كتاب جديد لهيكل: السادات إختار مبارك للمضي بالتسوية مع اسرائيل

وسألنى الرئيس "السادات" هنا: "ألا يلفت نظرك أن الشاه عين زوج شقيقته "فاطمي" )الجنرال محمد فاطمى( قائدا للطيران؟! عنده حكمة فى هذا الاختيار، لأن الطيران يستطيع أن يتدخل بسرعة، وبقوة نيران كثيفة لمواجهة أى تمرد أو عصيان، أو حتى محاولة انقلاب".

كتاب جديد لهيكل: السادات إختار مبارك للمضي بالتسوية مع اسرائيل

- السادات تم إغتياله، ومبارك تم إسقاطه -

مع اقتراب الذكرى الأولى لثورة 25 يناير المجيدة، يكشف الكاتب المصري محمد حسنين هيكل،   في كتاب جديد تنشر صحيفة الشروق المصرية حلقاته، الملابسات والظروف التي أدت بالرئيس المصري السابق، السادات لاختتيار مبارك نائبا له، ويورد حوارا مع السادات يلقي الضوء على خلفية اختياره لمبارك، ويبين أن أن نية السادات المضي في تسوية مع إسرائيل كان لها تأثير على قراره إلى جانب كون مبارك ينفذ ما هو مطلوب منه وأكثر، بحسب السادات.
 
ويقول هيكل: "بدأت متابعتى للرئيس "حسنى مبارك" من بعيد بالمسافة، من قريب بالاهتمام عندما ظهر على الساحة العامة لأول مرة قائدا لسلاح الطيران المصرى فى الظروف الصعبة التى تعاقبت بعد أحداث يونيو سنة 1967، ولم يخطر ببالى وقتها لحظة واحدة أن هذا الرجل سوف يحكم مصر ثلاثين سنة، ويفكر فى توريث حكمها بعده لابنه".
 
 ويضيف: "وعندما أصبح "مبارك" رئيسا بعد اغتيال الرئيس "أنور السادات" فى أكتوبر 1981، فقد رحت حتى ونحن لا نزال بعد فى سجن "طرة" ضمن اعتقالات سبتمبر الشهيرة سنة (1981)، أذكِّر نفسى وغيرى بالمثل الفرنسى الشائع، الذى استخدمه الكاتب الفرنسى الشهير "أندريه موروا" عنوانا لإحدى رواياته، وهو أن "غير المتوقع يحدث دائما!!"
 
وللأمانة فقد سمعت الفريق "محمد فوزى"" وزير الدفاع" يقدم لـ"مبارك" عند جمال عبدالناصر، عندما رشحه له رئيسا للأركان فى سلاح الطيران أثناء حرب الاستنزاف، وكانت شهادة الفريق "محمد فوزي" تزكيه لما رُشح له، ثم كان أن أصبح الرجل بعد أن اختاره الرئيس "السادات" قائدا للسلاح موضع اهتمام عام وواسع، لأن سلاح الطيران وقتها كان يجتاز عملية إعادة تنظيم مرهقة، وكانت هذه العملية تجرى بالتوافق مع قيام السلاح بدوره فى حرب الاستنزاف، وخلالها تعاقب على قيادة الطيران خمسة من القادة هم: "صدقى محمود" و"مدكور أبوالعز"، و"مصطفى الحناوى"، و"على بغدادى"، ولم يستطع أى من هؤلاء القادة إكمال مدته الطبيعية، وبالتالى فإن مجىء كل واحد منهم إلى قيادة الطيران كان حالة فوران لا يهدأ وسط أجواء مشحونة داخل واحد من أهم الأسلحة، فى لحظة من أشد اللحظات احتياجا إلى فعله!!
 
وقد كان هيكل يلتقي السادات بين عامي 1974-1975  ويقول: "في يوم من شهر مارس من تلك السنة (1975)قضينا فيه الصباح بأكمله معا فى استراحة القناطر، ومن الساعة العاشرة إلى الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان "مبارك" موجوداً على مجرى الحوار، وليس فقط على شاشة الرادار!! والذى حدث أن الرئيس "السادات" سألنى فجأة وسط حديثنا الطويل تحت شجرة "الفيكس" العريقة وسط حديقة الاستراحة فى القناطر بما ملخصه: "أنه يجد نفسه حائراً بشأن منصب نائب الرئيس فى العهد الجديد بعد أكتوبر".
 
