"أنا من دولة اليهود.."

-

في تلك الفترة انقلب لساني، وبحلول شهر تموز التصق بسقف حلقي، ثم بدأ يتزحلق بعيدا على صفحة الحلق حتى وصل إلى النطق العربي. وبينما كنت أسير في الشارع، ارتد إلي النطق العربي الذي كان يتلفظ به جدي أنور، عليه السلام، وكم حاولت أن أنتزعه من داخلي، وألقي به في واحدة من سلال القمامة العامة لكن دون جدوى. حاولت مخلصا أن أنطق حرف العين، همزة خفيفة مثل أمي، التي فعلت ذلك، في صباها، تفاديا لغضب المدرسين ونظرات التلاميذ الساخرة، لكن الغرباء الذين يمرون في الطريق ثبتوني في مكاني، حاولت أن أخفف حرف الحاء، وأنطقه خاء، حاولت أن أتصنع مسافة بين السين والصاد. جربت الهروب من هذه القاف العراقية. لكن لم تنجح محاولاتي. وبدأ رجال شرطة يكسو الحزم ملامحهم يمرون أمامي في شوارع "أورشليم"، أشاروا إليَ، وإلى لحيتي السوداء بأصابع متوعدة، تهامسوا فيما بينهم داخل "سيارات الدورية"، وبدءوا في إلقاء القبض علي، وسؤالي عن اسمي، وهويتي. أما أنا فكنت أريد أن أستوقف كل شرطي يمر أمامي، وأُشهر في وجهه بطاقة الهوية، مشيرا إلى خانة "القومية"، وأقول لهم، وكأنني أبوح بسر سينقذني من ذنب عظيم: "أنا من اليهود، أنا من اليهود".

لكن بطاقة الهوية اختفت فجأة، اختفت في اللحظة التي كنت في أمس الحاجة إليها. وبدأ رجال الشرطة يعتقلونني صباحا ومساء، ولا يوجد في محفظتي شهادة واحدة ترضى الدفاع عني. في البيت، كنت أجد بطاقة الهوية مطوية بين وصلين، وأنظر إلى جيبي، لأكتشف أن رخصة القيادة تطل من المحفظة وكأنني كنت على وشك إخراجها لأمر ما، وفي الحقيبة التي أحملها على ظهري وجدت شهادة خدمة الاحتياط مختبئة بين كومة من الوثائق، وكأنني نسيتها هناك بلا قصد. لكن عندما تسمر رجال الشرطة أمامي، لم أعثر على شهادة أو ورقة واحدة تروي لهم عن ماضيي ومستقبلي. ساعتها، كنت أشرع في استخدام الهاتف، أقول للشرطي، اسمع، أمس فقط تبدلت لكنتي وصارت أشبه باللغة العربية، أصبح لساني ثقيلا، لكنها ليست لكنة فلسطينية، إنها عراقية، وعموما ربما كان جدك يتحدث بلكنة مشابهة للكنتي، اسمع، سأتصل، حالا، بأصدقائي، وستسمع بنفسك طريقة نطقهم الرائعة، أنهم يتحدثون العبرية كما يجب أن تكون، بدون أي لكنة، وإذا كانوا هؤلاء هم أصدقائي فلك أن تتخيل من أكون.

لكن أصدقائي الاشكنازيم لم يردوا علي أبدا، لم يستجيبوا لجرس تليفوني المتوسل، كانوا يعاودون الاتصال بي في المساء، أو صباح اليوم التالي، يسألونني ماذا كنت تريد، ويرفضون تمييز نبرة صوتي. وظللت أنا واقفا أمام رجال الشرطة بمفردي، فشرعت أتصل بأصدقائي التونسيين والحلبيين والطرابلسيين، وأردد في نفسي ربما لا ينطق هؤلاء العبرية الأنقى، ليست العبرية كما يجب أن تكون، لكنها على كل حال أفضل من العبرية التي أنطقها الآن. والحق، أنهم كانوا يردون فورا، لم يتلكئوا في الاستجابة لجرس تليفوني، لكن المفاجأة أن لهجتهم جاءت عربية ثقيلة جدا، كما أنهم سمعوا على الطرف الأخر صوتا متعثرا وكأنه نغمة شاذة عنيدة. كانوا يردون على تحيتي (بالعامية المتأثرة بالعربية):"أهلا بيك".."يا حبيبي"، ويسألونني "إيش لونك"، ويودعونني بـ"سلامتك". ماذا يفعل رجال الشرطة، بعد أن أضاعني أصدقائي؟ كيف يصدقون أنني ابن يعقوب، ولست من أبناء إسماعيل؟

شرعوا في تفتيشي ببطء، نبشوا ملابسي، عبروا على صفحة جسدي بكاشف المعادن، جردوني من ثيابي في صمت لا تخدشه كلمات أو إيحاءات. فتشوا أسفل طبقات جلدي عن حقدي الدفين، ركضوا بأقصى سرعة وراء الأحزمة الناسفة، الأحزمة الناسفة التي في قلبي، ويفرحون كلما حيَدوا رغبة مشبوهة بداخلي. اقترب رجال الشرطة مني أزواجا أزواجا، قال أحدهم لزميله بعدما طال وقت التفتيش، انظر أنه مختون، حقا يبدو يهوديا هذا العربي، رد عليه زميله: العرب أيضا يختنون ذكورهم، والأحزمة الناسفة ليست لها علاقة بالختان، ثم يواصلون التفتيش. والحقيقة أنني في تلك اللحظة التي أسلمت لهم فيها جسدي، بدأت تلتف حول قلبي أحزمة ناسفة تورمت وانتفخت ورفضت أن يبطل مفعولهاـ أخذت تزأر وتزأر. لكن لأنها لم تكن مصنوعة من الصلب، أو البارود، أفلحت في التملص من أجهزة كشف المعادن.

أخيرا، عندما كان رجال الشرطة يتركونني وشأني طليقا، لكن لست بريئا، كنت أواصل طريقي وأسير في شارع "ماركوس" المؤدي لتياترو "أورشليم" مرورا بمبنى القنصلية البلجيكية الفخم، والميدان الفسيح المطل على شارع جابوتونسكي. كنت ذاهبا لمشاهدة فيلما أمريكيا حاصلا على عدة جوائز أوسكار، لكن فجأة لم يكن هناك تياترو في نهاية الشارع، وفجأة لم يكن هذا شارع "ماركوس"، كان شارعا يحمل اسما عربيا، والبيوت عادت لتكون عربية، حتى القنصلية البلجيكية، والناس في الشوارع، والعائلات..العائلات نفسها أصبحت عربية، ليسوا مجرد شبان يعملون في "المعمار"، ليسوا مجرد جامعي قمامة، أو عمال يرممون واجهات المباني.


