"مشارف" تحتفي بالكلمة الإبداعية المصرّة على الحريّة

-

يطل العدد الأخير (خريف 2005) من "مشارف"، الفصلية الثقافية التي تصدر في حيفا، من شاطئ محتشد بقوارب راسية، وفهرس يتواصل فيه طرق المجلة لقوس واسع من ألوان الكلمة وأجناس النص.

وحشد القوارب المذكور هو ما يعكسه الغلاف في صورة اختير لها العنوان "غزة.. الحرية"، فقد التقطت عدسة التشكيلي والمصور الغزّيّ ماجد شلا قطعة من شاطئ هذا الجزء الفلسطيني الذي صنع خطوة هامة، وان كانت لا تزال ملتبسة وأولية، على درب حريته التي ستظل جزءًا من حرة شعبه برمته. هذا العنوان تصدّر افتتاحية العدد أيضًا والتي حين طرقت باب الرابط الحضاري المتين الممتد من حيفا الى غزة، استعادت الفكرة الأساس من اصدار المجلة كما عرّفها مرارًا مؤسسها ورئيس تحريرها الأول، الأديب الراحل اميل حبيبي، الذي ساهم بشكل لافت في التأسيس لجدلية العلاقة بين "الباقين" وبين "العائدين" المنسوجة من تاريخ يُنهل منه ومستقبل يُستشرف على أملٍ وبأمل.

مما جاء في الافتتاحية: "ليس أولى من "مشارف" بأن تحتفي بهذه الحرية على طريقتها. فهي التي نقشت على رايتها ولا تزال حريّة الإبداع، الذي لا يعترف بحدود ولا يقف عند سدود، في بحثه الذي لا يكلّ عن المعرفة. وهي التي تربطها على الدّوام بغزة علاقة حميمة تتعدى دافع الأصل والانتماء. والمبدعون الفلسطينيون في غزة كانوا فرعًا حيًا، أصيلاً وحيويًا، من شجرة المجلة عند تأسيسها ولدى عودتها المتجددة".

// النحت بكلمة القصيدة

كثيرة كانت الرهانات السوداوية على موت القصيدة واندثار الشعر، وكأن عواصف إخضاع لغة الانسان لوتيرة التقنيات قادرة على اطفاء جذوة الفن الرفيع هذا. ولكن هنا، في "مشارف"، لا يزال للقصيدة موقع دافئ. وفيه يساهم الشاعر الفلسطيني المقيم في الرامة سميح القاسم بمطوّلة "كولاج 5" التي يكتب فيها:
"في إحصاء ضحايانا واستجداء نوايانا
أين حزنّا أكثر
وتحسّرنا أكثر
وتعبنا أكثر؟
في ميدان الحرب من المكسيك الى فيتنام
أم في ميدان
تسونامي؟ أين سقطنا اكثر؟!
*
بكفّين من كيمياء البنوك
ثقبتَ أوزون الرؤى العاليه
ووزّعت في الأرض ألغام شهوتك الدامية
بكفّين من كيمياء الصكوك
وأرباح بورصتك الصافيه.
متى ترحم الأرضَ يا صاحبي، والسماءْ.."

فايز السرساوي، الشاعر الفلسطيني المقيم في غزة، يشارك بعدد من القصائد بينها: مرارة لا تغيب، مشروع، إخلاء، بوستر، اغتيال، وما من شيء يغريني.
في "وعد" يقول:
"ووعدتني..
بباقة ورد في عيد الحبّ
ولم تأتِ
ووعدتني
على شرف ذكرى اللقاء الأول
بعشاء رومانسي وشموع
ولم تأتِ
وقلتِ لي
إن الربيع على الأبواب
موسمنا لجمع الفراشات الملوّنة
ومداعبة الزنابق
انتظرتك بفارغ الليل
ولم ينحسر الحصار
أخّرتك الحوادث.. ربما؟
تفتـّحت الشقائق كلها
ولم يأتِ الربيع!!.."

وعبر: حلم ليلة شتائية، مذبحة في حديقة المنزل، رسالة في علبة صفيح، وغيرها، يطل الشاعر العراقي المقيم في ميونيخ عباس خضر.
من قصيدة "شجن إيثاكا":
"البلاد
التي حمل في الحقيبة
والتي حمل في الوجه
والتي حمل في الجرح
والتي بكاها عقودًا
وبكتْ..
مرّا ببعض
كلاهما مثل غريبين
يمتطيان وجهتين
وينطلقان كقذيفتين
نحو
الهاوية
والهاوية".

