31/10/2010 - 11:02

فيروز تستاهل كل هذا التعب

-

فيروز تستاهل كل هذا التعب
لكن، قبل أن نتحدث عن فيروز وعن مسرحية "صح النوم" المستجدّة، سنذهب بكم كلّ الطريق إلى الجامعة الأهلية الأردنية، حيث عرضت المسرحية، وسنستهل طريق الآلام من المعبر الحدودي بين إسرائيل والأردن.

فمنذ ساعات الصباح الباكرة، تقاطرت السيارات والحافلات إلى المعبر الذي يفتح أبوابه يوم الجمعة في الثامنة صباحًا. حيث وقفت السيارات الخصوصية في صف بلغ طوله مئات الأمتار، إلى أن جاء بوّاب المرآب، وهو "ختيار" متقاعد من عمله الأصلي على ما يبدو، حركته ثقيلة حتى أن تشغيله للكمبيوتر استغرق مدّة عشر دقائق في أحسن التقديرات. لكنه، أخيرًا وبعد إلحاح وتذمّر من الناطرين، فتح البوابة وأدخل السيارات واحدة واحدة وبين كل واحدة وأخرى مسافة ثلاث إلى أربع دقائق.

لكن بعد أن عبرنا "لعنة" انتظار فتح المرآب، واجهتنا "لعنة" أخرى أقسى وأفدح.. فقد كانت بوابات الدخول إلى النقطة الإسرائيلية مغلقة، فانتظرنا في حرارة الأغوار نحو ساعة من الزمن وإلى أن فتح الموظفون البوابات الموصدة ثلاث دقائق بعد الثامنة كانت كفيلة بتحفيز الغضب لدينا إلى درجة الغليان، لكن أحدًا لم ينبس ببنت شفة، بل إن البعض فضّل أن يسكت ويأكل هوا على أن يفتح سجالا مع الموظفين الإثنين، موظف وموظفة فقط، الأمر الذي كان كفيلاً بإعاقة طابور الناطرين دقائق أخرى بالتأكيد.

كان الضغط شديدًا على الموظفين في قسم فحص الجوازات الذين عجزوا عن احتواء حشود الحجيج إلى فيروز. لكن، وبلا طول سيرة وبعد معاناة شديدة من الوقوف والانتظار، خرجنا إلى محطة الباصات في انتظار الباص الذي سيقلنا إلى الناحية الأردنية.. وهناك كانت "أم اللعنات"، حيث تواجدت في المكان المظلّل سحب من الذباب الأزرق بكميات لا يمكن السيطرة عليها. وهذا النوع من الذباب لا يكتفي بأن يحط على الرأس أو الذراع أو أي مكان يختاره، بل إنه يقرص أو يعض ليتسبب بآلام مضافة إلى القرف الذي تبعثه قذارته. لكن لم تكن بيدنا أية حيلة، فقد انتظرنا الباص مدّة ثلاثة أرباع الساعة في الاختناق والحرّ والذباب الأزرق الذي توغّلت منه اثنتان إلى داخل أذني اليسار، لا أدري لماذا فقد غسلتها، على حدّ علمي، جيدًا.

في الجانب الأردني، كان الوضع أيسر كثيرًا.. حيث أن الأردنيين سهّلوا أمر العبور ولم يدققوا كثيرًا في التفتيش. كما إن سيارات الأجرة كانت متوفرة وجاهزة لنقل الجموع المتدفقة، فلم ينتظر أحد ولا حتى دقيقة واحدة.. لكن الطريق ما بين المعبر وعمان كانت صعبة ومخيفة، حيث أن أعمالا لتصليح أو توسيع الشارع كانت جارية على قدم وساق في مقاطع كثيرة من الطريق، الأمر الذي لم يمنع السائقين من تخفيف السرعة، فكانت سياراتهم تقفز قفزا من حفرة إلى أخرى ومن مطبّ إلى آخر كأنهم يخشون أن تضيع "الرزقة" عليهم فلا يتبقى لهم وقت للعودة إلى المعبر وإلى زبون جديد يدفع 25 دينارًا.

كان الخوف لدى الجميع كبيرًا، حيث كان لسان الحال، لدى كل من قابلناه أو التقيناه، قصدًا أم صدفة، أن أحدنا دفع مقابل البطاقة الواحدة 175 دولارًا، و 150 دولارًا عن ليلتين في الفندق، وعبر مسارًا جهنميّا منذ أن وصل المعبر وحتى خروجه منه، فهل بعد كل ذلك ستسعدنا جارة القمر، أم أنها عجزت وضعف صوتها، وعندها ستكون الخيبة الكبرى.. وبكلمات مبسّطة أكثر، كان هنالك لدى الجميع تساؤل ما إذا كانت شجرة الأرز الشامخة ما فتئت شامخة أم أن السوس قد نخر لبّها.. هل فيروز ما زالت فيروزا أم لم يتبقّ منها إلا الإسم؟..

