31/10/2010 - 11:02

الشعر في قرطبة/ د. محمد سعيد محمد

درس من خلاله الشعر في قرطبة بدءاً من منتصف القرن الرابع الهجري إلى منتصف القرن الخامس، أيّ زهاء قرن من الزمان

الشعر في قرطبة/ د. محمد سعيد محمد
ضمن السلسلة الأندلسية التي يعنى المجمّع الثقافي بأبوظبي بطباعتها ونشرها، صدر كتاب «الشعر في قرطبة» «لمؤلفه الدكتور محمد سعيد محمد، درس من خلاله الشعر في قرطبة بدءاً من منتصف القرن الرابع الهجري إلى منتصف القرن الخامس، أيّ زهاء قرن من الزمان. وقد أكد الباحث في تقديمه أن هذا الاختيار الزمني كان مقصوداً من قبله، وذلك لأن قرطبة خلال هذه الفترة شهدت سقوط عصر سياسي زاهر،

وفقدت حاكماً قوياً حكم خمسين عاماً هو عبد الرحمن الثالث، كانت قرطبة خلالها دخلت فترة ازدهار أدبي متقدم بفضل تشجيع الحكم الذي يميل إلى الأدب والأدباء وشجّع على حركة ثقافية، وكوّن مكتبة كبيرة اقتنى لها نوادر الكتب من بقاع العالم الإسلامي كافة، ودفع فيها الأموال الطائلة، مما أدى إلى ازدهار الشعر في ربوع هذه المدينة الجميلة، فصارت إحدى أكبر بيئات الأدب العربي في عصور ازدهاره.

أما المبرر الذي جعله ينهي دراسته مع منتصف القرن الخامس فهو أن عدداً من شعراء قرطبة البارزين تركوها ابتداء من فترة الفتنة، وكان آخر شاعر مبدع رحل عنها هو ابن زيدون 441 هـ وأصبحت شبه خالية من شاعر متميز، وبذلك فإنه سوف يربط الحضور الشعري وغيابه بالمؤثرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل أساسي، وإلى بعض العوامل الشخصية أيضاً.

قسّم المؤلف بحثه إلى تمهيد أوّلي تأسس على خمسة مباحث أضاءت الكثير عن هذه المدينة الساكنة وجداننا الجمعي كحالة ذات خصوصية ثقافية وفنية وإبداعية بشكل عام، فهي العاصمة التي دخلها صقر قريش في 138 هـ ، وهي العمران: مبان ومساجد ومتنزّهات وقصور،

وقد وصفها ابن حوقل سنة 337 هـ بقوله:«وأعظم مدينة قرطبة، وليس بجميع المغرب لها شبيه، ولا بالجزيرة والشام ومصر ما يدانيها في كثرة أهل، وسعة رقعة، وفسحة أسواق، ونظافة محال، وعمارة مساجد، وكثرة حمامات وفنادق..» وهي فوق هذا وذاك مدينة الشعراء الذين تغنوا بطبيعتها طويلاً.

ومن هنا فإن التمهيد سيتناول الحياة السياسية التي باستقرارها هيأت سبل الإبداع، والحياة الاجتماعية التي كانت نموذجاً مصغراً لحياة المجتمع الأندلسي بعامة، حيث الثراء الفاحش وامتلاء خزائن الدولة، وأثر ذلك في حياة الناس بانتشار مجالس اللهو والطرب لنتعرف على جوانب مهمة من حيوات شعراء مالوا إلى المجون والغزل الفاحش، وصولاً إلى أزمنة الفتنة وشيوع النفاق والتحاسد والتآمر بين الشعراء فانعكس كلّ ذلك على أشعارهم.

أما عن الحياة الفكرية إبان هذه الفترة، فإن القارئ سوف يطلع على مجمل الحراك الفكري الذي شهدته الأندلس وقرطبة خاصة، وكان بمثابة صدى للصراعات الفكرية التي شهدها المشرق ببروز فكر الاعتزال مع ابن مسرّة وتدخّل الفقهاء وملاحقة اتباعه وحرق مؤلفاته، بل واضطهاد العلماء المشتغلين بعلوم الهندسة والمنطق والفلسفة عموماً في عهد المنصور، بينما راجت كتب علوم القرآن والفقه واللغة والأدب رواجاً كبيراً في قرطبة بفضل رحلة عدد من القرطبيين إلى المشرق، وتتلمذهم على كبار العلماء، بل وقدوم عدد من العلماء المشارقة الذين نشّطوا الحركة العلمية عن طريق المجالس.