(2)

ذهبت لأتجول في شارع "كاتمون"، وشوارع تلابيا، والبقعة، وبدلا من أن أرى أثرياء "أورشليم" يجلسون في البيوت الرحبة، وبدلا من أقرأ أسماء الشوارع العبرية: "غزاة كاتمون"، و"الهابطون من السفينة"، رأيت هناك مجددا وجهاء فلسطين، كانوا هناك كما كانوا قبل حرب 48، كما لو أن هذه الحرب لم تحدث مطلقا. أراهم يسيرون في الميادين بين الأشجار المزهرة..يقطفون الثمار، وكأن الصحف لم تحذرهم من التسبب في ذبولها، لأن الأرض ستمتلئ باللاجئين. وبدا وكأن الزمن قد سار باتجاه تاريخ مغاير، مختلف، وتذكرت أنني سألت أمي لماذا نتحدث كثيرا عن التاريخ، كفانا تاريخا، يكفينا ما حدث لنا من التاريخ، هذا التاريخ يكبلني، يكبلك، لا يترك لي شيئا، ولا يترك لك شيئا.

حقا، لقد تجمدنا في تاريخنا، لكن ها هو التاريخ يسير للحظة في اتجاه مختلف. وأصبحت أنا أتجول في شوارع وجهاء فلسطين، وفكرت أنهم ربما يعاملونني باحترام، على عكس رجال الشرطة، وتمنيت أن أحكي لهم كم قرأت عن الأديب والمربي "خليل السكاكيني"، وكم وددت أن أصادق أحفاده، كنت أسير بينهم، أقترب من الأفنية لكن لم أستطع الذوبان فيهم، فبحوزتي فقط العبرية بلكنة عربية، أما لغتي العربية، التي لم أتعلمها في البيت، ولكن تعلمتها في الجيش، أصبحت فجأة خرساء، مخنوقة في حلقي، تلعن نفسها دون أن تصدر أنينا، تتشنج في الهواء المحتبس بين الأنفاس، تختبئ عن أنظار أفراد أسرتي خلف ستار اللغة العبرية. وكلما حاولت أن أتحدث إليهم ببعض الكلمات العربية القليلة، المتلعثمة التي تعلمتها، كانت تخرج من فمي عبرية بلكنة عربية، حتى ظنوا أنني أسخر منهم، ولولا أن لكنتي بدت عراقية جدا، لولا هذا فقط، لتأكدوا أنني استهزئ بهم.

لكن هذه اللكنة حيرتهم، ظنوا أنني أسخر من العراقيين، والصدام حسينيين، أو ربما أنا عراقي قديم، ضاعت لغته، وبقيت لكنته. لم أكون صداقات هناك، رغم رغبتي، وتذكرت أنني سمعت عماً لي يقول ذات مرة أن هؤلاء العرب المقيمين في أحياء القدس الموسرة "أفندية"، يرتدون بذلا غربية ويعتمرون الطربوش، وساعتها وقعت كلمة "أفندي" على أذني مشحونة بالسخرية والاحتقار، رغم أنني أستطيع أن أتذكر جيدا الآن، أنه لم يقصد ذلك، لكنني سمعت فيها نبرة احتقار، وكأنني أحد جنود "البالماح" ينتعل صندلا، ويرتدي بنطالا قصيرا، ويسخر من الإقطاعيين العرب، ويمتدح اشتراكيته المقدسة، التي يؤمن بها كل الصهاينة. قال لي عمي: هؤلاء أفندية، تعبيرا عن احترامه، لكن راحت مني لغتهم، وهم لا يعرفون لغتي، وفصلت بيننا أنظمة الحكم، والمسافات الزمنية للأجيال.

في طريق عودتي للبيت، لم يستقبل لكنتي جيدا سوى سائقي الحافلات، فهم يدركون صعوبة توقع لكنة كل راكب يصعد إلى الحافلة في القدس. ولم يدرِ قلبي أنني عدت إلى قلبي، لم يدر، ولم تدر مخاوفي أنها انقضت علي، لم تدر.


(3)

وهكذا صار صوتي كصوت جدي، وفجأة بدأت هذه الشوارع التي اعتادت موته، وغيابه، تسمع صوته من جديد. لقد خرج من داخلي هذا الصوت الجميل، الذي كان محبوسا في ماضيَ، خرج لا يطلب التكفير عن خطيئة، ولا يستجدي الفتات، إنه صوتي، صوت قوي ومرتفع. وشوارع "أورشليم" التي اعتادت صمته، وصمتنا، وجدت صعوبة بالغة أمام هذا الحديث، وراحت تكتم هذا الصوت، تسكته شيئا فشيئا، وتقول له احذر، وتقول لي احذر، تقول له أنت غريب عنا، وتقول لي يكفيك صمتك. وعلى الرغم من خوفي، وبالرغم من أن هذا الصوت كان غريبا علي أيضا، وداهمني بعد جيلين من الغفلة، إلا أنني رددت كل كلماتي بهذا الصوت، لأنني لم أتمكن من مواصلة الصمت، كان بداخلي كلام يريد أن يخرج، وكلماتي كانت تتغير لحظة خروجها من الحنجرة. والغرباء الذين لا يعرفونني ظنوا أنني حفيد مخلص، ولم يدركوا أن النسيان طغى على الذاكرة على مر السنين، لم يتصوروا إلى أي مدى انطمست ذاكرتي، وكم سنة مرت ولم تأتِ سيرة جدي على لساني.

عندما رجعت إلى البيت من جولتي الأولى في الشوارع بطريقة نطقي الجديدة، وبعد أن نبش رجال الشرطة في جسدي، اندهشت زوجتي من طريقة نطقي، وأثناء حديثها معي، ونصائحها بأن أكُف عن ذلك، بدأت تنتقل إليها مظاهر العدوى، وظهر على شفتيها خليط من نطق يمني ترجع أصوله لأبيها، ونطق اسطنبولي يرجع في أصوله لأمها. وبعد عدة أيام صارت تعود من عملها يوميا، لتروي لي عن المخاوف في أقسام الشركة من انتشار وباء معدي بين أفراد مكتبها، لقد بدأت طرق النطق القديمة تخرج للنور، بعد أن ظنوا كل الظن أنها اختفت. وخبر صغير في زاوية مهملة بإحدى الصحف الكبرى يكشف أن المسئولين الأمنيين يتحرون من الذي نقل عدوى طرق النطق المحظورة. وامتلأ المحيط بأصوات النواح على ضياع مجهود خمسين عام من التعليم الناجح، ونتيجة الخوف من امتلاء البلاد بالعرب، ستمتلئ البلاد بالكثير والكثير منهم، ولذلك قرروا أن يزودوا الإذاعة بقراء نشرة ينطقون لغة عبرية سليمة ومنمقة، حتى يضمنوا أن نشعر "نحن" بأننا غرباء بسبب طريقة نطقنا.

