"مشارف" (26):التمسّك بلحظات الحضور والغياب، على خيط الثقافة، عربيًا وعالميًا

-

إرتباطـًا بقضايا ومتغيرات الفكر والثقافة العالميين، وليس ما يتفاعل في الفضاء العربي فحسب، اختارت "مشارف" - الفصلية الثقافية الصادرة في حيفا، افتتاح عددها الاخير (26، شتاء 2004) بملف خاص عن الفيلسوف الراحل جاك دريدا. الدافع هو ما يعنيه هذا المفكر في انتماءاته المركبة وطروحاته المعمقة، من رمزية ومضمون إنساني، يتجاوز الحلقات المتوارثة، ليحلق في فضاء الفكر والثقافة الانسانيين، بكل ما يعنيه الامر من "تفكيك" لما علق بين مداميك المراحل التاريخية الفكرية، وإبداع لما هو ارقى – لو جاز لنا ايراد هذه الاستعارة المستقاة من ارثه.


كما اسلفنا، فالافتتاح جاء على وقع الغياب، غياب دريدا. وهو الذي ظهر على الغلاف في صورة مفاجئة تبعث على إلتباس جميل، قبل أن يتّضح أنها ملتقطة من فترة سِني شبابه المبكّر وهو يحمل.. قوسًا ونشابًا! وشمل الملف ترجمة خاصة لمقابلة مع الراحل يعرض فيها لصحيفة "لوموند" بصياغات مكثفة وغزيرة جوانب من مساره وأثره. وقد حرص المترجم أنس الحكيم ان يرفق بالمقابلة – التي امتدت من المضامين الفلسفية وحتى قِطـَع الذاكرة واستشراف ما تقف عليه البشرية اليوم، من عتبة قلقة – هوامش هامة هي بمثابة مفتاح يُقدم للقراء لما تضمنه الحوار الغنيّ.

وربما ان في الاقتباسات المقتضبة التالية، لحديث الفيلسوف، ما يوجز:

"ان ما أدعوه اذن "أممية جديدة" يفرض علينا عددا كبيرا من الطفرات في القانون الدولي والمؤسسات التي تضبط نظام العالم (صندوق النقد الدولي، ومؤسسة التجارة العالمية والثمانية الكبار، وخصوصا الأمم المتحدة والتي يتوجب على الاقل تغيير ميثاقها وتكوينها، وقبل كل شيء ليكن مكان تواجدها أبعد ما يكون عن نيويورك)". أما على الفكرة القديمة التي حُفظت منذ أفلاطون "التفلسف هو تعلم الموت"، فإن دريدا يردّ متمردًا كما نعهده: "يقلّ ايماني بهذه الحقيقة يوما بعد يوم ولن استسلم لها. لم اتعلم قبول الموت".

المقابلة تتوقف عند عدد من مؤلفاته، ويبرز بشكل خاص كتاب "أشباح ماركس" الذي يعلق عليه بالقول: "يلح الكتاب على اننا نعيش في عالم تزداد فيه الفوارق بين البشر بما لم نشهده من قبل، وعلى ان مليارات من الاحياء (البشر وغيرهم) لا حق لهم في حياة جديرة بأن تعاش...".

ومن المقابلة الى المقدمة التي كتبها ميشيل ليس لـ "المجلة الأدبية"، تمتد خيوط الفكر والطرح الدريدائي عبر التوقف الخاطف في محطات حياته، انسانًا ومفكرًا، ثم مقاربة مشروعه الاكبر بامتياز: التفكيكية، فيتم تناولها تعريفًا، واستخلاصًا من الأدب وخوضه النقدي، المؤلـِّف، والنص كمسألة فعل إنساني بامتياز يظل شيئـًا غير مفروغ منه.

وكما في اعداد "مشارف" المتجددة، يتواصل الاحتفاء بالشعر. واندراج هذا الملف مباشرة بعد "غياب" دريدا يدلل على حضوره ومقولاته المصرّة على الحياة. فلا يزال الشعر رغم الحرب، وهي التي تعاركها قصائد عدة في هذا العدد.

هنا نقرأ فوزي كريم، الشاعر العراقي المقيم في لندن، في 13 قصيدة هي: تمضي الرسائل/ قد يعبر جندي/ قارئ في الظلام/ الدورة الدامية/ الى بدر شاكر السيّاب/ الغزاة/ بقالية الرسائل المنسية/ رائحة التوت/ عند باب غاردينيا/ التلميذ العاق/ السحلية/ سأعود غدا/ والمدينة الغائبة.


طه محمد علي، الشاعر الفلسطيني ابن صفورية المهجّرة يطلّ في قصائد ثلاث: ليس إلا/ بين النوم واليقظة/ قبل ذاك.. ومن بعده.