الشاعرة الغزيّة عائدة حسنين تكتب: الندى، العائدون، القمر، البستان، عندما يستيقظ ولدي، والهدهد، ضمن عدد من قصائدها.
في "حفلة" نقرأ:
"هيّا إليّ نقتل الملل نغني
فالورد لك
والشعر لك
والقلب لك
وأنا أغني
هيا إليّ لا تدعني
أعطني اللحن أغني
خطوي ليرقص مع يديك!"
أخيرًا في الشعر، حميد العقابي، الشاعر والكاتب المقيم في فايله/ الدانمارك، من قصائده: غناء فحسب: الفادن، زهرة، السرّ، القطا، خطأ صحيح، مكابدة، بخفّي حنين، الغجري، والناي.
قصيدة "النهر":
النهر أغنية المدينة
أمنيات الطفل
يتبع زورق الورق
ليبدأ رحلة أولى الى المجهول،
مخبأُ عاشقين
يمارسان الحب،
نطفة خالق
شبِق
النهر
معبد شاعر
يصغي إلى الماء
الذي بدأ الخليقة
فانتهت بالنفي والغرق".


// صنوف من نثر

باب رؤى شمل مقالاً للشاعر العراقي المقيم في لندن فوزي كريم بعنوان "بيندا وخيانة المثقف"، وهو يقدم فيه مقاربة نقدية بين أجيال من المثقفين، أوروبيين وعرب، بخصوص السؤال عن أهواء ومشاعر المثقف في سياق ما مرجعياته ومعايير التزامه. وهو يقدّم مفكرًا فرنسيًا "غير واسع الشهرة" يدعى جوليان بيندا وموقفه "النقدي الجذري في وجه مثقفي "الحماقات" الوطنية والقومية والطبقية والنزعات النفعية في الفكر والايديولوجية السياسية". كريم يعتبر أن "تمجيد القوة" هو جذر "كل فروع تمجيد الشجاعة التي تساوى فيها عرف الشاعر والجنرال على حد سواء".
وجاءت النصوص من خلال عدد من المساهمات بدأت بـ "تسع قصص قصيرة" للقاص الفلسطيني محمد علي طه، حيث يكتب في "فراق":
"فرحتْ عندما شمّت رائحة الآفترشيف في لحافها فمدّت ذراعها الأسمر لتضمّه الى جسدها الذي له رائحة الغابة فذهلت عندما لم تجد أحدًا. فتحت عينيها تبحث عنه في سريرها فلم تجده. جلست على حافة السرير وبحثت عنه في غرفة نومها ولم تجده. عادت تبحث عن رائحة الآفترشيف في لحافها ولم تجده".
القاص الفلسطيني نصار ابراهيم ينقل في قصة "الحذاء" بالصوت وحتى بالرائحة ما يدور على وفي محيط حاجز عسكري قرب القدس. فالسفرة من رام الله الى "العاصمة" تتحول الى خلاصة في معنى السخرية من القوة.
أما الكاتب التونسي علي مصباح فيروي قصة "أولاد حماد"، علي بن حماد "الأعور" وعلي بن حماد "العايب"، اللذين جمعتهما "صدفة غريبة" في رحلة ليلية راح يتعارك كل منهما فيها مع نفسه وخصمه وتاريخه الشخصي وتاريخ بلاد بأكملها، قبل أن تنتهي رحلتهما بتعرية تامة لهما إلا من أوهام المجد والسطوة!
الكاتب المغربي طه عدنان يساهم عبر "شرق بلا حدود"، شرق يرسم حدوده الغائمة "عصام السوري" و "ريتشارد البلجيكي" ثم يتركان الراوي يردّد: "لم أعد أعرف أين يبدأ الشرق ولا أين ينتهي؟ هل من مخيلة ريتشارد واستيهاماته يبدأ؟ أم لعله ينتهي على الحدود الشائكة التي زرعها عصام بمرارة زوج مخلوع؟".
باب النصوص يختتم بـ "أول المرايا امرأة" للقاص الفلسطيني غريب عسقلاني:
"على شاطئ البحر التقينا، أبحرتُ في عينيه العسليتين، غبت عن مياه الأزرق وجذّفت في بحيرة من عسل صاف، سحبني الى قراره واتفقنا، وأعلنتُ انحيازي فامتثل أبي وابتلع تحفظاته وخوفه، وقدّر أنني الأدرى بشأني.
وتزوجنا، وصُدمت..".