لم يتصور أحد منّا أن "أم اللعنات" ما زالت أمامنا، فقد أخبرنا المنظمون أن نكون جاهزين في باحة الفندق في الساعة الخامسة تمامًا حيث سيحضر الباص الذي سيقلنا إلى الجامعة الأهلية، "ألأرينا"، مكان عرض المسرحية. ولقد جاءت الباصات فعلاً في الوقت المحدّد، وبلغنا الحرم الجامعي في السادسة إلا ربعًا لنجد نحو ألف وخمسمائة شخص قد سبقونا فتجمّعوا أمام بوابة حديدية مغلقة.

كانت البوابات مقفلة تمامًا أمام الحشد المتدافع. ولقد أنيط ببعض "القبضايات" الشباب مفتولي العضلات أمر فتح البوابات لدخول الناس، ولا ندري هنا ما إذا كان "القبضايات" قد تلقّوا تعليمات بموعد فتح البوابات وكيفية التصرّف مع المنتظرين الذي جاء فظّا ومهينا ودون أية اعتبارات إنسانية. غير أن هؤلاء وقفوا وراء البوابات ينظرون إلى الحشود تتراكم ويزداد تعدادها في كل دقيقة تمرّ، ما أدى إلى اكتظاظ غير محتمل، علما بأن نساء حوامل تكوّرن وصغرت بطونهن إزاء ضغط هذه الجماهير التي بدأت تتدافع وتتذمّر، وكان هناك العجزة الذين لا يقوون على الوقوف.. لكن هذه الأمور لم تعن شيئا لهؤلاء القبضايات الذين استمرأوا تعذيب الناس لمدّة ساعة ونصف الساعة حتى "تكرّموا" ففتحوا بوابات هي أشبه بطاقات يدخل منها الواحد بشكل جانبي وينعصر السمين ويتقلّص حتى يعبرها.

الملاحظة الأخيرة، في هذا الصدد، أن المقاعد، الكراسي، لم تكن مرقّمة حتى يعرف كلّ مكانه. وهكذا فقد جلس كل واحد أينما ارتأى وطاب له، بل حجز عددًا من الأماكن إلى جانبه لأقارب وأصدقاء ومعارف. كما أن بعض الكراسي كانت مرصّعة بدبابيس هدّدت سراويل الجالسين.

غير أن الليلة الرحبانية جاءت استثنائية.. وكانت فيروز التي أطلت بثوبها القرنفلي ومظلتها التي، بحسب المسرحية، تقيها من البرد الآتي فهي سقفها أو بديل سقفها الذي سقط.. كانت عملاقة ورشيقة تطير كالفراشة أو النسمة، أو كأنها، كما قال جاري في المقعد المجاور، غيّرت أرقام عمرها من 72 إلى 27!..

أطلت فيروز شامخة كما عوّدتنا، فاستجدت الوالي، أنطوان كرباج المتجدّد البارع، الذي لا يفيق من نومه إلا عندما يصبح القمر بدرا. طلبت إليه أن يضع ختمه على طلبها ترخيص بناء سقف لها بعد أن سقط سقف بيتها.

وتحكي المسرحية حكاية الشعب والحاكم الأزلية، حيث الحاكم غبي وجائر حكمه ولا يعير العامة أدنى اهتمام، حيث ينحصر همّه في جمع الرشاوى والمال والنوم على ريش النعام غير آبه بما يحصل للناس وما يعترضهم من مشاكل.. فالمشاكل لا تحلّ إلا القليل منها ولمن أفلح في الوصول إلى الحاكم بالرشوة والواسطة.

ينام الوالي نومته المعهودة دون أن يوقّع بختمه على طلب قرنفل، فيروز، فتأتيه نائما وتغني له "يلا ينام يلا ينام" ليغرق في سبات عميق، فتسرق الختم وتختم طلبها كما تختم جميع طلبات المواطنين الأخرى، ما عدا طلب الكندرجي، برجس صليبا، وذلك لأنه لم يعد إليها حذاءها الذي وضعته لديه لتصليحه.