في أُولى القصائد يقول:

"أرق مجوسيّ لا يخمد
في ليل أسود أسود
أطول من شعر ستين غولة
بضع تغيّرات، كما ترى
الى جانب عضلة قلبي الغربية"..

الشاعر السوري صالح دياب يكتب لـ "مشارف" من باريس، تحت العنوان "قصائد كوفونيثي".

في قصيدة "كبشا لأجل عرقك" نقرأ:
"هي ذي أفكارك
تينة لكل ليل
مغارة لكل بئر
ولهفتي
تندفع نحوك
كما سلسلة جبلية
الى البحر"

اما الشاعرة الفلسطينية الغزيّة عائدة حسنين فتكتب في قصيدة "الشجرة"

"تلألأ الصبحُ
وقلبي زغرد
ودمي
لخضرة الشجرة
وحبات الندى
والنسمة الباردة!"

وهذا الى جانب قصائدها: حين أصحو/ الحكاية/ دوامة/ الشجرة/ على لسان امرأة شرقية، وغيرها، وهي من مجموعة قيد النشر عنوانها "عناق الوردة".

وفي الابداع الفلسطيني ايضا، نقرأ قصائد الشاعر محمد حلمي الريشة ابن نابلس المحتلة: الضيوف/ السعاة/ الشائك/ العائلة/ الشّفير/ التحت.

فيكتب في "العائلة":

"نجوم خمسة
على
أهبة انتظار،
وقمر اللهفة يعدّ موائده، ولا يخطئ الدفء..
ما أبعد هذه اللقطة المعادة
ما أقرب شريط حياتي..
كيف يصرخ المخرج النرجسي: Action ؟
ولا يقول بعد دوري: Stop !


في باب "شرفة" تنشر الفصلية قصائد للشاعر الفرنسي فيليب جاكوته. وقد نقل القصائد الى العربية أنس الحكيم. ونقرأ: موسيقى ليلية/ الشاعر متأخرًا/ كتاب الموتى/ كراسة المروج/ حكي.

ملف "الثقافة العبرية" يتواصل في عدد الفصلية الجديد، وهو يضع حزمة من الضوء على الكاتبة العبرية رونيت مطلون، اذ ينشر قصة مترجمة لها، ويقدم مقالة نقدية للباحثين حنان حيفر – الناقد والمحاضر في الادب العبري في الجامعة العبرية، وموشيه رون الناقد والمحاضر في موضوع الأدب الانجليزي.

ويكتب الناقدان: "تتميز قصة رونيت مطلون "أخ صغير" بتعدد أساليبها المتباينة (....) ويفلح في أن يشكـّل هنا امتدادًا طبيعيًا من الهويات الاجتماعية". ويضيفان: "الانطباع الذي يخلق هو مساواة في القيمة الانسانية بين الراوي والحيز السوسيلولوجي المتمثل عبره وبين الشخصيات الفاعلة وعالمها الاجتماعي".
اما في باب "رؤى" فيتناول هشام نفاع الفيلم التوثيقي المتميز (درب 181) للمخرجين، الفلسطيني ميشيل خليفي، والاسرائيلي أيال سيفان، وهو فيلم يلتقط القصص والذاكرة والشخوص على طول الخط الوهمي لما كان يفترض ان يشكل خط قرار التقسيم (نوفمبر 1947) الذي أقرته الأمم المتحدة.

وتحت عنوان: "نفسي حزينة جدا حتى الموت" تكتب نسرين مغربي مقالا استطراديًا تبدأه من الانتقادات التي وُجهت الى فيلم "آلام المسيح" وحتى الخوض في مسألة الطبقات النفسية والفكرية للنص الديني وقصته ومخزونه، وقضية الانسان – الآخر. ومما تقوله: "لا شك في ان حاجة الانسان للصلة والتواصل مع الآخر هامة، لكني اعتقد ان بداخله برمجيات نفسية تتيح له حماية نفسه من صلة نفسية قد تؤدي الى هلاكه، او تمكنه من التحايل على الامور والحفاظ على بقائه على قيد الحياة وتحييد مفعولها السلبي".

اما الكاتب ماجد خمرة، فيتناول الانتاج الجديد لمسرحية "أم الروبابيكيا"، رائعة الراحل إميل حبيبي، وهو يقرأها نصًا مُمسرحًا بين "جدلية المحلية والعالمية" كما ورد في عنوان الدراسة.