بعد قليل، أسرت لي زوجتي بصوت مرتجف، تارة تشعر أنه هابطا من الشمال من مضايق البوسفور، وتارة تشعر أنه صاعدا من الجنوب من خليج عدن، أن هذه العدوى أصابت الاشكنازيم أيضا. لكنها تنبأت أن إيقاع التغيير عندهم سيسير ببطء، لأن أولادهم المتغطرسين يظنون أن لكنات آبائهم وأجدادهم كانت في الأصل أمريكية، كما أن ذاكرتهم القريبة لا تصلهم بطرق النطق القديمة. لكن عما قريب سنسمع في الشوارع مجددا، اللكنة البولندية، والمجرية، والرومانية، والألمانية، والأوكرانية، وهذا سر رعب المسئولين عن الأمن، فهم خائفون فعلا، ساعتها، لن يجدوا قراء نشرة يرسلونهم إلى جنود الإذاعة، لن يجدوا معلمين يلقنون أبناءنا طريقة النطق السليم.

وعلى الرغم من تنبؤها بموجة عظيمة من التغييرات، فإن والديَ وقفا صامدين أمامي، وأمام موجات العدوى، مازالوا يتذكرون عدد السنين، وحجم المجهود الذي بذلوه في اكتساب طريقة نطق صافية، وبدءوا يدفعوني، بحزم، لأكف عن ذلك، ويذكرونني بمستقبلي الأكاديمي.

توسلوا إلي، لكن ماذا أفعل؟ كيف أستطيع أن أداري حنيني، وحنيني فجأة تجسد في هذا الصوت الغريب عني، وأنا أشعر بالضيق والأسى لأنه يصدر عني، لكني لا أستطيع أن أوقفه بقرار في لحظة واحدة.

إذا واصلت التحدث بهذه اللهجة، لن تحصل على المنحة الدراسية، قالها أبي، وكان صادقا. إذا لم تعد إلى لهجتنا السلسة فلتتحمل ما سيجري معك، قالتها أمي وكانت محقة، في كل محاضراتي كان الأساتذة مندهشين من طريقة نطقي، يحاولون أن يعثروا بداخلي على لكنة أخرى، تكون أكثر أكاديمية، وأكثر ملائمة للجو الجامعي، على الرغم من أن الكلمات كانت هي نفس الكلمات لكنها ثقيلة..غليظة. كيف ستواصل دراستك، إذا تحدثت بهذه الطريقة، قالوا لي، وترجوني، وألحوا علي، لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ هم يخافون فعلا على مستقبلي، لكنهم غير معنيين بسكينتي الداخلية المهدودة، ولا بجدران قلبي المنهارة، ولم يتمكنوا من مساعدتي، ولا رفعوا عني حكم القدر.

في تلك الأثناء تزايد قلقهم، لكني لم أصغ لحديثهم، أطبقت شفتي، وأصبحت أشعر أن لهجتهم غريبة عني، وصرت استمتع بمرور الأيام والشهور، وبنبوءات زوجتي تتحقق، وشوارع "أورشليم" تتغير أمام عيني، لكن أبي وأمي فقط تجمدا في مكانهما بلا أي تغيير. أطلعت زوجتي على "سري": "بدأت في كتابة قصتي لكن بالحروف العربية، سيشعر المسئولين بالصدمة مرة أخرى". عادت زوجتي بعد عدة أيام إلى البيت لتحكي لي أن رؤساءها ضحكوا من قلوبهم، وقالوا، فليكتب، ليكتب قصصا، هو وحده يستطيع قراءتها، لن يقرأها آباؤه، ولا أبناؤه، وكذلك أولادنا لن يتعرضوا للخطر. وسنمنحه، لو أراد، جميع الجوائز الحكومية في الأدب العربي، دون أن نقرأ كلمة مما كتبه.

صدق رؤساؤها بالطبع، وشرعت زوجتي تتنبأ بما سيحدث مستعينة بالأمثال التركية، تقول لي أمي كانت تردد هذا المثل، صحيح أنني لا أذكر كيف كانت تقوله بلغتها، لكنني أذكر طريقة نطقها. "إنها حلاوة روح"، همست بالمثل، ثم شرحته، إننا نعيش لحظات الاحتضار، لا لحظات البعث، وكبار المسئولين في الأجهزة الأمنية يعرفون ذلك، وقرروا أنه لا داع للقلق، سيكون شرط قبول الموظفين في المناصب هو إتقانهم للنطق العبري السليم، وعلى كل واحد أن يفكر مرتين حتى يوفر مصدر رزقه، ولقمة خبز يعيل بها أسرته، وبهذه الطريقة تعود اللغة العبرية المألوفة، وكأن شيئا لم يكن.


(4)

بدأت نبضات قلبي تنعكس على إيقاعات صوتي، تقول هذا صوتي، وهذا ليس صوتي، هذا حرف لام يخرج من فمي، وهذه "قاف" غريبة عني. وكنت أبطئ إيقاع أفكاري، لكي أفكر وأتأمل في أفكاري ذاتها، لكن لم يكن لدي وقت، فرحت أنثر الكلمات مع الرياح مثل ملح البحر الذي لا ينثره أحد، بالتأكيد، داخل البحر. وبدأ جدي يحادثني، ويسألني بصوتي هل هناك نهاية لهذه القصة؟ لماذا يختلط تاريخي بتاريخك، كيف تنتهك حياتك بهذه الطريقة، أنا "جيل الصحراء"، كيف تنهض وتعيدني للحياة، إنك الجيل الذي انتظرناه، انتظرنا ألا يفصل بين ماضيه وماضي آبائه، لأن ماضينا مؤلم جدا، لقد بقيت في الصحراء آكل الطيور الجوارح من أجلك أنت، حتى لا تذكرني، حتى لا تتألم مثلنا، كيف تعض بالنواجذ على كلماتي من جديد، وأين، في "أورشليم"، حيث لا توجد المقاهي، ولا نهر دجلة يشق المدينة إلى رحمين، أنا لم أمت في "أورشليم"، ولا في مسقط رأسي، لقد مت في الصحراء الفاصلة بينهما، صحراء الصمت.

