لا نصائح لدي لأقدمها لأحد!../ رشاد أبوشاور

-

لا نصائح لدي لأقدمها لأحد!../ رشاد أبوشاور
 
أحسب أن أحدا لا يبدأ رحلته الأدبيّة كاتب قصّة قصيرة، إذ لا بدّ له من أن يبدأ قارئا، ومن بعد قد يجد في نفسه ميلاً لكتابة الشعر، فالشعر خير معبّر عن جموح الشباب ومشاعره الجيّاشة، والإقبال على الحياة ووعودها.
 
أنا بدأت مع الشعر، ولكنني وأنا أقرأ شعر السيّاب، والبيّاتي، وخليل حاوي، وأدونيس، وقباني، وعبد الصبور، وحجازي، وشعراء الكلاسيك: أبوريشة، وبدوي الجبل، والجواهري، والعيسى..وشعراء فلسطين: طوقان، أبوسلمى، عبد الرحيم محمود، مطلق عبد الخالق، فدوى طوقان، هارون هاشم رشيد، يوسف الخطيب، سلمى الخضرا، وجدت أنه من الأفضل لي أن أقلع عن كتابة الشعر الموزون والمقفى، وهكذا انتقلت لكتابة قصيدة النثر متأثرا بالشاعر السوري سليمان العوّاد، الذي أنصفه محمد الماغوط في حوار معه، عندما وصفه بأنه مُعلمه.
 
فيما بعد تعلّقت بالمسرح، فكتبت له، ورغبت في دراسته، ولكن طموحي تعثّر، وهنا، ومع إدماني على قراءة الرواية، والقصّة القصيرة، وجدتني أبدأ في الهجس بكتابة الرواية.
 
سنوات مضت وأنا أجرّب كتابة القصّة القصيرة، دون أن أغامر بالنشر، كما فعل بعض زملائي الذين عشت وإيّاهم في مخيّم اليرموك المجاور لدمشق، بعد لحاقي بوالدي الذي استقرّ في العاصمة السوريّة عام 57.
 
ثماني سنوات بين العام 57 والعام 65 عشتها في دمشق التي وصلتها وأنا في الخامسة عشرة، فتى مراهقا غشيما، وغادرتها وأنا شاب بدأ يكتب القصّة القصيرة، ويقرأ كل شىء، لأن طموحا كبيرا يحرّكه، ويدفعه للتزوّد بالمعرفة، وهذا ما دفعني لتنويع مصادر ثقافتي، خاصةً وقد بدأ اهتمامي السياسي مبكرا.
 
من يعد إلى سنوات الخمسينيات، والستينيات، لن يحتاج لجهد كبير لمعرفة أنها فترة التحولات، والطموحات القوميّة الكبيرة، وأنها بداية تشكّل حالة النهوض القومي العارم، والتغني بفلسطين، وإطلاق الوعود بتحريرها.
في تلك الفترة نما وعيي، وامتلأت نفسي بالحماسة للكتابة، ولأخذ دور، وحمل رسالة.
 
هنا لا بدّ من التذكير بأن الفلسفة الوجودية نقلت إلى العربيّة، كتابةً روائيّة، ونصوصا فكرية فلسفيّة، بفضل دار الآداب، وبجهد الدكتور سهيل إدريس ورفيقته عايدة مطرجي، وأنها أثرّت في تفكيرنا نحن الفتية الطالعين، حيث آمن كثيرون بأن الأدب رسالة، والكتابة مسئولية إنسانيّة، ولذا تلقفنا كتاب سارتر: ما هو الأدب؟ ومنه انطلقنا في طرح أسئلة عن الالتزام.
 
 وضعنا المخاض العربي، والتحولات، والثورات، والانقلابات، أمام تحد فنّي، ومغادرة ما هو تقليدي، والمغامرة بالتجريب مستفيدين من لغة السينما، وفن المسرح، ومن التقنيات التي بدأنا نطلع عليها، والتي شغفنا بها، ووجدت هوى في نفوسنا.
 
شخصيّا، _ ولا استثني أحدا من زملائي آنئذ _ قرأنا تشيخوف، موباسان، أو هنري، وهمنغواي، فولكنر، وما توفّر من كتب نقدية تنظيرية حول فّن القصّة القصيرة، والتي كان أبرزها( الصوت المنفرد) لفرانك أوكنور، وكتاب فن القصّة القصيرة للدكتور محمد يوسف نجم.
 
