31/10/2010 - 11:02

"العراق الجديد": عرض تاريخيّ ورؤية مستقبلية لبلد بلا طغاة واحتلالات

-

"لعلّك أيها القارئ الكريم، قد استنتجت الآن بأنني لست قلقاً جداً إزاء كيفية كبح جماح الامبريالية الثقافية الامريكية في العراق. إنني أحاول بدلاً من ذلك اكتشاف الطريقة التي يمكنني من خلالها إثارة الامبريالية الثقافية العراقية في الشرق الاوسط وما وراءه (...)".

بهذه العبارة ينهي جوزف براودي الفصل العاشر من كتابه "العراق الجديد"، وهذا لعمري كلام جلل لما يشهده العراق من حوادث أدخلته دهليز بصيص نور، المنفذ فيه مُموّه وخادع أحيانا، رغم صدق النوايا لدى البعض. وكاتبنا، بالتأكيد، أحدهم إن لم يكن أهمّهم. المؤلف الشاب متفائل إذًا، وهذا سبب كافٍ للكتابة عنه وعرضه على القراء (المتشائمين خاصة)، لعلّ عدوى التفاؤل تنتقل اليهم- إنما بعد قراءة الكتاب بالطبع!

براودي في مقتبل العمر (ثمانية وعشرين عامًا) وهذا كتابه الأول. إلا أنّ سيرته تضعنا حيال ظاهرة مجبولة على المعرفة يعزّ نظيرها؛ فالكاتب سليل أسرتين عريقتين اشتهرت إحداهما بالعلوم والمعارف والثانية في عالم المال والتجارة وجذورهما تعود إلى بلاد وادي الرافدين لأكثر من ألفي عام ونيف. وهو لجهة أمه "حفيد لحفيد الحاخام أبرهام أصلان، حاخام باشي بغداد" (أي رئيس الحاخامين أو الحاخام الاول)، وكانت لغات الشرق الادنى وحضارته حقل دراسته في جامعة "ييل"، وأكمل دراسته العليا في جامعة "برنستون" في مجال اللغة العربية في القرون الوسطى، وهو اليوم مستشار لحكومات وهيئات يتمحور اختصاصها حول الشؤون السياسية والثقافية والأعمال التجارية المتعلقة بالشرق الاوسط.

ذلك، فضلاً عن إلمامه التام بالعربية دراسةً، والانكليزية نشأةً، إلى الفارسية والعبرية والألمانية. ويعمل براودي في مؤسسة "بيرامد" للأبحاث في ولاية ماساتشوسيتس بصفة "محلل كبير" في الشؤون الخاصة بمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، ولا بد، ونحن في صدد الحديث عن كتاب براودي، من الاشادة بترجمة نمير عباس مظفر الذي لم يتوقف عند الجودة، بل تجاوزتها الى هوامش ومداخلات تصحح (من وجهة نظر المترجم) بعض ما ورد في الكتاب من "هفوات" وهي قليلة.

يبدأ براودي كتابه برصد تاريخي لأرض الرافدين او وادي الرافدين ومرادفها الاغريقي "ميسوبوتاميا"- الاسم الاكثر شيوعاً لما يعرف بالعراق اليوم. هذه الارض الرسوبية التي شهدت ميلاد البشرية الثاني بعد الطوفان (طوفان نوح بحسب التوراة وطوفان اوتونابشتم بحسب الاسطورة البابلية) التي راحت، بحسب جوزف براودي، وأراه محقاً "تتحرك مثل رقاص ساعة الحائط متذبذبة بين أمجاد الانتصارات وعار الاحتلال والاستعمار". ولعله ما يفسّر ولع العراقيين بالطغاة، فإما أن يصلوا بهم الى المجد، أو يتقاعسوا عنه وهنا لا سبيل لهم الى الاحتفاظ بالعرش سوى أن يستبدّوا ويبطشوا، وهذا الحاصل فعلاً على مدى ألوف السنين.