يا حفيدي، أعد تقسيم قلبك، اجعله شُعبا شُعبا، وأنزلني في إحدى الشعب الخفية، وعش أنت في باقي الشعب. أو اعبر إلى شعبة الصمت، لأن التغيير الذي تظن أنه يحدث بسيط للغاية، ولو ظهرت لكنة مختلفة ماذا سيحدث، هل سأحيا من جديد، هل ستعيش أنت حياتي من جديد؟ كفاك ما حدث لك في الشوارع، اذهب إلى والديك، لن تقنعهم طريقة نطقي، أنهم يعرفونها جيدا، وسبق أن تمردوا عليها ألف مرة. ربما يزرع صمتك في قلوبهم خوف الحاضر من الماضي والمستقبل. لماذا لا تعرض عليهم قصتك، ربما يستفيقوا، قال لي جدي هذه الكلمات وهو تقريبا يستحلفني بكل الأموات.

بدأت أحصي أيام الصمت، يوما، أسبوعا، شهرا، حبست نفسي في البيت، لا أفتح فمي، لا أفتح نافذة، ولا يدخل الهواء غرفتي. واحتوى الصمت صوتي، كلمات كثيرة، أُسكتت. ولم أعد حاضرا، ولم أعد موجودا، ولم تعد هناك نهاية لقصتي، حتى بداية القصة نفسها تلاشت.

وبقيت صامتا فترات طويلة، حتى قال لي والديَ، تحدث، إذا لم تتحدث لن تحصل على منحة، كيف ستواصل تعليمك وماذا تفعل في مستقبلك، أين ابتسامتك، تحدث تحدث، بأية لكنة لأننا أصبحنا نخاف الصمت.

(5)

نهر دجلة لا يقسم مدينة القدس، وهدير مياهه لا يسكت الحدود المفروضة علينا، الحدود التي تفصل بيني وبين نفسي، لا أنا هنا ولا أنا هناك، لست شرقيا ولا غربيا، لست صوت الحاضر، ولا صوت الماضي، ماذا ستكون النهاية؟ أسير في الشوارع أبكما، شبه أصم، وهذه المرة ملامحي فقط هي التي تزعج رجال الشرطة، لحيتي الكثيفة فحسب، وإصراري ألا أخرج كلمة من فمي، ويمر شهر تموز مرة أخرى، ويحتضر بداخلي. على الرغم من الحر، أرتدي معطفا لأخفي الأحزمة الناسفة التي في قلبي. ونتيجة إخلاص رجال الشرطة لعملهم يقتادوني إلى المعتقل ويأتي والديَ في إثري، ليعرفا أين احتجز ابنهما؟.

ألتزم الصمت إزاء والدي، ماذا يستطيعا أن يفعلا معي؟ أنا صامت حتى في حضور والديَ، لكن بدأت أفسر لهم تفاصيل حكايتي التي أخفيتها، أشرت لهما، هنا كتبت عنك يا أمي، وكتبت هنا عنك يا أبي. هنا كتبت قصائد احتجاجية على اللغة العبرية، باللغة العبرية، أزيد من استخدام لغة الإشارة، لا يوجد لدي لغة أخرى استخدمها، من شدة الخزي لم تورثا لي شيئا. وهذا العصر يحرمني من إلقاء الشعر، فهم يحتشدون ضدي جماعات جماعات. يحتشدون ضدكم أيضا، واللغة التي فرضوا عليَ الحديث والتعبير بها، تحولتُ إلى ناي أجوف لا يتجاوب مع أنفاسها، كل ذلك لكي ننتج كلنا نغمة واحدة، صداها مبحوح، وننتحل لغة أخرى غير موجودة. والحقيقة أن القصة نفسها تكررت مرات ومرات. كم قصة في ذاكرتي، يا أمي كم قصة في ذاكرتي يا أبي، كم قصة في ذاكرة الإنسان، إنها نفس القصة يحاول كل مرة أن يرويها بكلمات مختلفة، كل مرة يحاول أن يفك شفرة القصة المستعصية على التفكيك، ألا تميزان قصتكما هنا؟! ومع كل ذلك لقد علمت الإجابة من صمتكما. الآن فقط حاولت أن أكتب القصة بالنطق العربي، لكن ما نتيجة ذلك، انظرا أين نقف. خذوا قصتي وأقرءوها، يا أمي، يا أبي، اقرءوا قصتي التي أخفيتها عنكما سنوات طويلة، فأنتما تعانيان نفس الشتات، نفس الصمت، نفس الشعور بالغربة بين القلب والجسد، بين التفكير والنطق، ربما تعرفان كيف يمكن حل هذه العقدة.

وفي أول كلام يصدر عن والديَ تنكرا إلي، قال أبي هذا ليس ابننا، وقالت أمي لم نربي هذه اللحية، وقالا في نفس واحد للمسئولين، كيف يكون ابننا، نحن لا ننطق بهذه الطريقة، لا يوجد من يرث منه هذا النطق، لا من أخوته، ولا من جده أنور الذي مات قبل ولادته، أنه ليس ولدنا. وألمحا لي في كلامهما، إذا لم تتحسن طريقة نطقك، سنعود إلى البيت محبطين للأبد، وإذا تحسن نطقك وتراجعت عن هذه القصص، وهذه اللكنة ، وهذا الصمت، وتحدثت بلغتنا، سنبقى هنا معك حتى يقضوا بخروجك حرا، أو يحكموا علينا جميعا. ولم يدرِ والدي أنني عدت إلى قلبهما، ولم يدروا أن كل مخاوفهم ارتدت إلي، لم يدروا.
مؤلف القصة هو "ألموج بهر"، شاب في أواخر العشرينات، قاص وشاعر، ومبدع يهودي من أصول عراقية، صاحب ثقافة عربية متينة. وبالرغم من أنه أحد أبناء الجيل الثالث الذي لم يتعلم العربية في القاهرة، ولا بغداد ولا صنعاء، إلا أنه يقود مع آخرين، حركة القوس الشرقي التي تدعو للعودة إلى الجذور، واحترم الخصوصية الثقافية "لليهود العرب".

شارك في مسابقة صحيفة هآارتس كبري الصحف الإسرائيلية، بقصة "أنا من اليهود". ونال استحسان جميع أفراد لجنة التحكيم الذين انبهروا به، ولكنه حظي في المقابل بسخط شريحة واسعة من المثقفين الإسرائيليين الذين اعتادوا الأدب المجند المدافع عن الأساطير المؤسسة لـ"دولة إسرائيل"، وزاد من حنقهم أن القصة التي حصلت علي المركز الثاني كانت من هذا النوع الأثير، وحملت عنوانا موحيا من وجهة نظرهم :"رحمات صهيون"، وحصلت قصة مستوحاة من العهد القديم على المركز الثالث.

