لا تشاهد فيلم "عجمي"! / إياد برغوثي

لا تشاهد فيلم
إذا أردت، عزيزي المشاهد، أن تشاهد فيلمًا شعاراتيًا يريك الواقع الذي تتمنى أن يكون، ويعجّ بالنوستالجيا لأيام العزّ التي غابت شمسها، وبالحوارات المحبوكة بمهارة كتّاب السيناريو وبلغتهم الغنية والمهذّبة، وبمونولوجات طويلة وفلسفية وعميقة عن الحياة والسياسة والحب، فلا تتعب نفسك ولا جيبك، لا تشاهد فيلم "عجمي"، لأنه سيخذلك.

شاهد فيلم "عجمي"، عزيزي المشاهد، إذا أردت أن تفتح شباكًا في صدر قاعة السينما لترى واقع حي العجمي في مدينة يافا المنكوبة بالفقر والجريمة، والتي احتلتها مدينة تل أبيب العنيفة والقاسية وهمّشتها، شاهده إذا أردت أن تعرف حقًا ماذا يجري اليوم هناك، كيف يحكي الناس وبماذا يفكرون وكيف يُقتلون ويقتلون، وما لنا وما علينا. إذا أردت أن تبكي وأن تضحك، وأن تجعل عقلك وبطنك شركاءك في المشاهدة، ابحث في الصحف والمواقع عن العرض القادم ل"عجمي"، وسيبهرك.

لا أهوى المديح، ولست ناقدًا سينمائيًا محترفًا، وربما أكون منحاز فعلاً ليافا ولحي العجمي الذي سكنت بقربه بعد تعليمي الجامعي، هذا الحي الجميل المحاذي لشاطئ المتوسط والذي بنته البرجوازية والارستقراطية الفلسطينية خارج أسوار المدينة القديمة، بيوت فخمة ورائعة التصميم تحكي نهضة مركز فلسطين الاقتصادي والثقافي في النصف الأول من القرن العشرين. هذا الحيّ الذي تحوّل إلى "جيتو" للفلسطينيين الباقين في المدينة بعد النكبة خلال فترة الحكم العسكري، ومنع سكانه من ترميم بيوتهم وأحيطوا بكل عوامل الإفقار ونتائجه المأساوية، وتحوّل شاطئه إلى مزبلة لتل أبيب، التي هدمت بلديتها خلال السبعينيات مئات البيوت فيه وأسكنت سكانها في أحياء فقر مخيفة، ولا زالت البلدية تعمل من أجل هدم ما تبقى من بيوت أو ترميمها لاستقدام اليهود الأغنياء إليها وتفعل كل شيء ليخرج أهل هذا الحي العربي منه.

لا يحكي الفيلم قصة الحي أو المدينة ولا يصنع تاريخًا لهما، بل يحكي قصص الناس الأحياء فيهما وينقل لحظات قتلهم، يحكيها في إطار زمني محدّد، زمن الحدث السينمائيّ الدراميّ. الفيلم يحكي عن توتر حياة الأحياء بمحاذاة الموت وعن إحياء الأموات بسرد صور تسلسل أحداث قتلهم من جديد كل مرة، لنقترب أكثر من معرفة الحقيقة، ونتفاجأ منها، أو قل لنصدم من قسوتها وبلادتها وسهولتها، لنحزن عليهم ونقلق على من بقي من بعدهم يعيش جارًا للموت.

أبطال الفيلم، وهم ممثلون غير محترفين، يحكون في الفيلم كما يحكون في الحياة والحيّ، لا يترجمون أنفسهم للغة غريبة عنهم، يدخلون العبرية في عربيتهم المكسّرة ويشتمون بطلاقة طبيعية، ويطرحون أفكارهم المسبقة كما هي. لقد أضفى أسلوب صناعة هذا الفيلم تلقائية وصدقًا ورهافة مثيرة للمشاعر، محزنة ومضحكة، صادمة وحقيقية، لم يفرض المخرج نصًا على ممثليه بل أعطاهم مساحة ليكونوا أنفسهم فيتلعثمون في الجمل والكلمات البسيطة كما شاءوا.