كنّا نقرأ يوسف إدريس، زكريا تامر، يحي حقّي، وقصص نجيب محفوظ القصيرة، وغسّان كنفاني، وسميرة عزّام، والخميسي، ومحمود بدوي، ويوسف الشاروني، بعد أن قرأنا قصص محمود تيمور، ومؤسسي فّن القصّة القصيرة التي فارقت المقامة، والمقالة، وبدأت تظهر بتقنيات جديدة.
 
كنّا أمام تحديات، وكان الجيل الكبير الذي نقرأ له قد تجاوز من سبقوه، أقصد جيل محمود تيمور، الذي باتت قصّته قاصرة عن التعبير عن الحياة في زمن حمل تطورات، وشهد تعقيدات ومنجزات علميّة واجتماعيّة كبيرة، ومعارف غنيّة غير مسبوقة، وتطلعات ومهام قوميّة وإنسانية رحبة.
 
كنا في زمن السينما، والتلفزيون، والهاتف، والسيارة السريعة، والطائرة، و..منجزات غير مسبوقة أثرّت في الغناء، والموسيقى، والكتابة، والفن التشكيلي، والمسرح، والصحافة، عالميّا، وعربيّا.
كنّا نكبر في زمن الثورات التي تهّز العالم، من كوريا، إلى فيتنام، إلى كوبا، وفي زمن القفزات العلميّة والمعرفيّة، زمن ارتياد الفضاء.
 
عايشنا ثورات: الجزائر، اليمن الجنوبي، والانقلابات العسكريّة في كثير من الأقطار العربيّة.
عشنا في زمن ثورة 23 تموّز بقيادة جمال عبد الناصر، التي بدأت تشّع على الوطن العربي سلاسل كتب، ومجلاّت: القصّة، الشعر، المسرح، مجلّة (المجلّة) التي كان يرأسها راعي المواهب الشّابة يحي حقّي، علم النفس، ناهيك عن الصحف الكبرى، لا سيّما الأهرام وصفحتها الثقافيّة، وإذاعة البرنامج الثاني التي تبّث برامج ثقافيّة، ولقاءات شعريّة، مسرحيّات، وحلقات نقاش وجدل ونقد تمتّد حتى الثانية صباحا.
 
في ذلك الزمن عشت، ومن هناك انطلقت كاتبا، قاصّا، روائيّا، كاتب مقالة، ورغم مرور السنوات، بل العقود، ومع كتاباتي الروائيّة، فإنني ما زلت أكتب القصّة القصيرة، وأؤمن بقدراتها الكبيرة رغم حجمها الصغير.
 
هناك روائيون بدأوا قاصين ولكنهم تخلّوا عن القصّة القصيرة، ربما لأنهم اكتفوا بما كتبوه، أو لأنهم رأوا أن القصة القصيرة أضيق من أن تتسع لأفكارهم، وتجاربهم، أو لأنهم يرون أن القصة القصيرة أقل شأنا من الرواية، وأنها لا تمنحهم شهرةً واسعة يتطلعون إليها.
 
بعض الروائيين العرب جمعوا بين القصة القصيرة والرواية، وأبدعوا فيهما معا، يتقدمهم الكبير نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وغسّان كنفاني، وسهيل إدريس، وياسين رفاعيّة، وعبد السلام العجيلي، وغائب طعمه فرمان، والطاهر وطّار، وبعض الأسماء من جيلنا.
 
ثمّة كتاب أخلصوا للقصّة القصيرة ووضعوا كل جهودهم في تطويرها، يتقدمهم: زكريا تامر، يوسف إدريس، يحي حقّي، وسميرة عزّام...
أنا أورد هذه الأسماء الكبيرة للتذكير، لعلّ كتّاب وكاتبات هذه الأيّام يعودون إليها، وإلى غيرها، ليستفيدوا من منجزها الفني الغني.
 
عنونت كلمتي ب: ليست لدي نصائح أقدمها لأحد، ليس بخلاً، ولا عجزا عن تقديم ولو نصائح متواضعة قد تنفع، ولكن لأن النصائح وحدها لا تصنع مبدعي قصص قصيرة.
 
من يقرأ كتبا عن فّن القصّة القصيرة، ويحفظ بعض التوصيات، أو التعليمات، ثمّ ينطلق ليكتب، أحسب أنه لن يوفق في كتابة قصص قصيرة تضيف شيئا، إن كان يهجس بكتابة قصص تضيف شيئا إلى منجز من سبقوه.
عوّلت في رحلتي الممتدة من منتصف الستينيات وحتى اليوم على عدّة أمور: القراءة، التجربة، الاطلاع باستمرار ليس فقط على منجزات من سبقوا، ولكن على ما يكتبه من أعاصرهم، ومن كل الأجيال، سواء انتفعت بما يكتبون، أو لم أنتفع.
 