وللكاتب "ألموج بهر" قصة قصيرة أخري عن غزو العراق بعنوان:"كيف أمسيت بغداد؟" مشحونة بعواطف جياشة تجاه العراق الذي وقع أسيرا في قبضة الاستعمار الأمريكي. وعدة قصائد تستحق الترجمة إلى العربية، ودراستها بعمق، من أبرزها:"تلك القرى الخاوية" عن القرى والنجوع العربية التي طرد أهلها واحتلها الصهاينة بعد 48، ولكنها مازالت تنبض بدقات قلب عربي جريح، وقصيدة "لأخي محمود درويش"، "لغتي العربية خرساء". وله أيضا عدة مساهمات نقدية عرفت طريقها للنشر في صحيفة هآارتس عقب فوزه بالجائزة.احترت كثيراً في نقل قصة "أنا من اليهود" إلي اللغة العربية. القصة بديعة، ومهمة، وفي ظننا أنها خطيرة أيضا، من حيث ما تقدمه من ممكنات لفهم الواقع الإسرائيلي المعاصر. ناهيك عن فوزها بجائزة "أحسن قصة قصيرة في "إسرائيل" لعام 2005"، تلك الجائزة التي تمنحها صحيفة هآارتس كبري دور النشر الإسرائيلية، والتي تحظي، وتحظي جوائزها باحترام النخبة المثقفة في "إسرائيل".

احترت رغم أن المؤلف اختار عنوانا باللغة العربية، لقصته العبرية، "أنا من اليهود"، ورغم أن القصاص الإسرائيلي "ألموج بهر" (35 سنة) حظي باعتراف جمعي في "إسرائيل"، وصار نجماً في سماء الثقافة هناك، ومن أبرز كتاب هآارتس نفسها تلك الصحيفة العصية علي الأقلام،إلا إذا كانت موهوبة بحق.

وزاد قلقي من أن نتناول معطيات القصة التي تناقش إشكالية هوية اليهود الذين "هاجروا" لإسرائيل قادمين من الدول العربية بمنطق معنا أم علينا؟ لما تنطوي عليه القصة من طاقات تأويل متعددة، وهو منطق تبسيطي كفيل بأن يحول هذا القاص العبري إلي شيطان رجيم، أو يحوله إلي صديق ونصير الثقافة العربية. لمجرد أنه أشار إلي قمع الدولة الإسرائيلية والموقفين يجانبهما الصواب حتما.

لكن بتشجيع من أصدقاء أعزاء، وثقة في أهمية القصة، ومقدار الوعي المتراكم عن الأدب العبري بجهود أساتذة أجلاء مثل د. رشاد الشامي أستاذ الأدب العبري بجامعة عين شمس، قررت أن أنقل هذه القصة المهمة والملهمة للقارئ العربي، مزودة بدراسة عنها، أرجو أن تكون بمثابة إضاءة للنص الذي ينطوي علي قدر من الخصوصيات الثقافية، التي تميز المجتمع الإسرائيلي. وهو مجتمع هجرة يحتضن جماعات سكانية من مشارب، وثقافات متعددة، أخضعوا منذ عام 48 لسياسة "بوتقة الصهر" التي سعت بكل قوة لدمجهم قسريا في نسيج ثقافي - اجتماعي واحد علي مدي أكثر من نصف قرن (كل ذلك لكي ننتج كلنا نغمة واحدة، صداها مبحوح، وننتحل لغة أخرى غير موجودة- أنا من اليهود). وتأتي هذه القصة التي حظيت باعتراف رسمي إسرائيلي لتفضح هذه السياسة، وتتمرد عليها، وتقدم بُعداً أدبياً لحركات احتجاج سياسي أسسها اليهود النازحون من الدول العربية مثل حركة الفهود السود في الـ80، ومظاهرات ضد التمييز الاجتماعي لصالح اليهود الأوربيين في "وادي صليب" التي رفعت شعار "إشك- نازي" في إتهام صريح للإشكناز بالنازية، والتعامل الفوقي مع اليهود الشرقيين مواطني الدرجة الثانية في إسرائيل. والآن إلى قصة "أنا من اليهود".

***
أن تقص، أو تحكي، يعني أن لديك "خبراً" يهم الآخر -كما يهمك- أن تنقله إليه، ولأن أهمية هذا الخبر محض افتراض في ذهنك أنت، وقد يكون بال الآخر فارغاً منه، فلابد من أن ينطوي قصك الخبر علي سمات خاصة به، تعمل كضامنة لإيجاد تلك الأهمية. وكلما تداخلت سمات القص الأدبي، وإعلام الخبر إلي حد الالتباس الماهوي بينهما، وانعدمت أي إمكانية لتمييز أحدهما من الآخر، هنا نكون أمام "أدبية" القص. وقد عرف الإنسان "القص" منذ دخل في علاقة اجتماعية مع الآخرين، ومن ثم كان القص بمفهومه العام متغلغلاً في لحمة النسيج الاجتماعي، وبفضله انتقلت المعارف والخبرات، والأخبار من جيل إلي آخر.

وليس هناك شك في أن الأدب يشكل واحداً من أهم السجلات المعرفية التي يمكن الاستناد إليها في استقاء المعلومات عن التكوينات الباطنة في مجتمع من المجتمعات، والتي يصعب في كثير من الأحيان رصدها عبر سائر المصادر المعرفية المباشرة من كتابات سياسية واجتماعية وفلسفية، وما شاكلها.وذلك لأن الأديب بوصفه فنانا أي كائنا ذا حساسية شعورية خاصة .. مؤهل بهذه الحساسية لالتقاط خفايا الحركة الباطنة من محيط المجتمع، وتسمع نبضاتها الهامسة عبر آذان رادارية، وعين مجهرية. الأمر الذي يوفر للعمل الأدبي ثراء وفيراً من الحقائق والمعلومات التي يمكن للباحثين التقاطها وجمعها وتنسيقها وربطها بمعارفهم السابقة عن الواقع الاجتماعي موضوع العمل الأدبي، ومحل البحث. ولكل هذه الأسباب، ولغيرها يمكننا الاعتماد علي قصة "أنا من اليهود" في كشف أحد الجوانب الخطيرة في المجتمع الإسرائيلي، متمثلاً في إشكالية الهوية التي تهدد بتفجير صراعات وتمردات علي محاولات تسييد ثقافة معينة في هذا المجتمع علي حساب ثقافات فرعية أخري (subcultures).

