قوميات او اعراق محددة .

يقول فريري:"التربية الحوارية عن طريق طرح المشكلات لاتعترف بالحاضر الجاحد، ولا بالمستقبل المحدد سلفا، وانما تنشغل بعملية ديناميكية تضرب جذورها في الحاضر وجهتها دوما المستقبل.

بينما يؤكد الأسلوب البنكي قدرية المصير الأنساني، فإن منهج طرح المشكلات يطرح هذه المشكلة باعتبارها قضية تستوجب حلا".

* هل اصبحت نصيرا للتربية الحوارية على ضوء هذا الطرح، وما هي الإشكاليات التطبيقية لهذا المنهج على ارض الواقع، من خلال تجربتك الطويلة كمرب؟

** نعم، انا من انصار التربية الحوارية لكن ليس بمفهومها الميكانيكي. انا ارى بوجوب ان يكون المربي منفتحا فكريا وليس ماكنة تثقيف او تعليم وكأن المواد شيء مقدس. وعلى الطالب ان يتعامل مع الأمور من منظور نقدي عليه ان يتعامل مع الواقع على انه من صنع ايدينا وبالتالي يمكن تغييره، من هذا المنطلق انا مع الفكر الحواري. بدون شك التربية الحوارية كنهج تدريس افضل لكن من خلال تجربتي التربوية فان الأمر ليس سهلا سواء على مستوى مدارس او حتى جامعات. انما الأمر ممكن من خلال مجموعات حوارية مثل لقاءات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. في هذه الحالة، المرشد يسهل عملية الحوار بين اعضاء المجموعة فالمرشد هنا معفي من تمرير مادة بعينها فالمادة هنا هي الإكتشافات التي يتوصل اليها اعضاء المجموعة من خلال عملية الإحتكاك مع الآخر وتعتبر هذه عمليات توعية من خلال تربية لا منهجية.

برأيي هناك مكان واهمية لعقد مثل هذه المجموعات في وسطنا الفلسطيني، كما اعتقد ان اطرا مختلفة مثل نوادي ومراكز جماهيرية ومنظمات شبابية جديرة بأن تتبنى هذا النهج في عملها مع الشباب.

خلاصة تجربة فريري تتجلى في كلماته التالية التي يرغب في ايصالها الى كل قرائه:"كن منفتحا للعالم دائما، كن مستعدا للتفكير، لاتقبل كل ما يقال، ابحث، اسأل وشكك في كل ما حولك".

* ما احوجنا كمجتمع عربي الى اعتماد هذا النهج، متى نبدأ وكيف باعتناق مذهب فريري؟

** المجتمع العربي ككل يعاني من موضوع التزمت. وذلك نابع من المبنى المجتمعي المتصف بالأبوية والذي يطالب الأفراد بالطاعة العمياء وهي النقيض التام لتعاليم فريري.وكان الدكتورالمرحوم هشام شرابي قد تصدى لهذا الموضوع في كتاباته. نحن بالفعل بحاجة الى خرق هذا الحصار المفروض علينا لنبدأ بالتعامل مع الواقع من خلال النقد والتفكير، من خلال التشكيك وعدم تقبل الواقع كما هو. انا بشكل شخصي اميل الى التفاؤل، ففي السنوات الأخيرة نلحظ تحولاممتازا في المجتمع العربي الكبير، على الأقل ما يتسنى لنا مشاهدته من خلال الفضائيات، هناك جرأة صحفية في طرح المواضبع، تحركات الجماهير في لبنان وخروجها الى المظاهرات، خروج المصريين الى الشوارع للتظاهر رغم الحكم العسكري المفروض في مصر. اذن في ظل الحكم الدكتاتوري تنشا حركات مناضلة جهرا وعلانية لا تخشى دفع ثمن الحرية الباهظ.
انا اعتقد ان العملية بدأت . اذا ما اعتمدنا على اقوال فريري،فان المجتمع العربي دخل مرحلة التشكيك بكل شيء حوله، واصبح يتعامل مع الواقع على انه يحتمل التغيير. وبالتأكيد،المجتمع الفلسطيني في المناطق المحتلة هو رائد هذه الثورة ومصدرها الى المجتمعات العربية المجاورة.

وللتلخيص اقول اننا كفلسطينيين في اسرائيل عشنا فترة تذويت القهر فترة طويلة، خاصة الجيل الأول. انا اتصور اننا اليوم تخطينا هذه الحالة الأنسانية من تذويت القهر، وهناك منسوب لا بأس به من الوعي بين الشباب وهو وعي مصحوب برايي بممارسة ما (بما يتطابق مع مرحلة البراكسيس التي يتحدث عنها فريري) الأمر الذي سيؤدي لامحالة الى تغيير الوضع الظالم تجاه المجتمع الفلسطيني في اسرائيل.

التعليقات