عندي وجهة نظر، أوّد التنبيه لها، وهي أنني لم استفد كثيرا من الكتب التنظيريّة، التقعيديّة، لفّن القصّة القصيرة.
لقد استفدت من القصص القصيرة نفسها، لكتّاب عرب، وغير عرب.
ومع سعة الاطلاع، آمنت أن القصّة القصيرة تملك أن تقول ما هو بليغ وعميق، وأن حجمها الصغير، وصفحاتها القليلة، لا تعني أنها مخلوق قزم، بحيث ينظر إليه من فوق باستخفاف.
 
عندما قرأت قصّة ( موت موظف) لتشيخوف قبل خمسين عاما_ وأنا أعيد قراءتها حتى يومنا بين وقت وآخر_ عرفت إلى أي حد يمكن أن تعيش القصّة القصيرة، وحجم ما تكتنزه من عمق، ومعرفة، عن الفرد، والمجتمع، في زمن لم نعشه، ولا نعرف عنه سوى القليل.
 
هنا أتوقف لأقول: القصّة يمكنها أن تقدّم لنا معرفة، وأن تفتح لنا نوافذ على ما لم نعرف، إنها تأخذنا إلى عالم آخر، وزمن آخر، وبشر آخرين.
عندما قرأت قصّة ( الوحشة) لتشيخوف أيضا، ارتعشت روحي، وأنا أعايش بطلها العجوز( الحوذي) الذي لم يجد من يصغي له، ويقاسمه حزنه، لفقد ابنه، سوى جواده العجوز المتعب ..مثله!
 
هذه قصص تُعلّم، وفي ذاكرتي تسكن عشرات القصص لكتّاب عرب، وغير عرب، ما زالت بكامل زخمها في ذاكرتي، مثلاً: لغة الآي أي ليوسف إدريس، والخاطبة ليحي حقّي، والصقر لغسّان كنفاني، و( واحد لئلاّ) لسميرة عزّام، وعشرات القصص للمبدعين العرب الذي تعلمت منهم، وما زلت أستمتع بقراءة قصصهم ( الحيّة) والتي لم تمت، والتي ستعيش طويلاً.
 
من القصّاصين يمكن أن نستفبد، سواء من قصصهم، أو من تعاليمهم التي هي استخلاصات من تجاربهم المديدة.
كتب تشيخوف لصديقه مكسيم جوركي ما يلي: احذف النعوت والظروف ما أمكنك ذلك. إنها كثيرة عندك حتى ليضل فيها انتباه القارئ، ويعتريه التعب. إن المرء يفهمني عندما أكتب: جلس الرجل على العشب. إنه يفهم ذلك لأنه جلي واضح، وخلافا لهذا فإنني أغدو غامضا وأرهق الدماغ إذا ما كتبت : على العشب الأخضر الذي وطأته أقدام المارة جلس رجل كبير، ضيق الصدر، ذو قامة ولحية، جلس دون جلبة ملقيا على ما حوله نظرات فيها حياء وخوف .(1)
 
ابتعدت في قصصي عن التعقيد، والافتعال، وملت إلى البساطة والوضوح، وهذا ما شدني لقصص تشيخوف، وهمنغواي، اللذين وجدت فيهما البساطة والعمق، وإلى أو هنري الذي يفاجئ القارئ بخاتمة هي من صلب النّص القصصي، والتي تدفع القارئ للعودة لقراءة القصّة من جديد.
 
اجتذبني لكتابة القصّة القصيرة إعجابي بما قرأت من قصص لكتّاب عرب وأجانب، وليس لأن القصّة القصيرة سهلة، وقصيرة، ويمكن كتابتها في جلسة، وتجلب شهرةً سريعة بجهد قليل.
لم يدفعني للكتابة سهولة النشر، وهذا لم يكن متوفرا في أيامنا، فنحن كنّا نعيش في زمن الكبار، والصحف والمجلاّت التي لا تنشر بسهولة.
 