يستعرض الكاتب ما وجده في بطون الكتب وشاهده في صالات المتاحف وكلّه يشهد لعراقة هذه البلاد ومراوحتها بين عدالة حمورابي وعبقريته، وقسوة الأشوريين وبطشهم، وثالثة بتدمير بابل على يد الامبراطور الفارسي كورش واحتلالها. وفي الفصول الاولى من كتاب براودي ثمة مداخل اختارها المؤلف في ظرف وذكاء ليتسرب من خلالها حديث ذو شجون، وعن قصة علاقته بالديبلوماسي العراقي (أبو عبد الله) من طهران، وكان هذا يعمل ملحقاً ثقافياً للسفارة العراقية في ايران.

يتحدث براودي كواحد من أهل البيت والعارف بما يخبئونه وبما يجاهرون به، وهو الأعلم أن عبارة ملحق ثقافي تعني في العُرف الديبلوماسي العراقي (والعربي عامة) وكالة مخابرات مهمتها جمع المعلومات وإرسالها الى العاصمة بغداد؛ وهذه الديباجة التي درج عليها براودي أضفت على فصول الكتاب متعة القصّ، ومادة الكتاب (العراق اليوم) رغم شيوعها في كتب عديدة مرغوبة جداً من دور النشر حتى تكاد تكون كل الافكار فيها متشابهة والخلفيات واحدة وعلى وشك أن تصير مستهلكة، الاّ أن فرادة الكتاب، بعد الديباجة الملطفة، تبدأ مع الفصل الثالث وعنوانه "المَدرَج الصوتي الى العراق الحديث"، وهو تعبير غامض عن مصدر الموسيقى العراقية التي يجد فيها براودي علامة دالّة على "إمبريالية ثقافية عراقية" ستقف في وجه الثقافة الامريكية المحتلة وتحفظ للبلاد أصالتها. وقديماً قال فيلسوف الصين لاوتسو: "ما همّني مَن يضع قوانين الناس ما دمت أنا أضع أغانيهم".

ويتحدث عن عازف العود البارع نصير شمّة متسائلاً: "ترى من علّم نصير شمّة كيفية العزف على العود؟" ولا يقصد بسؤاله هذا بالتأكيد أستاذ العود في المعهد الموسيقي العراقي، بل السياقات الموسيقية عبر التاريخ والتي بدأت براعٍ في سهول أور عاصمة السومريين حين ثقب قصبة بردي ونفخ فيها صفيراً اعتادت غنماته سماعه والتجمع، ثم جرّب الامر على أقرانه الرعيان، حتى وصل الى أوجه على يد اسحق الموصلي، وزرياب الذي هاجر الى الاندلس وما زالت اصداء عوده تتردد في حانات اسبانيا وعلى وقع الفلامينكو، وفي عراق الامس القريب على يد الاخوين منير وجميل بشير. واليوم يحمل نصير شمّة كل هذا الارث ليصبّه في معزوفته المشهورة "ملجأ العامرية".

غير أن براودي يمضي أبعد من ذلك ويتحدث عن أصول توراتية للموسيقى العراقية ارتبطت بالسبي البابلي لليهود حيث يطلب اليهم "حكامهم البابليون" عزف ألحان لأغانٍ سعيدة قائلين لهم: "أنشدوا لنا أغنية عن القدس"، ولا يستمر تمنّع اليهود طويلاً ولا يصبرون على رؤية قيثاراتهم معلقة على صفصاف الفرات خرساء وسرعان ما ينخرطون في شؤون القوم، ويذكر لنا التاريخ أن الملك الفارسي كورش الذي استباح بابل عرض عليهم العودة الى أرضهم لكنهم رفضوا ذلك، ويبدو أن هذا الرفض كان لاسباب فنية.