// دراسات ومتابعات

حمل باب الدراسات دراسة مشتركة بعنوان "الذاكرة والمدى في السينما الفلسطينية" للباحثة والأستاذة في جامعة تل أبيب نوريت جيرتس والسينمائي الفلسطيني الأستاذ في جامعة القدس الفلسطينية جورج خليفي. وهي عبارة عن مقدمة مؤلفهما المشترك الذي سيصدر قريبًا بالعبرية بعنوان "مشاهد في الضباب"، وتتبع محطات الفن السابع في مسيرته الفلسطينية وتحلل مؤثرات التاريخ فيها وما تركته هي من صور لهذا التاريخ وفيه. الباحثان يقولان: "تلتحم الرضّة التاريخية ووسائل منازلتها إذن بالرضّة الجغرافية، والاثنتان معًا تحددان للسينما الفلسطينية وجهتها".
وتلتها مادة دراسية لريم غنايم، طالبة ماجستير، لغة عربية، في جامعة تل أبيب، بعنوان "الفنان وتراجيديا البطل المأزوم" وهي قراءة لبطلي جيمس جويس في "الفندق" و "صورة الفنان في شبابه". تقول: "اخترتُ هذين البطلين بالذات كنموذج مثالي يشهد على التواصل الروحي في أدب جيمس جويس، الذي تمكن من كتابة فصل في تاريخ دولته الأخلاقي".
في باب مستحدث سمّي "رواق"، وتحت عنوان "رسالة الكاتب وواحات التكتّم" يقدم الروائي المصري رؤوف مسعدقراءة متعددة المستويات لآخر مؤلفات الروائي صنع الله ابراهيم "يوميات الواحات" الذي جاء كتأريخ بأسلوب اليوميات لتجربة الكاتب في سجن الواات المصري. وعنها يقول مسعد: "المثير للانتباه - بعد قراءة متمعنة لليوميات - أن الكاتب لم يتغيّر كثيرًا خلال النصف قرن (وكذا العديد من رفاقه). فبمقارنة ما سطره في الستينيات وما "فسّره ووضّحه" بعد تلك السنوات، لن نجد تغيّرًا يذكر في مواقفه الأساسية من القضايا التي طرحها.." والتي يلخصها مسعد بالكتابة الروائية وفلسفتها، الموقف من اليهود المصريين الماركسيين ووالموقف من التعذيب الممنهج خلال فترة جمال عبد الناصر.
"مشارف" تقدم أيضًا وثيقتين حول المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد، فتكتب الناقدة والتشكيلية الأمريكية دوريس بيطار عن "مكونات الذات الخلاقة: نظرة فاحصة على ادوارد سعيد" كمشاهدة للفيلم "نحن والآخرون" من اخراج عمانوئيل هامون (2004) قائلة: "الفيلم يؤكد أن سعيد يفتقر الى الرابط العادي الذي نعرفه كجزء لا يتجزّأ من التجربة الفلسطينية - أي لقطعة أرض، وبيت من الحجر أو بيّارة. قد يكون هذا الأمر مربكًا، حينما نسمعه يصرّ على كونه في حالة نفي دائم من وطنه ومن الولايات المتحدة، البلد الذي هو مواطن فيه. ويناقش سعيد علاقته الضعيفة مع مدينة نيويورك. ونظرًا لأن أنفسًا كثيرة منقطعة عن أوطانها تقيم في المدينة، فهو يعتقد أنها أفضل بقعة كمنفى".
وعن الدورية الأدبية "الجديد" تنقل "مشارف" مقالا بعنوان "آخر مقابلة مع ادوارد سعيد" بقلم بريجيت كالاند وهو يتناول الفيلم "آخر مقابلة" (اخراج: مايك ديب، مقابلة: تشارلز غلاس، أفلام ايكاريوس، 2004) وانطباعات من مقابلة شخصية ومكاتبات مع سعيد. مما تكتبه: "بالنسبة لأولئك الذين يعرفون أعمال سعيد وحاته، يشكل "اللقاء الأول" لحظة رائعة يقضيها المشاهد مع عقل عظيم. أما أولئك الذين يكتشفون لأول مرة الرجل الذي شعر على الدوام بأنه "خارج المكان" والعالِم الذي وضع أكثر من 20 مؤلفًا، فسيندهشون بفكره وجرأته وطاقته".

// وثقافات الشعوب

باب "ثقافة عبرية" يقدم فصلا من آخر روايات الكاتب الاسرائيلي أفراهام ب يهوشواع "مهمّة المسؤول عن الموارد البشرية"، ترجمه جميل غنايم. وقدّم لها بمقالة نقدية الباحث والمحاضر في جامعة بئر السبع نيسيم كلدرون حول "الواقع والفنتازيا" في الرواية إذ يكتب: "نقطة الانطلاق لهذه الرواية هي الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) وإسرائيل في عهد العمليات الانتحارية الكبيرة (...) يضع الكاتب في مركز الرواية بطلة هي انسان غريب عن المجتمع الاسرائيلي - غريب عن اليهود فيها وكذلك عن العرب فيها: عاملة أجنبية من روسيا".
هذا العدد يختتم بمقابلة واسعة مع سول بيلو، ترجمها الياس نصر الله عن " ذي باريس ريفيو"، وأجراها غوردون لويد هاربر. بيلو، الروائي الأمريكي والأستاذ الجامعي البارز، يجيب على أسئلة شاملة حول فنّ الرواية، متوقفًا عند أهمّ أعماله. يقول: "أشعر أن الفن مرتبط بتحقيق السكينة في خضمّ الفوضى. ذلك النوع من السكينة التي تميّز الصلاة، والهدوء الذي يسبق العاصفة. أعتقد أن الفن هو نوع من القدرة على التركيز وسط الشرود". وجاءت خلاصة مفعمة بالأمل: "أنا مستعد تمامًا للاعتراف أنه لكوننا نكذب بالفطرة ونخدع أنفسنا، فلدينا سبب كافٍ للخوف من الحقيقة، لكني شخصيًا لست مستعدًا للكفّ عن الأمل. فلربما هناك شيء من الحقيقة في أنه في نهاية المطاف لدينا أصدقاء في هذا الكون".

التعليقات