كنّا معا عصبة من الشباب في نهاية المرحلة الدراسية الثانوية، نقرأ بكثرة، نتناقش طيلة الوقت، ونحلم بأن نكون كتّابا، وبأننا سنضيف شيئا جديدا، لأننا نحمل هموما، ونهجس بدور، فنحن بدأنا رحلة الانتماء مبكرين، الانتماء الحُر، غير المُقيّد بأطر حزبيّة صارمة.
لم تكن تسود علاقاتنا المجاملات، فنقدنا لما نكتب جّاد، وصارم، ولم يُفسد العلاقة بيننا، حقا: لقد كانت صداقة ديمقراطيّة حميمة مُثمرة أفدنا منها كثيرا.
 
أذكر أنني في العام 1964، كتبت قصّة بعنوان( الليل)، وكالعادة قرأتها على مسامع عصبة الأصدقاء، فاستقبلوها بحفاوة، ورأوا فيها قصّة قصيرة جديرة بالنشر.
يمكنني أن أؤرّخ لبدايتي الجّادة بتلك القصّة.
 
بدأ بعض الأصدقاء بنشر قصصهم على صفحات مجلّة ( الأسبوع العربي) اللبنانيّة، وكانت آنذاك من أبرز المجلاّت العربيّة، وفوجئت أنها تكافئهم بمائة ليرة لبنانية على كل قصّة، وذلك مبلغ كبير في تلك الأيّام!
تريثت في نشر قصصي حتى العام 1966، وبعد أن عدت من دمشق إلى أريحا في العام 65، نشرت أوّل قصة في صحيفة ( الجهاد) المقدسية، وكانت بعنوان( أحذية الآخرين)، ومن بعد نشرت قصّة( الليل) التي كنت كتبتها في دمشق.
 
تريثت قبل أن أرسل قصّة لمجلّة ( الآداب) التي هي حلم كل كاتب، حتى العام 67، ومن بعد توالى نشر قصصي على صفحات الآداب التي كان الباب النقدي فيها ( قرأت قصص العدد الماضي)..يجتذبنا. لقد أفادنا النقد الذي تحظى به قصصنا، وقصص غيرنا، وتعلمنا منه كثيرا.
هزيمة حزيران 67، وتفجّر المقاومة، وضعا كتّاب القصّة القصيرة، وأنا منهم، أما تحد، فالقصّة ما عادت تكتب بسرد هادىء، وبلغة إنشائيّة، وبحبكة مسليّة، وبحوار مفتعل غير مقنع.
 
لذا كتبت شخصيّا قصصا تتكوّن من مقاطع، وقصصا فيها تضمين، ناهيك عن الاستفادة من المشاهد المسرحيّة، وأسلوب السيناريو السينمائي.
 
كتبت القصّة القصيرة جدّا، ولعلّ قصّتي ( العصافير) هي أقصر قصّة تنشرها مجلّة ( الآداب) في أحد أعدادها عام 1969، أي قبل نيف وأربعة عقود. وتقديرا للقصّة أفردت المجلة لها صفحة، النصف الأيمن للعنوان وبشكل مائل، والنصف الأيسر للقصّة.
 
يوجد في هذه الأيّام من يثيرون جلبة حول ريادتهم للقصّة القصيرة جدّا، واكتشافهم لها، وجل ما اقرأه يمكن أن يوضع تحت عنوان ( طرائف) في أحسن الأحوال، وفي الإدعاء عدم تواضع، ناهيك عن الجهل بما أنجزه من سبقوهم.
 
 لم أكن رائدا للقصّة القصيرة جدّا، ولا أزاحم من سبقونا، ولكنني كنت واحدا ممن كتبوها، وهي قصّة فيها حكاية، وحدث شفيف إنساني عميق...
 
لعلها مناسبة أن أقول بأن القصّة بلا حكاية _ والحكاية قد تأتي شفيفة ناعمة_ هي بلا طعم، ولا قيمة، فالحكاية تختزل معان، وتمنح القارئ متعة قد تدوم طويلاً، وهنا سّر بلاغتها.
 
صدرت مجموعتي القصصية الأولى ( ذكرى الأيام الماضية) عن دار الطليعة في بيروت عام 1970، والمجموعة الأخيرة في العام 2009 عن دار الشروق في عمّان، وبين هاتين المجموعتين صدرت لي عدّة أعمال قصصية، وصدرت المجموعات الخمس الأولى في مجلد واحد، في ثلاث طبعات، في بيروت والقاهرة.
 
بعد ثلاث سنوات على صدور المجموعة الأولى صدرت روايتي ( أيّام الحب والموت)، ومن بعد صدر لي عدد من الروايات، وأنا ما زلت أكتب القصّة القصيرة، وأرى أنها قادرة على قول ما هو جميل، وممتع، وعميق.
هناك من يرى بأن القصّة القصيرة فن مات، أو هو في طور الموت، وأنا أرفض بشارة السوء هذه، وأراها ناجمة عن الجهل بهذا الفن.
 