- تدور القصة باختصار شديد حول شخص "يهودي شرقي" من أبناء الجيل الثالث أو الرابع، أي أنه لم يتعلم اللغة العربية في القاهرة، ولا صنعاء ولا "بغداد" التي تعود جذوره إليها. اندمج آباؤه وأجداده في المجتمع الإسرائيلي الذي تحتل فيها ثقافة اليهود الأوربيين المرتبة الأولي، وتعرف بالثقافة الاشكنازية أو الغربية. فقد كان لقاء المهاجرين القادمين من بلاد الشرق إلى المجتمع الإسرائيلي لقاء صدمة. فقد تكشف لهم فجأة أن ثقافتهم اليهودية الأصيلة بدلا من أن تكون جسرا، شكلت حاجزا بينهم وبين المجتمع الجديد. فهي تثير الاحتقار والعداء، كما أن حاملي هذه الثقافة يوصفون بأنهم أقل شأنا وغرباء على المجتمع الجديد. فظهر لديهم ما عرف بـ "أزمة هوية".

غير أن هذا الشخص ذو الملامح الشرقية، كان يسير في الشارع، عندما بدأ يشعر بشعور غريب، لقد انقلب لسانه تجاه الحلق، وتغير نطقه للكلمات، وصار ينطق العبرية، بلهجة عراقية، وهي كارثة عظيمة، خاصة أن ملامحه تثير ارتياب رجال الشرطة، فهو دائما في نظرهم فلسطيني في طريقه لتنفيذ عملية "إرهابية"، فما بالك بطريقة نطقه التي تغيرت فجأة، لتصبح أقرب ما تكون لطريقة نطق جده أنور (عليه السلام). ذلك اليهودي العراقي الذي قدم لإسرائيل محملا بثقافة عربية إسلامية نهل منها في بغداد، لكنه اكتشف أن الثقافة العربية عملة غير قابلة للصرف في "إسرائيل". وكما يقول العالم الإيطالي الشهير جرامشي:"الثقافة السائدة هي ثقافة الطبقة السائدة". لذلك فضلت "إسرائيل" تسييد الثقافة الأوربية، فالدولة الناشئة في المنطقة بعد 48 تعتبر نفسها طليعة الحضارة الغربية. ولا تريد أن تكون نقطة عربية تذوب بسهولة في محيط عربي أوسع، ومن ثم أصبح من الضروري أن يتخلص "اليهود الشرقيون" من الثقافة العربية التي حملوها معهم إلى "إسرائيل" لكي يتمكنوا من الاندماج في المجتمع.

وكان القرار الرسمي إتباع ما يسمي بسياسة "بوتقة الصهر" دمج المجتمع كله في نسيج واحد. وأبرز تجليات هذا النسيج هو اللغة، وطرق النطق، لا يصح أن تكون هناك طرق نطق بولندية، ومجرية، وأوكرانية، وبلجيكية، وعراقية، ومصرية، ومغربية، وإلا أصبح المجتمع على حافة الانهيار.

وإذا كان اليهود القادمون من الدول العربية يمتلكون جهاز نطق قادرا علي أداء الحروف الحلقية (ع. ح. أ. هـ.) بعكس اليهود الغربيين، فإن الغرب أحق أن يتبع، ومن لا ينطق العين همزة مخففة، ومن لا ينطق حرف الخاء بديلا عن حرف الحاء صعب النطق، فليتحمل السخرية، ونظرات الاحتقار، وربما التضييق في مصادر الرزق (أمي فعلت ذلك في صباها، تفاديا لغضب المدرسين ونظرات التلاميذ الساخرة).

قد يندهش القارئ العربي، والمصري خصوصا من أن تكون طريقة النطق معيارا للكفاءة والكفاية الاجتماعية، لكن الواقع أن العلاقة بين اللغة والهوية في "إسرائيل" كانت ومازالت واحدة من مظاهر القهر، والتمييز الثقافي الذي تجاوب معه اليهود المهاجرون من الدول العربية في البداية، فما أن يفتح اليهود الشرقي فمه حتى ينكشف المستور. لكن الجدير بالملاحظة أن أبناء الجيل الثالث والرابع رفعوا لواء التمرد، وجاهروا برغبتهم في الحفاظ علي خصوصيتهم الثقافية، وقد فجرت هذه الرغبة جدلاً واسعاً في الساحة الثقافية والفكرية الإسرائيلية منذ سنوات حول هوية "اليهود" القادمين من الدول العربية. هل هم يهود شرقيين، أم يهود سفاراديم أم "اليهود العرب" نسبة إلي الدول التي قدموا منها؟!بداية من المهم أن نعرف أن علماء الاجتماع يقسمون المجتمع الإسرائيلي إلي يهود غربيين مواطنون من الدرجة الأولي، ويهود شرقيين (سفاراديم) مواطنون من الدرجة الثانية ومصطلح اليهود الشرقيين يوضع في مقابل اليهود القادمون من الغرب (أوروبا) أما اليهود السفاراديم، فنسبة إلي يهود الأندلس في القرون الوسطي الذين انتشروا بعد ذلك في الدول العربية.

وقد أثار مصطلح "اليهود العرب" ضجة هائلة في الساحة الثقافية العبرية، خاصة أن تياراً نخبوياً من "اليهود الشرقيين"، وبخاصة العراقيين، بدأ يكرس لهذه الفكرة. فكتب عالم الاجتماع "الإسرائيلي" يهودا شنهاف، (وهو أيضا من أصول عراقية) كتاباً بعنوان "اليهود العرب"، يرفض فيه جميع التسميات السابقة، ويصل فيه لنتيجة مفادها أن مصطلح "اليهود الشرقيين" مرفوض جملة وتفصيلاً لأن اليهود القادمين من مصر أو العراق أو المغرب أو اليمن أو تونس أو ليبيا أو غيرها من الدول هم أصحاب ثقافة عربية محضة. كما أن مصطلح "اليهود الشرقيين" غير دقيق لا اجتماعيا ولا جغرافيا، فهم شرقيون بالنسبة لأي بقعة جغرافية، فلسطين لا تقع شرق اليمن، ولا شرق مصر، ولا شرق العراق.

ويصل "يهودا شنهاف" إلي أن اليهود القادمين من الدول العربية ورثوا عاداتهم وتقاليدهم من الحضارة العربية والإسلامية، فكتبوا أدبا باللغة العربية، ومنهم من حفظ القرآن، والشعر العربي، ومنهم من حمل أسماء عربية خالصة، وظلت ثقافتهم عربية حتى في أبسط تجلياتها. فاليهود المغاربة يمارسون السحر والشعوذة، ويقبلون علي زيارة الأضرحة، ويتناولون الأطعمة المغربية. ويهود العراق ثقافتهم مازالت بابلية، ومنهم أدباء كتبوا بالعربية مثل شمعون بلاس، وسامي ميخائيل، وسمير نقاش الذي توفي مؤخراً.