المتتبع مسار الموسيقى والغناء العراقيين في العهد الملكي يجد أن الفرقة الموسيقية الواحدة والمعروفة بغدادياً بـ "الجالغي"، هي تماماً ما يمثل وحدة مصغرة لما يجب أن يكون عليه المجتمع العراقي. ويتحدث المؤلف عن مطرب العراق الاول آنذاك ناظم الغزالي وزوجته المطربة سليمة مراد، هو مسلم سنّي وهي يهودية عراقية؛ وعازف العود، الشاب الواعد، منير بشير المولود من أب مسيحي (آشوري) وأم كردية والعازفان الشقيقان صالح وداود الكويتي اليهوديان اللذان تمتد جذور وجودهما في العراق الى ألفي عام، وكانا يؤلفان الاغاني ويضعان لها الالحان ليغنيها المطرب حضيري أبو عزيز وهو مسلم شيعي من الجنوب وما زال العراقيون الى اليوم يرددون هذه الاغاني. بل شهد العراق في تلك الحقبة وجود قائمقام (محافظ) كردي للبصرة (العربية) وآخر عربي للسليمانية (محافظة كردية الآن)، ورئيس وزراء تركماني، الى أن جاء عهد الجمهورية كأنها قنبلة ألقاها معتوه ليدمّر هذه الفسيفساء الفنية والسياسية، ثم حلّت القومية العربية التي لفّقت أمّة تخلط بين الصومالي واللبناني والعراقي والجيبوتي تحت شعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وبذلك افتضحت هوية ذلك المعتوه.

في القسم الثاني من الكتاب تحت عنوان "السلطة" ويبدأ بالفصل الرابع، يعرض المؤلف لمسيرة حزب "البعث" في العراق وبروز صدام حسين رجلا أوحد تتجمع في يده كل السلطات، وأظن أنّ القارئ بات على دراية اليوم بأفعال هذا الرجل، وليس القراء وحدهم، بل المدمنون متابعة الاخبار وما تنقله عن اكتشاف مقبرة جماعية هنا او هناك في العراق، حتى بلغت خمسمئة مقبرة (أستثني من القراء ومدمني التلفزيون اولئك الذين قبضوا من صدام ونظامه بونات البترول عندما كان هذا السائل يقايض بالغذاء والدواء لأطفال العراق، فكانوا يحوّلونه الى حساباتهم المصرفية، فهم بسقوط صدام فقدوا معيلهم!). ورغم ما في الامر من مرارة الا ان الحديث عنه اضحى مملاً حقا وعافته النفس.

بيد أن لجوزف براودي فرادة أخرى في هذا الشأن إذ يولي الجانب التهكمي الذي يبدأ عادة في الظهور لدى الشعوب المحكومة بطاغية مثل صدام، أهمية تضفي على المادة طراوة وحيوية، ونعلم أن المصريين كانوا السبّاقين في هذا المجال منذ أيام الحاكم الفاطمي (الحاكم بأمر الله)، وتوّج عهد عبد الناصر ابداعهم في فن التهكم. واعتقد ان الامر في حاجة الى اكثر من بحث في طبيعة الشعوب التي تمارس هذا الفن ويمارس عليها الطغيان، وربما توصلنا يوما الى القول: "قل لي ما الذي يضحكك، اقل لك من انت". انها وسيلة للانتقام من طاغية لم يجد الشعب الرازح تحت حكمه طريقة أخرى للتخلص منه؛ وفي حالة العراقيين ثمة اكثر من عشر محاولات لاغتياله، وربما اكثر، ولم تفلح، حتى قيل إن له اشباها يرسلهم الى الاماكن التي يشعر انها تثير ريبته. وثمة كتب كثيرة تحدثت عنهم وظلت بلا دليل ملموس ولا احد يعرف الحقيقة.

وما يعنينا من أمر الطاغية هو التهكم بالنكتة المحكمة. ويروي براودي اكثر من واحدة عمت الشارع العراقي وتناقلتها الناس عن ايام الحصار وصعوبة سفر العراقي الى الخارج، أنّ بائع بليلة وقف بعربته أمام قصر صدام وأزعجه بالصياح مناديا على بضاعته فأمر حراسه بأن يتخلصوا من بائع البليلة (واسمها بالعراقي اللبلبي) وأن يلقوا به خارج العراق ففعلوا ذلك. وفي صباح اليوم التالي صحا صدام على وجود خمسة ملايين بائع بليلة ينادون بأعلى أصواتهم!

