مائة عام من الرواية النسائية العربية.. والرجل يراوح مكانه..!

-

مائة عام من الرواية النسائية العربية.. والرجل يراوح مكانه..!
يندرج كتاب الدكتورة بثينة شعبان "مائة عام من الرواية النسائية العربية" (منشورات دار الآداب بيروت 1999) ضمن قائمة الكتب القيّمة والمدروسة، والتي تكتب كي تسد نقصًا واضحًا في المكتبة العربية من ناحية التوثيق، وهو ما يدفعنا لعرض الكتاب هنا ، ليكون مادة متاحة للإتفاق مع أهميته، أو نقد ما جاء فيه من أفكار. فرغم وجود مقالات هنا وأخرى هناك إلا أنه لم تصدر باللغة العربية حتى اليوم دراسة شاملة تغطي الرواية النسائية العربية منذ أول رواية كتبت بالعربية وحتى اليوم، وتتناول الإنتاج الروائي النسائي العربي في جميع الأقطار العربية، ليكون عملاً عربيًا يرفض الحدود القُطرية التي يتبناها البعض في دراساتهم، ويكرّس وحدة المنشأ والهدف والمصير لهذا الأدب العربي العريق الذي يمثل أحد أهم سمات الوحدة بين الناطقين بالضاد.

وأول ما يميز هذه الدراسة هو أن الكاتبة لا تقارب الرواية النسائية العربية خجلي أو معتذرة كما درجت الكثيرات من بنات جنسها على القيام بهذا، ولا تأخذ بالمعايير التقليدية التي أصرّت -دون بحث أو تمحيص- أن المرأة تتعلم فنون الأدب من الرجل، وأن النادرات منهن قد يصلن إلى المنزلة التي وصل إليها هو. بل تقرأ إنتاج النساء العربيات وتكتشف أن المكانة الدونية التي نسبت إليهن في الأدب ناتجة عن جهل أو تمييز النقاد، أو تمييز لا شعوري والذي هو في النهاية أسوأ أنواع التمييز وأكثرها استعصاء على التغيير.

تبدأ بثينة شعبان كتابها بمحاولة إجراء مسح للتهميش الذي أصاب شعر المرأة وأدب المرأة منذ الجاهلية وفجر الإسلام. وترى -استنادًا إلى المصادر الواردة في الدراسة- أن نسبة كبيرة من شعر النساء لم يسجل أصلاً، وما سجل منه كان بسيطًا ويعالج مسألتي الرثاء والحب العذري أحيانًا، ولكن بعض ما صادفته أيدي الباحثين من نماذج شعرية نسائية ترى أن اهتمامات المرأة كانت أشمل وأعمق مما تم ادعاؤه من قِبَل مَن كانوا قائمين على اختيار نماذج شعرية نسائية، وإدراجها في الموسوعات الأدبية وكأنها الإنتاج الأدبي الوحيد. وترى المصادر التي راجعتها المؤلفة أن أغلبية الشعر الذي كتبته النساء العربيات ضاع أو فقد، وقد يكون من المتعذر على أي باحث بعد اليوم إنقاذه.

ولولا هذا الجهد المضني الذي استغرق منها عشر سنوات، والذي قامت به بثينة شعبان خلال عقد التسعينات بأكمله، لربما كان مصير المرأة في الرواية العربية مشابهًا لمصيرها في الشعر العربي. إذ أن جميع المدارس العربية وفي كافة أنحاء الوطن العربي تدرس أن الرواية العربية الأولى في الأدب العربي هي رواية زينب لـ "حسـين هيكل" الصادرة عام 1914، ولكن بثينة شعبان تبرهن في الفصل الثاني من الكتاب وبما لا يقبل الشك أن الرواية العربية الأولى هي رواية "حسن العواقب" أو "غادة الزهراء" للكاتبة اللبنانية "زينب فواز" وأن هذه الرواية قد نشرت عام 1899، أي قبل خمسة عشر عامًا من صدور رواية "زينب" لحسين هيكل، وبالإضافة إلى رواية "حسن العواقب" لـ "زينب فواز"، صدرت رواية "قلب الرجل" للكاتبة "لبيبة هاشم"، "وحسناء سالونيك" للكاتبة "لبيبة ميخائيل صوايا"، وأكثر من ست روايات للكاتبة "عفيفة كرم" من أشهرها "بديعة وفؤاد" و"غادة عمشيت"، وكل هذه الروايات صدرت قبل صدور رواية "زينب" لحسين هيكل عام 1914، وبهذا يصبح من المتوجب على الجهات المعنية أن تأخذ نتاج هذا البحث بعين الاعتبار وتعيد صياغة ما يدرَّس لتلاميذ وطلاب المدارس عن نشأة الرواية العربية وأصولها.