وفي باب "رؤى" ايضا، مقالة للروائي المصري المقيم في هولندا رؤوف مسعد تحت العنوان "عن الكتاب العربي والثقافة العربية في فرانكفورت". وهي مقالة نقدية غنية بالتفاصيل، تتناول معرض فرانكفورت للكتاب، كلحظة مؤاتية للخوض في قضية الكتاب، بين تجاذب العديد من الاطراف في السياق الثقافي العربي. وهو يسهب في تشريح نقاط الالتقاء بين مختلف العناصر: السياسية (السلطوية) الاقتصادية والأدبية/ الثقافية، للمسألة الهامة. وهو يخوض أيضًا في "المعارك الجانبية" للكتابة والترجمة ليصل الى خلاصته التي جاءت حادة: "اهتمامنا بهذه السفاسف والتفاهات هو ساتر لعجزنا ان نعترف بأننا ما زلنا دون انجاز ثقافي او فلسفي او ابداعي هام ومعاصر. واحساسنا بأننا لم يعد يهمنا ان نؤثر في العالم من حولنا والا نترك أثرا بعد خروجنا من العالم، سوى آثار الكذبة، آثار العنف الديني المختلط بالقومي والذبح أمام الكاميرات. باعت لنا ادارة معرض فرانكفورت الوهم، واشتريناه وحاولنا تسويقه لمن باعوه لنا، لقد تعودنا ان نشتري الوهم، وقررنا تدويره، وان نبيعه لمن باعوه لنا. هذا هو العبث بعينه!"

في باب "نصوص"، نقرأ نصين "تفاح الظل" للشاعر والكاتب المغربي ياسين عدنان، و"زيارة لينين" للشاعر العراقي المقيم في برلين مؤيد الراوي.

يبدأ عدنان قصته بمصارحة او ما يشبهها، كالتالي: "كان علي في الحقيقة ان اكتب هذه القصة منذ خمس سنوات، فالحكاية حينها كانت طرية ما تزال في القلب والوجدان، لا اخفيكم اني حاولت اكثر من مرة لكن دون توفيق، كنت أجد صعوبة في وصف رجاء"..

اما الراوي فيلتقط لحظات مشحونة حين "كان العالم يتغير هنا". وهكذا يحوّل "لينين" الى مفردة متعددة الاهداف والمضامين، يقترب بها من السياسة ليقبض على ما يبقى منها، او لنقل ان الكاتب جهز له مسرحا لقطعة من تاريخ كالتالي: "لم تعد ساحة الرجل الرخامي تدعي ميدان لينين. أُبدل الاسم، ووضعت خمس كتل من احجار ضخمة في المكان الخالي، أحجار غير مشذّبة قالوا انها ترمز الى القارات الخمس. وهكذا اصبح اسم الميدان، "ميدان الأمم المتحدة". وكان بعض المحتجين قد جلبوا تمثالا من الصفيح لبسمارك، وأوقفوه وسط الساحة، ثم كتبوا بالدهان "ساحة بسمارك" لكن سرعان ما جاءت الشرطة ورفعت تمثال الصفيح ومسحت الدهان منذرة من تكرار هذه المزحة التي تسيء للبلاد وقد توحدت وتخلصت من ارث النازية، وهي لا تفكر في التوسع"..

المجلة تختتم عددها الاخير بملف الرواية وهي تنشر رواية خصّها بها الروائي الجزائري الطاهر وطار تحت العنوان "الوالي الطاهر يرفع يديه بالدعاء"، وقد اهداها الى "الشاعر الكبير سميح القاسم: من رأى منا منكرا فليغيره، بيده، وان لم يستطع فبلسانه، وان لم يستطع فبقلبه، وهذا أقوى الايمان"..

يبدأ النص بما عنونه الكاتب "تأشيرة عبور" وفيه يضع عمله الجديد في سياق ما سبقه: "لم اكن، اطلاقا، أنوي كتابة رواية هذا العام، فلدي مشاريع قصص قصيرة، يلازمني بعضها منذ ما يزيد عن عشر سنوات، بالاضافة الى ارهاق سنة كاملة من الجهد في "الجاحظية" لكن ضغط الظروف العالمية، والوضعية في العراق والعالم العربي والاسلامي، فرض علي رواية لم أعايشها سنوات عديدة، كما هو الشأن لباقي اعمالي".
ويختتم في "تأشيرته" بالقول: "لم أشأ ان أن اوقظ الولي الطاهر من غيبوبته، التي يرى فيها ما يرى، فلعلي كمواطن، عربي، أعيش أحلام يقظة معه"..
رئيسة تحرير "مشارف" سهام داوود.
هيئة تحرير "مشارف" تضم الناقد أنطوان شلحت، دكتور سلمان مصالحة، دكتور محمود رجب غنايم، بروفيسور رمزي سليمان، الشاعر (الراحل) محمد حمزة غنايم وبروفيسور أنطون شمّاس. يصمّمها شريف واكد. المجلة من 248 صفحة.
عنوان المجلة الالكتروني:
masharef@netvision.net.il

التعليقات