الناقد العربي الكبير الدكتور علي الراعي، كتب مقالة في مجلّة المصور المصرية، أعيد نشرها في كتاب( القصة القصيرة في الأدب المعاصر)(2) : أعزائي كتّاب القصّة القصيرة: اطمئنوا! فنكم الجميل باق ما بقيت قدرتكم على خدمته...
ما بقيت قدرتكم على خدمته!
 
هذا هو الشرط لبقاء القصّة القصيرة، وهو يعني: الجديّة، المصداقية، سعة الثقافة والاطلاع، وهذا نقيض السعي للشهرة ونشر أي كلام على صفحات الصحف والمجلاّت باستخفاف، وبهدف الشهرة العابرة.
 
شخصيا ما زلت اقرأ القصّة القصيرة، وأستمتع بها، وأعود إلى ما تركه أعلامها لأنهل منه، فهو غذاء روحي وعقلي، متعة ومعرفة بالإنسان والحياة، سابقا ولاحقا، فثمّة قصص عابرة للأزمنة، والحدود، واللغات، لأن لغة القلب والروح فيها تجمع بين البشر، وتصلهم ببعضهم بعضا.
 
في كلمتي هذه لم أوجه النصح، إذ لم أعتد هذا الصنيع من قبل، ولا يروقني أن أبدو عجوزا يدّعي الحكمة والمعرفة، ويملك أسرارا لا يعرفها غيره.
يتساءل الناقد الكبير الدكتور علي الراعي في مقالته التي أشرت لها: أتكون القصّة قد ماتت في غفلة منّا جميعا؟ ماتت بلا احتفال، ودفنت في مقابر الصدقة؟
ويضيف: قلت لنفسي: إنه ما من فن يموت. تتغير الساحة الأدبيّة، يطرأ عليها بين الحين والحين وافد جديد، يطالب بحقّه في الوجود فتسرع الفنون جميعا إلى إفساح مكان له بين صفوفها، تستقبله راضية أو كارهة ، ثمّ لا تلبث أن تتفاعل معه، ويتفاعل معها، ويعيش الجديد مع القديم.(3)
 
صدق ناقدنا الكبير.
في السنوات الأخيرة نشهد زخما روائيّا، فيه الجيّد، وفيه الغثاء التافه، رأى فيه بعض الكتّاب حالة فوضى!
  بعض الكتّاب أمام زخم انتشار الرواية يشّروا بموت القصّة القصيرة.
هذا اللقاء أراه هاما، لأنه تذكير لمن نسي، بأن القصّة القصيرة فن عريق لا يموت، ما بقيت قدرة مبدعي القصّة على الإبداع.
 
شخصيّا، أنا مطمئن لعمر مديد للقصّة القصيرة، بجوار غيرها من فنون الكتابة، لأنني أقرأ قصصا قصيرة جميلة، لقاصين وقاصات في بلاد العرب، مشرقا ومغربا، وهو ما ينعش تفاؤلي.
 
وأقرا قصصا للمخضرمين الذين لم يهجروا القصّة، ولم يديروا ظهورهم لها، والذين ما زالوا يعبرون عن إخلاصهم لها بإبداع قصص جديدة جميلة، شابة، مفرحة، متجددة، تنتمي لهذا الزمان.
 
قلت بأنني لا أملك نصائح أوجهها لأحد، ولكنني أملك حبا لفّن القصّة القصيرة، و( أعزف) القصص أحيانا لنفسي، تماما كما يعزف الموسيقي على آلته الوحيدة لنفسه، فالقصّة القصيرة هي فن الإنسان الوحيد، تنجز بآلة وحيدة، والإنسان يحتاج للإصغاء لعازف الآلة الوحيدة إن لامست موسيقاه نفسه، وحرّكت شجونه، وعمّقت الصلة بينه وبين وحيدين غيره في هذه الدنيا.
 
وشكرا
-------------------------------------
1- ( تشيخوف ص95، إيليا أيهرنبورغ، صدر عن المؤسسة العربيّة
عام 1979 ).
2_ صدر عن منشورات الهلال عام 1999.
3_ من مقدمة كتاب( القصّة القصيرة في الأدب المعاصر) للدكتور علي الراعي.
* نّص ورقة الكاتب في ملتقى عمّان الثاني للقصّة القصيرة الذي تواصلت أعماله بين 25 أيلول و27.

التعليقات