يرغي الوالي ويزبد إذ يعلم بأمر سرقة الختم. ويصل مستشاره، إيلي شويري - الذي لعب دور المرحوم نصري شمس الدين على أكمل وجه - إلى السارقة قرنفل بعد وشاية من الكندرجي.. فيقرر الوالي ترحيلها إلى المجهول من خلال ربطها وتركيبها على فرس وحشية تهيم بها إلى جهة غير معلومة، وذلك برغم استجداء الأهالي من الوالي أن يعفو عنها كونها نصرتهم وحلّت مشاكلهم.

لكن الوالي لا يستطيع أن ينفّذ حكمه كونه لا يملك الختم الذي ضاع، والذي ألقته قرنفل في البئر. وهنا، تحاول قرنفل أن تنقذ جلدها من العقاب، فتقترح على الوالي أن تأتي بالختم.. ويربطها الناس بحبل فترمي بنفسها في البئر فيما الناس يمسكون طرف الحبل لنجدتها وقت الحاجة ومن ثم سحبها حين تعطي الإشارة، وتعثر قرنفل على الختم الذي طفا على سطح الماء "لأنو من خشب مثل دولتنا".. وتقدّمه إلى الوالي، وتعتزّ بعد ذلك بأنها استطاعت أن تجلب السعادة للناس، "رميت السعادة للناس.. زهّرت بإيدي"..

وأخيرا، فإن "صح النوم"، التي حملت الطابع السياسي كما كل أعمال الرحابنة، جاءت، بعد نحو سبع وثلاثين سنة على عرضها الأول، الأكثر تجرّدا وخدمة للنص المسرحي من بين المسرحيات الرحبانية الأخرى. وقد نؤكّد أن زياد الرحباني الذي أعاد تسجيل المسرحية كاملة، عزفا وغناء وحوارًا، استطاع أن يحافظ على قوة النص وشموليته. علما أن لمساته بدت واضحة على طول المسرحية وعرضها، غناء ورقصا وتمثيلاً.

بقي أن نشير إلى أن المسرحية عرضت للمرة الأولى في البيكاديللي العام 1970 وكذلك في مهرجان دمشق من العام ذاته.. إلا أن عرضها توقّف لوفاة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.. ثم عرضت للمرة الثانية في العام 2006 في مهرجان بعلبك، لليلة واحدة فقط، ثم توقفت بسبب العدوان الإسرائيلي في حرب لبنان الثانية، ثم، لكأنه اكتمال للدائرة، عرضت في البيكاديللي مؤخّرا، قبل أن تصل إلى عرضيها الإثنين، يومي الجمعة والسبت الفائتين على مسرح الأرينا في العاصمة الأردنية أمام جمع بلغ تعداده نحو خمسة آلاف للعرض الواحد، جلّهم من فلسطينيي "الداخل"، عرب 48 الذين عادوا إلى بلداتهم وإلى روتين حياتهم ولسان حالهم يقول، فيروز بتستاهل كل هذا التعب.

وأخيرا، فإن "صح النوم"، التي حملت الطابع السياسي كما كل أعمال الرحابنة، جاءت، بعد نحو سبع وثلاثين سنة على عرضها الأول، الأكثر تجرّدا وخدمة للنص المسرحي من بين المسرحيات الرحبانية الأخرى. وقد نؤكّد أن زياد الرحباني الذي أعاد تسجيل المسرحية كاملة، عزفا وغناء وحوارًا، استطاع أن يحافظ على قوة النص وشموليته. علما أن لمساته بدت واضحة على طول المسرحية وعرضها، غناء ورقصا وتمثيلاً.

بقي أن نشير إلى أن المسرحية عرضت للمرة الأولى في البيكاديللي العام 1970 وكذلك في مهرجان دمشق من العام ذاته.. إلا أن عرضها توقّف لوفاة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.. ثم عرضت للمرة الثانية في العام 2006 في مهرجان بعلبك، لليلة واحدة فقط، ثم توقفت بسبب العدوان الإسرائيلي في حرب لبنان الثانية، ثم، لكأنه اكتمال للدائرة، عرضت في البيكاديللي مؤخّرا، قبل أن تصل إلى عرضيها الإثنين، يومي الجمعة والسبت الفائتين على مسرح الأرينا في العاصمة الأردنية أمام جمع بلغ تعداده نحو خمسة آلاف للعرض الواحد، جلّهم من فلسطينيي "الداخل"، عرب 48 الذين عادوا إلى بلداتهم وإلى روتين حياتهم ولسان حالهم يقول، فيروز بتستاهل كل هذا التعب.

التعليقات