تستمر فصول الكتاب في وتيرة "عراقية" واحدة، ويتعدى كثيرا الموسيقى كعنصر موحد لأطياف المجتمع العراقي وهو الغني بتنوع موسيقاه. ويتعدى التهكم والنكتة كوسيلتين للانتقام من الطاغية الى "فن" يرخي ما تشنج من الاعصاب ويمنح التهكم جانبا جدليا، مثلما هو حاصل لدى الانكليز مثلا، يرتقي بالسخرية لتكون اداة نقد غير جارحة يستخدمها الشعب للترويح عن نفسه. ويستخدمها السياسي للنيل من خصومه في المناظرات التلفزيونية ابان الانتخابات ويستخدمها العسكري للتخفيف من غلواء الاوامر، وهكذا تصير عنوانا حضاريا لتطور هذا الشعب او تلك الامة، كما يحصل بين الفرنسيين والانكليز مثلا، بلا ضغينة ولا طاغية. يتعدى كتاب براودي كل ذلك، على اهميته وفرادته، الى البحوث التي تناولت الشأن العراقي بعد سقوط صدام، ليضع خطة متكاملة لاعادة هيكلة الجيش (رغم انني شخصيا افضل الغاءه او تحويله الى قطاع مفيد اكثر كشرطة سياحية او ما شابه، بل افضل الغاءه في كل دول العالم الثالث بسبب الموازنة المرهقة التي تحمّل الشعوب ارهاقا فوق ارهاقها). ولعل اليابان في هذا المجال مثالا يحتذى، الا ان الفرق شاسع بين بول بريمر الذي حل الجيش وقوى الامن والمخابرات العراقية وغادر العراق في ليلة "ما فيها ضو قمر"، وماك آرثر الجنرال الذي حكم اليابان اثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، فآرثر لم يكن عسكريا محنكا وقائدا فذا فحسب، بل كان مصلحاً اجتماعيا ايضا عرف كيف يدير البلاد ويقنع الامة اليابانية بعدم الوهة الامبراطور. ورسخ قواعد صحيحة لبناء دولة ديموقراطية هي الاولى في العالم اليوم بلا جيش ولا طاغية.

المتأمل في "تفاؤل" جوزف براودي بعين، وبأخرى في ما يدور في العراق اليوم، يخرج بصورة يكاد طرفا نقيضها يشكلان مشهدي الحاضر (بكل بؤسه) والمستقبل (بكل تفاؤله) غير انهما يتممان احدهما الآخر، او ان الاول يدلل (ولا يصوغ!) على ما سيكون عليه الثاني، فالقسوة التي تمارس اليوم في بشاعة واجرام ما هي الا حالة هلع مريع اصابت القائمين عليها خوفا، او منعا كما يتوهمون لما هو مقبل على العراق من مستقبل. وفي التفاتة بسيطة الى تركيبة هؤلاء القائمين على اعمال الخطف والذبح وارسال سيارات الموت ضد ابرياء باحثين عن لقمة العيش وهوية موجهيهم مكشوفة للملأ واهدافهم معروفة (بن لادن، الزرقاوي، انظمة الحكم في دول الجوار، مرتكبو مجازر المقابر الجماعية في العراق) سيتعرف في سهولة الى صورة المستقبل الذي ينتظر العراق مما أصابهم بالهلع.

العراقيون، ومعهم كل الشعوب التائقة الى الانعتاق من الطغاة والاحتلال معا، في حاجة الى محبين مخلصين امثال براودي لا الى حاقدين يؤلبون شعبا من بناة الحضارة بعضه ضد بعضه الآخر.

(حاكم مردان- عن "النهار")

* صدر لدى "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، 2004.

التعليقات