كما تتحدى بثينة شعبان المقولة الدارجة بأن سبب إهمال أدب المرأة هو عدم ارتقائه إلى مستوى الهمّ العام، وتثبت من خلال أعمال روائية نسائية شتى أن المرأة العربية مغروسة بعمق في هموم وطنها ومجتمعها، وأنها قادت المظاهرات ضد الاحتلال الأجنبي وتقسيم فلسطين تمامًا كما ناهضت التقاليد والقوانين التي تنتقص من حق المرأة وكرامتها. ولكن سبب كيل هذه التهمة لأعمال النساء هو أنّ رؤية المرأة للمشاكل الاجتماعية والسياسية وحلولها المقترحة كانت تختلف في الكثير من المواقع والأوجه عن رؤية الرجل وحلوله المقترحة، وبما أن الرجال يشكلون التيار العام في الأدب والسياسة على حدّ سواء فقد تمّ تجاهل نظرة النساء ومواقفهن.

يتابع الكتاب في فصوله التسعة الرواية النسائية العربية منذ ولادتها، ويتخذ منهجي الزمن والموضوع دليلاً لتصنيفه وترتيب مادة ضخمة ومكثفة.

فالفصل الأول: يستعرض تاريخ تهميش الكتابات النسائية منذ عصر ما قبل الإسلام، وكيف أن إهمال ما تكتبه النساء أمر يبدو طبيعيًا بل وبدهيًا للجميع، بل قد لا يفكر البعض بأهمية توثيقه أو دراسته، ليس عن تعصب ضد المرأة، ولكن ببساطة لأن الموضوع لم يخطر لهم على بال.

وفي الفصل الثاني: تبرهن بثينة شعبان على أن إسهام المرأة يفوق إسهام الرجل بكثير في تأسيس الرواية العربية، وتأسيس الكثير من التوجهات الفكرية والعناصر الفنية التي شكلت فيما بعد تواؤم الرؤية العربية. وفي هذا الفصل بالذات تغيّر بثينة شعبان فكرتنا عن تاريخ الرواية العربية، وتؤرخ مساهمات المرأة الهامة في هذا الصدد. ومن ثم تدرس روايات عربية من أقطار عربية مختلفة منذ مطلع هذا القرن وحتى يومنا هذا.

ويبرز في هذا السبر الشامل والعميق الفصلان الخامس والسادس اللذان يعالجان الروايات النسائية قبيل حرب 1967، ومن ثم روايات الحرب النسائية بشكل عام حيث تحاول الكاتبة أن تغيّر تعريف أدب الحرب الدارج كي يحتضن الإنتاج الجديد والجميل والمختلف للنساء، ففي الوقت الذي درج فيه البعض على تعريف أدب الحرب بأنه الأدب الذي يصف الأحداث على خط النار، ويتعامل مع تفاصيل المعارك والقتل والدماء ترى بثينة شعبان أن المرأة قد كتبت عن الآثار الاجتماعية والنفسية للحرب ووصفت تأثير الحرب والدمار على النفس الإنسانية، والعلاقات الأسرية والروابط الاجتماعية والدينية والانتماءات السياسية، وبهذا فقد وسَّعت المرأة الكاتبة مفهوم أدب الحرب، وعمَّقته وجعلته أكثر ارتباطًا بحياة النساء بما فيها من حزن وفرح وتشوه ومآسٍ ونكبات، وبهذا يصبح أدب الحرب أقل مباشرة وأبعد أثرًا في حياة الناس وتفكيرهم.

وتتغير لهجة بثينة شعبان مع التغيير الذي طرأ على إنتاج النساء الأدبي، والذي أصبح أكثر شعبية وأبعد أثرًا في الحركة الأدبية العربية؛ بحيث أخذت النساء العربيات منذ السبعينات يكتبن بثقة، ويسبرن أغوار الذات في محاولة للوصول إلى العالمية. إنها الثقة بالنفس، والتخلص من ترسُّبات الماضي، ومحاولات إثبات الذات أو التشابه أو المساواة. وأخذت الروائيات العربيات في الثمانينات والتسعينات ينلن الجوائز، ويخترقن السوق الأساسية للكتاب، ويصبحن موضوع دراسة نقاد كبار في ملتقيات أدبية، بينما لم يكن هذا الحدث أبدًا منذ عقدين من الزمن.

ولهذا فإن الدكتور "محيي الدين صبحي" قد عبَّر خير تعبير عن طبيعة وأهمية هذا الكتاب حين قال في المقدمة:

إن هذا الكتاب ليس موسوعة عن الرواية النسوية العربية فقط، وإنما تاريخ للوعي النسائي العربي بالفن والمجتمع؛ لهذا تحسّ وأنت تقرؤه بتفتح الوعي واتساعه وتطور الفن وتعقده، وتحس بالرواية العربية تنمو وتتفتح وتتقدم على كل المستويات.

يسجل هذا الكتاب نقطة تحول في تأريخ الأدب العربي المعاصر، ويكمل نظرتنا إلى الرواية العربية شريطة أن نجد سفرًا مماثلاً له في دراسة الرواية التي كتبها الرجال، ففيما أعلم لا يوجد كتاب شامل كهذا في ذلك الموضوع.

(مائة عام من الرواية النسائية العربية، تأليف د. بثينة شعبان منشورات دار الآداب، بيروت، تقديم محيي الدين صبحي والغلاف لنجاح طال)


"وحيد تاجا"
دمشق

التعليقات