وسوف يوضّح المؤلّف في مبحثه الأخير أثر الحجابة والفتنة والطوائف على الشعراء مع سياسة المنصور الدكتاتورية وقمعه لكلّ صاحب رأي أو معارض، حيث ظهر هذا القلق على ألسنة بعض الشعراء في شكل شكوى أو تبرّم من أحوال الزمان وتقلّباته وأهله، ووصل أحياناً إلى درجة الانتقاد العنيف والهجاء المقذع مما دفع بالمنصور إلى قتل بعضهم ونفي بعضهم الآخر،

وسيقوم المؤلّف بتعدادهم مقدماً نبذة عن كلّ واحد منهم ومن ضمنهم سنستزيد معرفة بابن درّاج القسطلي، وبابن شهيد وابن حزم وغيرهم، وكذلك إلى العديد من شعراء عصر الطوائف ومنهم ابن زيدون الشاعر الذي ارتبط اسمه بولاّدة بنت الخليفة المستكفي، حيث قضى السجن على آماله وأحلامه، فبات وضعه كأوضاع أقرانه من الشعراء الذين نشأوا في ظروف سياسية مضطربة امتازت بالدسائس والمؤامرات مما انعكس على شعرهم، فانعدم فيه الفرح، وسيطر عليهم القلق والتشاؤم بسبب حالات الاغتراب التي عاشوها وهم داخل وطنهم،

ومن هؤلاء سيعتبر المؤلّف ابن درّاج القسطلي ت 421 هـ من أوائل الشعراء الذين أحسوا بالغربة الفكرية، فسعى للخلاص مما يعانيه، وكان شعره بمثابة احتجاج وتمرّد على الواقع المستجد، وكذلك هو شأن ابن شهيد ت 426 هـ الذي عبّرت أشعاره الأخيرة عما كان يكابده من حياة قلقة نتيجة للتآمر عليه من الوسط الثقافي، وقد عبّر المؤلّف عن ذلك بأنها «تجربة الشاعر المتميز صاحب الرؤية الثاقبة التي تتجاوز الواقع».

الدراسة الرئيسية توزّعتها ثلاثة أبواب كبرى، ضمّت أحد عشر فصلاً، حيث جاء الفصل الأوّل في الأغراض الشعرية: الشكوى، المديح، الوصف، الهجاء. حيث جاء شعر الشكوى في مبحثين، أوّلهما عني بغرض الشكوى من خلال الأغراض الشعرية المختلفة، وثانيهما العتاب الذي صنف ضمن هذا الغرض باعتباره يعد نوعاً من الشكوى.

وسيجمع المؤلف تحت عنوان المديح أغراض الرثاء والفخر باعتبارها تعنى بموضوع واحد هو ذكر المحامد، والثناء بالصفات الحميدة على الممدوح أو المرثي أو الذي يفخر بنفسه أو قومه، وكذلك صنّف فنون الوصف كلها تحت عنوان واحد هو الوصف، شاملاً وصف الطبيعة، والمرأة (الغزل) والخمرة، أما الهجاء الذي يأتي على ذكر المثال فقد قسّمه إلى أربعة مباحث: هجاء ولاة الأمر، هجاء الأفراد، هجاء قرطبة، هجاء الفقهاء.

في الباب الثاني من الكتاب سيتناول المؤلّف علاقة الشاعر بالمكان من خلال موضوعات: السجن، والحنين، وما اسماه بالأندلسية، أي البيئة المحلية. فالسجن كمكان قهري وحجز تعسفي في الغالب لشعراء فقدوا حريتهم لظروف سياسية كما في عهد المنصور إبان فترة الحجابة، حيث عبر الشعراء عن حياة السجن وغربتهم بين جدرانه الأربعة، فوصفوا ما آلت إليه أحوالهم، وتبرّمهم بالقيود والشوق والحنين إلى أهلهم وأحبابهم وديارهم،

ومن هؤلاء الوزير جعفر بن عثمان المصحفي (ت 372) الذي عبّرت أشعاره عن جوانب إنسانية، ونددت بالظلم والقهر وجفوة الأصدقاء وغدرهم. وإلى ذلك فإنه سوف يعتبر شعر السجن في هذه الفترة يغلب عليه تناول قضايا من مثل: تقلّب الزمان، والإحساس باليأس، وتعزية النفس والاستعطاف والتوق إلى الحرية.
وبالإضافة إلى ما تقدّم فإنه رأى أن شعر السجن في فترتي الفتنة والطوائف يختلف عن نظيره في فترة الحجابة من حيث الكم والكيف، واعتبر ابن زيدون من أكثر الشعراء حزناً في سجنه، وأغزرهم شعراً في هذا الجانب.
وفي جانب الحنين، الموضوعة التقليدية للمغترب أو المنفي عن الأهل والديار، فإننا سنلتمس جانبين عالجهما الباحث بكثافة: الحنين إلى قرطبة وضواحيها، والحنين إلى الأهل والأصدقاء. وحيث إن الغربة لم تكن دوافعها اقتصادية بمقدار ما كانت نتيجة لظروف سياسية أملاها واقع ضاغط في أزمنة الفتنة، وبذلك فإن قرطبة كمكان حنيني كانت أشبه بحاضنة أمومية، تركت في ذوات الشعراء كثيراً من الوجد والحنين إلى أيامها ومسراتها،