وقد افرز النقاش العام في "إسرائيل" حول هوية اليهود القادمون من الدول العربية، علي الصعيد الثقافي حركة القوس الشرقي التي تنادي بجميع الأفكار السابقة، وعلي الصعيد السياسي أفرز أحزاب، وحركات احتجاج سياسي، وعلي الصعيد الفني أفلام روائية ووثائقية تسجل معاناة هذه الشريحة الاجتماعية.لكن علي الصعيد الأدبي أفرز هذا النقاش العام قصة بديعة حظيت باعتراف جمعي عندما فازت بجائزة صحيفة هآارتس التي تتمتع باحترام عريض من النخبة الإسرائيلية.- يستخدم مؤلف القصة ألموج بهر حيلة أدبية مشهورة، سبق أن استخدمها "سارماجوا" في "بحث حول العمي" 1995، ففي هذه القصة الإسرائيلية يفقد البطل قدرته علي النطق، ولكنه لا يصاب بالخرس، فهو فقط يفقد لكنته الإسرائيلية، ويشرع في الحديث بلكنة عراقية، كان يتحدث بها جده، وتتسبب هذه العودة إلي الجذور في زيادة شعوره بالتهميش (هامشيته).

- يشك اليهود في كونه عربيا (يعتقله رجال الشرطة مراراً وتكراراً)، ويتنكر له العرب، أما زوجته فتصاب بعدوي طريقة النطق القديمة، لكن لأن أبيها من اليمن، وأمها من تركيا، فتختلط علي شفاها اليمنية بالتركية. وتنجح هذه الحيلة الأدبية البسيطة في فضح مؤسسة القمع الإسرائيلية ممثلة في (الشرطة، وهيئة الإذاعة) التي تراه عربيا، في الوقت الذي يراه العرب (وجهاء فلسطين قبل 48) مجرد يهودي، غريب في بلادهم. وتحول لشخص "ثقافته العربية" هي العدو اللدود "لقوميته اليهودية".

وتتطور القصة، التي تفتقر لعنصر الحبكة، لكنها تقوم علي "الموقف" المتدفق والمتصاعد. ويصل الموقف إلي ذروته بأن تتحول العدوى إلي "وباء" يقتنص إسرائيليين آخرين، يعودون للحديث بلكنات آباءهم وأجدادهم، ولا يتوقف الأمر علي اليهود الشرقيين، بل تصل العدوي لليهود الإشكناز. وتبدأ الثقافات الفرعية (subcultures) في التمرد علي الثقافة السائدة، وتشق عصا الطاعة علي المؤسسة الإسرائيلية التي تبذل أقصي جهد ممكن باستخدام أدواتها (الشرطة - الإذاعة - التجسس علي بطل القصة مصدر العدوى).

لكن يتضح فجأة أن الأمر ليس ثورة اجتماعية، لكنها الزيارة الأخيرة التي تقوم بها الصحة قبل الوفاة، أنها "حلاوة الروح" والسبب ليس مثيراً، وهذا ما يجعله أكثر قوة أدبية. لقد نجحت السلطات في إيقاف الطوفان، وهدم برج بابل قبل بناءه، بالتأكيد علي اللغة العبرية السليمة كشرط للحصول علي عمل ومصدر رزق، وبذلك حاصرت الثقافة العربية وهو ما حدث في الواقع بالفعل عندما احتل الاشكناز المناصب القيادية المهمة، وتركوا للشرقيين الوظائف الحقيرة.

وعلى الرغم من ذلك لا يبدو الراوي مستعداً للعودة إلي لكنته السابقة، التي بذل والداه جهداً مضنياً ليكتسبوها، هم وآبناؤهم. وبناء علي نصيحة جده الذي يتجلي له بصوته فقط، يختار الصمت، ليؤكد أن هذا الصمت لا يشعر من حوله بالأمن، فيقتادوه إلي المعتقل مرة أخري. وإذا كان الصمت ليس حلا، فربما تقوم الكتابة بهذا الدور. (ها أنا اكتب قصائد احتجاجية ضد العبرية باللغة العبرية).اختار الأديب ألموج بهر أن يصك عنوان قصته باللغة العربية، وهو اختيار صادم للقارئ العبري لا محالة، لكنه اختيار موفق أدبيا إلي أبعد الحدود كما أنه معبر للغاية عن توجه القصة. فغني عن البيان أن للعنوان دور مهم في سيميوطيقا الاتصال الأدبي. وهو بهذا المعني ليس زائدة لغوية للعمل، ولا هو عنصر من عناصره انتزع من سياقه ليحيل إلي العمل كله، وإن كان كذلك في حالات متعددة. ونحن في غني عن التأكيد علي أن كاتب / مرسل العمل يعطي عنوان قصته نفس ما أعطاه للعمل من عناية، واهتمام. بل ربما كانت "عنونة" العمل أكثر مما نظن إشكالا، فمقاصد "المرسل" منها تختلف جذريا عن مقاصده من عمله، وتتنازعها عوامل أدبية، وأخري براجماتية، وربما أضفنا العامل الاقتصادي (التسويقي). وهكذا تتعقد وظائف العنوان، وتتعدد، ونكون أمام إشكاله الرئيسي وخاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار تمتعه بأولية التلقي. فلا شك أن فاعلية القارئ (المتلقي) تنصب أول ما تنصب علي العنوان الذي يمثل أعلي اقتصاد لغوي ممكن، وهذه الصفة علي قدر كبير من الأهمية، إذ أنها في المقابل ستفترض أعلي فاعلية تلق ممكنة، باعتباره مرتكز التأويل رقم (1).

إذن لقد أراد "ألموج بهر" أن يودع في العنوان أعلى إنتاجية دلالية قادرة علي توريط المتلقي في العمل الأدبي، وقد نجح في ذلك إلى أبعد مدى، خاصة أن العنوان مصاغ بلغة عربية يفهمها القارئ العبري نتيجة التقارب الشديد بين اللغتين سواء في ضمير المتكلم (أنا) العربي، و(إنِي) العبري، وتطابق حرف الجر (من)، والتناظر الملحوظ بين مفردة (هايهوديم) العبرية، و(اليهود) العربية. أضف إلي ذلك أن الكاتب / المرسل "يهودي شرقي" أو "يهودي عربي" مشكوك دائما في ولائه، وظل في خانة الطابور الخامس فترة طويلة بسبب ملامحه الشرقية، وثقافته العربية.والأهم من ذلك المفارقة الأدبية في العنوان، والصدمة التي سيخلفها في ذهن القارئ الإسرائيلي الذي يسمع دائما في بعض المظاهرات الفلسطينية الشعار الأشهر (اذبح اليهود). والذي ينقل للعبرية كما هو دون ترجمة حتى دخل في صميم مفردات اللغة.