واستطرد دون أن ينتظر منى رداً: "الحاج "حسين" يقصد السيد "حسين الشافعى" (والذى يشغل بالفعل منصب نائب الرئيس( لم يعد ينفعنى".
ثم أضاف: "بصراحة جيل يوليو لم يعد يصلح، والدور الآن على جيل أكتوبر، ولابد أن يكون منه ومن قادته اختيارى لنائب الرئيس الجديد!!"
وأضاف الرئيس "السادات" مرة أخرى دون أن ينتظر رداً: "جيل أكتوبر فيه خمسة من القيادات، أولهم وهو "أحمد إسماعيل" توفى والآن أمامى "الجمسى" )وكان مديرا للعمليات أثناء الحرب، وأصبح وزير الدفاع بعد "أحمد إسماعيل"( ثم "محمد على فهمى" )قائد الدفاع الجوى( ثم "حسنى مبارك" قائد الطيران، ثم قائد البحرية (هكذا أشار إليه دون اسم)، وهو يقصد الفريق فؤاد ذكرى ."
وأضاف: "لابد أن يكون اختيارى ضمن واحد منهم".
 
ورددت عليه بعفوية متسائلا: "ولماذا يحشر نفسه فى هذه الدائرة الصغيرة؟ أقصد لماذا يتصور أن جيل أكتوبر هو فقط هؤلاء القادة العسكريون للمعركة؟!!".
 
ورد بطريقته حين يريد إظهار الحسم: "أنت تعرف أن الرئيس فى هذا البلد لخمسين سنة قادمة لابد أن يكون عسكريا وإذا كان كذلك، فقادة الحرب لهم أسبقية على غيرهم".
 
وقلت والحوار تتسع دائرته: "إن أكتوبر كانت حرب كل الشعب، ثم إنك قلت لى الآن عن اعتزامك تكليف وزير الداخلية اللواء ممدوح سالم برئاسة الوزارة، وأخشى باختياره أنك تكون قد "بولست" )عن البوليس( الوزارة، ثم إنك بـ"مبارك" نائبا لك تكون قد "عسكرت" الرئاسة، وربما يصعب على الناس قبول الأمرين معا فى نفس الوقت".
 
ورد قائلا: "أنه مندهش لترددى فى إدراك أهمية أن يكون رئيس مصر القادم عسكريا، ثم سألنى: ألست تعرف أن ذلك كان رأى "المعلم" يقصد "جمال عبدالناصر" أيضا؟
 
وقلت: "إن الظروف ربما تغيرت، وليس لدىَّ تحيز ضد رئيس عسكرى، لكنه مع ضابط بوليس فى رئاسة الوزارة، وضابط طيار فى رئاسة الجمهورية فإن صورة ما بعد الحرب سوف تبدو تركيزا على الضبط والربط لا تبرره الأحوال، وأما فيما يتعلق برأى "جمال عبدالناصر" فإن مسئوليات الحرب، وبالتالى منجزاتها تغيرت كثيرا عندما التحق شباب المؤهلات بجيش المليون على الجبهة".
 
وشعرت أنه متمسك برأيه، واقترحت عليه بمنطق حجته: ـ ليكن لماذا لم تفكر فى "الجمسى" مثلا؟!!
 
ورد بسرعة: ـ لا، "الجمسي" لا يصلح للرئاسة "الجمسى" فلاح وهو ليس من نحتاجه فى منصب نائب الرئيس الآن".
 
وأدركت أن لديه مرشحا، وسألته فيمن يفكر، ورد على الفور على السؤال بسؤال كما كان يفعل أحيانا:
"ما رأيك فى "حسنى مبارك"؟!".
 