فداعب هذا الحنين وجداناتهم وهم بالمنافي، فعبروا في قصائدهم عن كل ذلك. ويعدّ ابن درّاج القسطلي من شعراء قرطبة الذين ظلّ الوطن يعصف بهم في موطن إقامته الجديد في سرقسطة، فشدّه الحنين إليها وإلى طبيعتها الجميلة، وكذلك الأمر بالنسبة لابن حزم الذي هاجر إلى «المرية» في فترة الفتنة، ولكنه إلى ذلك ظلّ يتابع أخبارها والحزن يعتصر فؤاده.

كما ارتبط ابن زيدون بهذه المدينة التي شهدت غرامياته وذكرياته الجميلة فخاطبها من سجنه أو من مهجره متشوقاً إلى أهلها وإلى معاهد اللهو وأماكن الطفولة ومسقط رأسه. وكما سنلاحظ من خلال الدراسة أن الذكريات الجميلة ستكون بمثابة التعويض عن المفتقد، حيث يؤكّد المؤلّف أن تكرار ترديد أسماء الأماكن لديه يجسّد عنصري الفراق والبعد اللذين يعيشهما الشاعر، ويشعرنا بشدة الحزن الذي يعاني منه وبخاصة إذا علمنا أن تلك الأماكن شهدت مرحلة زاهية وزاهرة من حياته.

أما الفصل الثالث من الباب ذاته «الأندلسية»، سيطلعنا المؤلّف على خصوصية البيئة الأندلسية من خلال سبعة مباحث: أسماء عربية ومسيحية للقادة والمدن والحصون والأنهار، ما ورد على صيغة فعلون، الأمثال العامية، لباس البياض في الحزن، الشقرة، الرايات والبنود، وأخيراً البرد والثلج.

وهي كما يتضح من العناوين تعبّر عن بيئة الأندلس ذات الخصوصية التي تفترق عن أختها المشرقية، وكأن الأندلسيين على حدّ تعبيره أرادوا لفت انتباه إخوانهم في المشرق إلى الجيد من نتاجهم الأدبي شعراً ونثراً، وأن الأندلس عربية الروح والنتاج والثقافة رغم المسافة البعيدة.

أما الباب الثالث والأخير، فقد تناول تقنيات القول الشعري، حيث في الفصل الأول سيدرس الصورة الشعرية واتجاهات الشعراء في تناولها من تشبيهات واستعارات ومن صور جزئية وكلية، وصولاً إلى الكناية والمجاز والاقتباس والرمز والتضمين، لتعبر هذه الصور بالنهاية عن جوانب نفسية عديدة ومنها حالات القلق والاضطراب عند الشعراء، وردة الفعل إزائها .

وفي الفصل الأخير سيتوقف الباحث عند معجم شعراء قرطبة، وسيقسمه إلى أربعة مباحث: معجم الأغراض الشعرية، الألفاظ الأجنبية، تردد الأسماء والألفاظ المختلفة، تأثير الثقافة الدينية، حيث سيتناول في معجم الأغراض الشعرية معجمات الشعراء الخاصة بكلّ غرض سواء في المديح، أو في معاني الشجاعة وكرم الأصل، أو في التعبير عن حالات الغربة وغير ذلك. أما بالنسبة للألفاظ الأجنبية،

فقد أكّد حضور هذه المفردات لدى بعض الشعراء من اللغة اللاتينية أو الإسبانية،كما انه سوف يشير إلى أن بعض الشعراء من أمثال ابن دراج كانوا على معرفة باللغة اللاتينية الشائعة في قرطبة في تلك الفترة، حيث استطاع أن يوظف في شعره بعض مصطلحاتها. أما من جانب تأثير الثقافة الدينية، سيتابع المؤلّف المؤثرات القرآنية في أشعارهم من خلال الاقتباس، أو في التمثّل، أو في عقد مقارنات بين ذواتهم وأبطال القصص القرآني كقصة يوسف على سبيل المثال، هذا إلى جانب تكرار أسماء الأماكن المقدّسة والألفاظ الدينية الدالة على الشعائر المقدسة وغير ذلك.

_______
عن صحيفة البيان

التعليقات