- حاول الأديب على صعيد البناء اللغوي أن يطابق بين واقع حال بطل القصة وراويها الذي انقلب لسانه، فصار معقوداً، وبين مستوي الكتابة وطبيعة اللغة المسكوبة علي الأوراق، وقارئ القصة بالعبرية يدرك ذلك بسهولة، اللغة متلعثمة..متناثرة، والكاتب يلجأ أحيانا إلي جمل تقترب من تركيب الجملة العربية ليقترب الشكل من المضمون في هذا العمل الأدبي المتكامل (بحلول شهر تموز...).

تبدو ملامح السخرية قوية في القصة من الثقافة السائدة، أو الثقافة الاشكنازية، وأحفاد اليهود الغربيين المتنفذين في "إسرائيل"، ويتغطرسون بثقافتهم، ومع ذلك يقعون أسرى الثقافة الأمريكية الأرقى من وجهة نظرهم، والنموذج الذي يجب احتذائه (إيقاع التغيير عندهم سيسير ببطء، لأن أولادهم المتغطرسين يظنون أن لكنات آباءهم وأجدادهم كانت في الأصل أمريكية!!). وكذلك السخرية من رجال الشرطة القساة الغلاظ علي يهودي شرقي مثلهم، رغم أن هذه المهنة"الحقيرة" في "إسرائيل" والتي لا يقبل عليها الإشكناز بسبب مخاطر العمليات الفدائية، يحتلها اليهود الشرقيون. والمفارقة أن الشرطي الشرقي يقمع المواطن الشرقي!

- تخلو القصة من الحبكة، ولكنها تقوم علي الموقف الدرامي المتصاعد الفائض بالتفاصيل التي تخدم علي الفكرة الرئيسية، ومع ذلك لا تفتقر القصة لجمال اللغة، وشعرية الأسلوب وهو ما يكسبها صفة الأدبية، ويخرج بها عن إطار المقال الاحتجاجي، خاصة وأن سائر عناصر القصة القصيرة كالزمان والمكان والشخصيات متوفرة بها بشكل جلي.

- تحتفل "إسرائيل" هذا الشهر بالذكرى 58 لتأسيسها، وتأتي هذه القصة لتشكل صرخة احتجاج عاصفة ضد سياسة "بوتقة الصهر". ومن المفيد أن نعلم أن "يهودا شنهاف" يرصد في الفصل الأخير من كتابه "اليهود العرب" ما يسميه: "وقائع عملية "تطهير اليهودي العربي من عروبته"! موضحا أن اللقاء بين الصهيونية وبين اليهود العرب تميز منذ بدايته ( أو منذ نقطة الصفر، إذا ما اقترضنا اصطلاحاته) بتداخل المنطقين القومي والكولونيالي فيه. ومن أجل شمل اليهود العرب في "المشروع القومي" ( على المقاس الصهيوني الحصري) كان على هؤلاء المرور في سيرورة إلغاء لعروبتهم أو حسب تسمية المؤلف كان عليهم التعرّض لعملية "تطهير اليهودي العربي من عروبته". صحيح أن هذا الإلغاء أو التطهير جرى تبريره، من طرف الصهاينة أنفسهم، بأحاديث عن العصرنة والتقدم (بالنسبة لهؤلاء اليهود)، لكن الذي هدّد القومية الصهيونية لم يكن "تخلف" أو "تقاليد" اليهود العرب وإنما عروبتهم المشدّد عليها من قبلهم هم أنفسهم كما يقول "شنهاف". فقد هدد الماضي العربي ليهود الشرق بمسّ وحدة الصف الإسرائيلية المتجانسة ظاهريًا وأن يموّه الخط الفاصل الضروري (سياسيًا) بين اليهود والعرب. وفي هذا الشأن ردّد بن جوريون المقولة التالية: "نحن لا نريد بأن يكون الإسرائيليون عربًا. يتوجب علينا أن نكافح روح الشرق التي تخرب أفرادًا ومجتمعات".

- تؤكد القصة علي أن أسلوب التعامل الفوقي والعنيف الذي يسلب الهوية، هو السبب الرئيسي لتوالد الأحزمة الناسفة، التي تنشأ في العقول والقلوب أولاً، وقد لا يكون هذا دافع للمبالغة بالقول أن الأديب يدافع عن العمليات الاستشهادية، ولكنه درس ينبغي تأمله والوقوف أمامه، والدرس هنا موجه للقارئ العبري المستهدف بالعمل الأدبي، ويجره للتفكير في الممارسات العنيفة التي يقوم بها جنود الاحتلال ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع وداخل الخط الأخضر.

- تعد القصة صرخة متأخرة ضد القهر الثقافي والاجتماعي الذي يمارسه الإشكناز ضد السفارديم، بذريعة أنهم قادمون من بلاد عربية "متخلفة" وبالتالي لا يحق لهم تولي المناصب القيادية. وإن أرادوا الحصول علي تذكرة الدخول في الهوية "الإسرائيلية" عليهم احتذاء الثقافة الإشكنازية، وأبرز تجلياتها طريقة نطق اللغة العبرية، "اليهود العرب" ينطقون الحاء، والعين، والصاد، والإشكناز لا يستطيعون إلي ذلك سبيلاً، والحل علي الترتيب نطق الخاء، والهمزة المخففة، والسين، وتخفيف القاف إلي كاف. ومن ثم من لا يفعل ذلك يصبح سفارادي متخلف.وعلي ذلك فهذه القصة صرخة ضد سياسة بوتقة الصهر التي انتهجتها "إسرائيل" منذ تأسيسها، لإفراز نسيج اجتماعي واحد منسجم وبعد 58 سنة تثبت هذه السياسة فشلها ويستفيق المارد الشرقي، والروسي، والإثيوبي، وهناك نبوءات حول يقظة بطيئة داخل الثقافات الإشكنازية الفرعية.

- يدس الأديب في قصته مفردات ذات دلالة قوية، فعند تحديد زمن القصة يستخدم شهر تموز هو الشهر الرابع في السنة العبرية، وقد جلب يهود العراق هذا الاسم معهم من بابل في القرن الخامس ق.م، ويرجع هذا الاسم إلي الإله البابلي القديم "تموز"..رب الخصب والنماء الذي يموت وقت الحصاد كل عام ويبعث مع الربيع. وذكر الإله تموز في العهد القديم بسفر حزقيال ..(جلست النساء يبكيين تموز). حزقيال 8:14

التعليقات