ـ وقلت: "إن اسمه لم يخطر ببالى، وإنما خطر ببالى مع إصراره على عسكرى من جيل أكتوبر، أن يكون نائبه الجديد إما "الجمسى" وزير الدفاع الآن، والذى كان مديرا للعمليات، أو "محمد على فهمى" قائد الدفاع الجوى، وهو السلاح الذى قام بالدور الأكثر تأثيرا فى المعركة بحائط الصواريخ، فإذا أراد غير هؤلاء، فقد يفكر فى واحد من قادة الجيوش".
 
ورد: "لا، لا أحد من هؤلاء يصلح "مبارك" أحسن منهم، خصوصا فى هذه الظروف!!"
 
وسألته بالتسلسل المنطقى للحوار: أية ظروف بالتحديد؟!!
 
وراح يشرح ويستطرد ويقاطع نفسه، ثم يعود إلى سياق ما يتكلم فيه، ثم يبتعد عنه، وكنت أشعر به كما لو أنه متردد فى الإفصاح الكامل عن فكره، وإن كانت بعض العبارات قد لفتت نظرى: ـ قوله مثلا: "أن هناك قيادات فى الجيش لم تفهم بعد سياسته فى "عملية السلام" ومقتضياتها".
ـ وقوله مثلا: "أن هناك عناصر فى الجيش لا تزال مشايعة لـ"مراكز القوى" أو متعاطفة مع "سعد الشاذلي".
 
ـ وقوله مثلا وهو يستدعي تجربة شاه إيران "محمد رضا بهلوى" الذى وصفه بأنه "سياسي عُقر"، وهو فى رأيه أوعى سياسي فى المنطقة، بحكم تجربة طويلة وراءه استفاد كثيرا منها.
 
وسألنى الرئيس "السادات" هنا: "ألا يلفت نظرك أن الشاه عين زوج شقيقته "فاطمي" )الجنرال محمد فاطمى( قائدا للطيران؟! عنده حكمة فى هذا الاختيار، لأن الطيران يستطيع أن يتدخل بسرعة، وبقوة نيران كثيفة لمواجهة أى تمرد أو عصيان، أو حتى محاولة انقلاب".
 
وسألته: "إذا كانت تلك نصيحة من شاه إيران؟!".
 
وارتفع صوته محتجا يسأل: "هل هو فى حاجة إلى نصيحة يقولها له "الشاه"، أليس يكفينا أن نرى ما نرى، ونفهم منه ما نفهم، ثم سألنى مباشرة كمن يريد إفحام محاوره: "جرى لك إيه يا محمد؟!!"
 
ولفت نظرى قول الرئيس "السادات": "إن "مبارك" منوفى )وضحك مقاطعا نفسه: "مثلى"، ثم عاد إلى استكمال عبارته(، وله فى الطيران مجموعات بين الضباط مسيطرة على السلاح، ثم يضيف: و"التأمين" قضية مهمة فى المرحلة القادمة بكل ما فيها من تحولات قد لا يستوعبها كل الناس بالسرعة الواجبة".
- محمد حسنين هيكل -
 
وسألته: "لكن "الشاه" عين زوج شقيقته قائدا للطيران، وليس نائبا لرئيس الدولة!! و"مبارك" فيما أتصور لا خبرة له بشئون الحكم فى سياسة كل يوم، خصوصا ما يتعلق منها بمطالب الناس ومشكلاتهم، وسألته "ثم لماذا لا تتيح له فرصة التجربة وزيرا لإحدى وزارات الإنتاج أو الخدمات، حتى يتفهم الرجل أحوال الإدارة المدنية، وحتى يحتك ولو من باب الإنصاف له بمطالب الناس وحاجاتهم" وكان رده:
 
ـ "لا، لو فعلت ما تقترحه، فسوف أحرقه.. الإنجاز السريع فى الوزارات التنفيذية مسألة فى منتهى الصعوبة".
 
ومرت فى ذهنى بارقة، فقد تذكرت ذلك التقرير الذى كتبه السيد "سامى شرف" بخط يده عن مكالمة تليفونية مع نائبه الرئيس "السادات" الذى كان فى الخرطوم سنة 1970، وضمن المكالمة ما يشيـر التقرير عن محاولة اغتيال الإمام "الهادى" بسلة مانجو فى بطنها لغم!!
 