يبدأ الفيلم بمونولوج للفتى "نصري"، الذي يدرك أن لديه حسّ توقّع المصائب، حسّ تنبئ الموت القادم، فتصيبك أنت وأبطال الفيلم هذه العدوى، وينتشر وباء القتل البارد في الحيّ، لتتوقع الضحية القادمة من عوارض الحالة، وتكتشف تفوّق حسّ نصري على كل أحاسيسك بعد كل مشهد، ويضيع الفرق بين الأموات والأحياء عندما تختلط مشاهد الفيلم، بين فصوله وأبطال قصصه، كلهم أحياء وكلهم موتى في الوقت نفسه. لكنك تتأكّد في النهاية أنّ نصري أفضل منك، حسّاس أكثر منك، فترتعش.

الفيلم متعدّد القصص المتداخلة، قصص بحث عن مال سريع لدفع دية الثأر أو توفير علاج ثمين للأم، قصص حب بين مسلم ومسيحية وبين مسيحي ويهودية، قصة ضابط شرطة يبحث عن أخيه المخطوف، قصة أم خائفة وجار غاضب يقتله انزعاجه من الإزعاج، وصاحب مطعم يتوسط في الصراعات ويمارس محافظته الاجتماعية والسياسية بقسوة، قصة موت الطباخ المرح من وجبة سمّ زائدة، قصص ينقلها المخرجان بحيادية إنسانية، قد لا تريحنا سياسيًا وقد لا نرضى عن الأدوار التي ترسمها للضحية أو للجلاد، لكنها بالتأكيد تسحرنا عاطفيًا.

يتمتّع هذا الفيلم بعدّة عناصر تضعه في أحد صفوف مدرسة السينما الواقعية الجديدة (نيو-رياليزم)، التي ازدهرت في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تميّزت باهتمام واسع بحياة الناس اليومية في الهامش الاجتماعي، واعتمدت على ممثلين غير محترفين، وصوّرت مشاهدها في الأحياء العمالية وأحياء الفقر، وأظهرت معاناة الأفراد واصطدامهم ببيئتهم القاسية، وتسعى هذه المدرسة السينمائية، كما وصفها المبدع الإيطالي تشيزرا زفاطيني إلى "عرض الأمور كما هي وليس كيفما تظهر أو كما تريدها البرجوازية أن تظهر، وإلى عرض قصص تكشف الجانب الإنساني للأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي تستخدم التصوير الخارجي بكثرة، وتستخدم الممثلين غير المحترفين في أغلب الأدوار، وتسعى إلى كشف الواقع بدون تزيين، وتتركّز في الناس البسطاء وليس في الأبطال والدمى البشرية والأفكار المسبقة الخيالية، وتفضّل اليومي على الأحداث العظيمة، وتكشف انحياز الأبطال لبيئتهم الاجتماعية الواقعية وليس للأحلام الرومانسية".

لا أريد أن أناقش طويلاً مسألة هوية الفيلم، إن كان فلسطينيًا أم إسرائيليًا، أم كلاهما معًا، مع أني أميل للتعريف للأخير، خصوصًا أن لهذا الفيلم مخرجان: الفلسطيني اسكندر قبطي والإسرائيلي يارون شاني، فليس هذا ذي صلة برأيي للنقد الفني، بل ربما للنقد السياسي-الثقافي ويحتاج لمقالة خاصة تناقش مسارات الإبداع الممكنة هنا في الداخل وغياب صناعة السينما الفلسطينية المستقلة في غياب شركات الإنتاج الفلسطينية والعربية واقتصار الدعم على الصناديق الإسرائيلية والأوروبية، والوضع الخاص للفلسطينيين في الداخل، الذين أظهروا نجاحات سينمائية مذهلة على المنتجين العرب، برأيي، التنبّه لها كظاهرة والاستثمار فيها ودعمها.

لدي عدة ملاحظات أخرى على الفيلم، أكتفي بأهمها وهي أن الفيلم طويل أكثر من اللازم، كان بالإمكان تقصيره وتكثيفه وتقليل بعض التكرار فيه، والذي كان سيجعله أكثر قوة، ساعة ونصف كانت ستكفي.

لا تشاهد فيلم "عجمي"، بل عش ساعتين هناك.

.




التعليقات