وقلت للرئيس "السادات" وأنا لا أعرف بالضبط ما أفضى به الآن، وما أحجب مما قرأت فى مذكرة "سامى شرف": ـ "ولكن "مبارك" دارت حوله إشاعات فى قضية اغتيال الإمام "الهادى"، وسوف تعود القضية كلها إلى التداول فى "الخرطوم" فور إعلان تعيينه نائبا للرئيس.
 
ورد "السادات" على طريقته حين يريد "الإقناع" بما يتشكك فيه سامعه بأن: "مشكلتك يا "محمد" أنك تصدق الإشاعات، ويظهر أن فترة الشهور التى انقطعت فيها عنى )أى منذ تركت "الأهرام") فى فبراير 1974 قد "أبعدتك" عن مصادر الأخبار الصحيحة".
 
وقلت بأدب: "إن الأخبار الصحيحة متاحة فى كل مكان لمن يبحث عنها"، وتصور الرئيس "السادات" أنه بملاحظته ضايقنى، وإذا بابتسامة عريضة تملأ شفتيه مرة واحدة كما يفعل حين يريد إظهار سماحته، فأضاف بنبرته الودود المشهورة عنه: "المسألة أنك بغريزة الصحفى يشدك أي خبر مثير!!"
 
وقلت: "أي خبر مثير؟! أنت بنفسك رويت القصة كلها على التليفون، و"سامي شرف" سجلها بخطه لعرضها على "جمال عبدالناصر"، وما كتبه "سامي شرف" عندى فى أوراقى التى تفضلت وأعطيتها بنفسك لي!!"
 
وبدا لى أنه فوجئ، وأول ما قاله فى التعبير عن مفاجأته "آه" قالها خطفا، بمعنى الدهشة!!
 
وكان سؤاله التالى بسرعة مستفسرا "وعندك الورقة التى كتبها "سامي"، ثم استطرد بأنه يريدها.. يريد أن يراها!!
 
وقلت إن الورقة موجودة ولكنها ليست "هنا"، وذكَّرته بأننى استأذنته فى إخراج بعض أوراقى الخاصة بعيدا عن مصر، خوفا عليها من تربص صراعات السلطة التى لاحت نُذُرها بعد رحيل "جمال عبدالناصر".
 
وقلت "إننى سوف أجىء له بها فى أول سفرة إلى أوروبا"، لكنى ذكَّرته بضرورة أن يتصور أن الأمريكان سجَّلوا مكالمته الأصلية مع "سامي"، وكذلك السوفييت، وربما أيضا إسرائيل، وإذن فهناك من يعرفون القصة، وربما يحتفظون بتسجيل كامل لحديثه مع "سامي"، بصرف النظر عن أية "ورقة مكتوبة"!!
 
وأخذتنا بعد ذلك تطورات الحوادث، فلا الرئيس "السادات" عاد إلى طلب الورقة، ولا أنا عُدت بها معى من سفر!!
 
لكن المسألة الأهم بعد هذا الحديث أننى خرجت من استراحة "القناطر" يومها مدركا عدة حقائق:
 
1ـ أن اختيار "مبارك" لمنصب نائب الرئيس لم يكن اختيارا "بسيطا" بل مركبا حكمته اعتبارات أخرى، فهو لم يكن اختيارا من بين الرجال الذين ظهروا فى حرب أكتوبر، على أساس دور متفوق على غيره فيها، وإنما كان اختيار "مبارك" شيئا آخر إلى جانب أكتوبر يقدمه ويزكيه.
 
2 أن الرئيس "السادات" اختار رجلا يعرفه من قبل، وقد اختبر قدرته على الفعل، واستوثق منه.
 
3 أن اختياره للرجل وقع وفى ذهنه قضية حيوية بالنسبة له ولسياساته هى قضية تأمين النظام فى ظروف تحولات حساسة!!
 
4 أن الرجل من قبل اختياره أظهر استعدادا عنده يجعله مهيأ للمضى "وراء حدود الواجب" على حد التعبير المشهور فى العسكرية البريطانية Going beyond the call of duty، أى المضى بتنفيذ الواجب حتى بالزيادة عليه بما ليس منه إذا قضت الأسباب!!

التعليقات