أحلام"عائشة عودة" بالحرية/ ريما كتانة نزال

أحلام
بضع ساعات استغرقتني لقراءة كتاب أحلام عائشة عودة بالحرية، الصادر عن مؤسسة مواطن في مائة وخمسين صفحة، فلم أكد ألتهم الكلمة الأولى حتى كنت أتشّرب الجملة الأخيرة، فأحلام عائشة من تلك التي اختارت أن لا تصحوا منها حتى لو كان الثمن إغفاءة أبديّة، نطقت عائشة بعد خمس وثلاثون عاماً بملحمتها البطولية التي حبكتها طيلة عشر سنوات وأسبوعان، هم ثلاثة آلاف وستمائة وأربعة وستون يوماً بكل ساعاتهم ودقائقهم وثوانيهم من زهرة شبابها قضتهم خلف قضبان الاحتلال، تحدثت عائشة وباحت بما كانت تتحسس الحديث به، وجاء بوحها بالأوان، فما كان للأحداث التي تعيشها الآن إلا أن تحرك وجدانها لتضخ تجربة كانت حبيسة صدرها لتضعها ملكاً لشعبها الذي عرف طريق السجون جيداً، وبنات هذا الشعب على وجه الخصوص اللواتي تدافعن نحو المعتقل بعد أن ساد اعتقاد عام بأن السجون قد اقفرت من الحرائر بعد تحرير آخر فوج نسائي، نعم فتحت عائشة ذاكرتها بعد كل هذه السنوات لتستقبل ككاتبة قديرة ومناضلة فذّة تتحدث عن تجربتها الإعتقالية المؤلمة، التي قدمتها بحلاوة وشاعرية، بوعي والتزام ممزوج بالعفوية والتلقائية الصادقة، تحدثت وفردت تجربة غنية لروح وثابة ترفض الرتابة ولا تقع بشباك المزاودة وتعفّ عن التفرد والفردية، تجربة فتاة ريفية لم تكد تفتح عينيها على الدنيا حتى كان الاحتلال لها بالمرصاد، وتأخذ قراراً واعياً بمقاومته بكل الأشكال في بيئة اجتماعية لها قوانينها الصارمة، لكن عائشة المجبولة برائحة التراب والتمرد واحترام الذات ووثوقها مع شذرات من اللامبالاة تستطيع أن تحل أمورها في كل المحطات بقرارات تحاور نفسها بها، مواجهة ذاتها بصدق وشجاعة إنسانية تنبع من خصوصية الشخصية المركبة الأبعاد.

* في رواية عائشة لتجربتها النضالية مكان خاص للطبيعة التي تعشق، والطبيعة لديها ليست الشجر والسماء والماء والسهول والروابي، بل هي فلسفة كاملة تبدأ بالدهشة البريئة التي تقدس الجمال بكل أشكاله وتمر بالتأمل الذكي لقوانينها المستحيلة، وتنتهي بعلاقة عشق المكان، من كل هذا ترسم بقلمها لوحة جدلية تشد من خيوطها الصمود والتماسك والاعتداد الطبيعي الفطري بالنفس، فالطبيعة لدى كاتبتنا حضن أسرار حنون تفتحه ليتدفق منه أبناءها وبناتها الشجعان ممن امتحنوا أولاً بالانتماء لطبيعتهم وأحلامها ووشوشاتها، ومن ثم امتحنوا في ميادين الدفاع عنها، وفي عشق المناضلين للطبيعة يتم تحمل الألم ولا ينبسون إلا زفرات دامية تطهر فضاء الوطن وتحميه.
* والحرية والتمرد في رواية عائشة ليس فقط من الاحتلال وعليه، بل ضد الأفكار البالية والغيبيات الرجعية، وبقدر ما كانت فكرة الاشتباك مع مخرز الاحتلال واضحة لديها، بقدر ما كانت فكرة التمرد على التمييز الجنسوي بذات الوضوح والجدية، فقد توازى لدى المناضلة هم كسر قضبان السجن وقيوده مع هم كسر قيود سجن الحريم، ففي كل لحظة كان يتوهج جسد عائشة تحت وقع هراوات وكرابيج المحققين كانت تتوهج إرادة الاختراق والتحدي للمفاهيم المقولبة التي يحلو لصانعيها وضع معايير صمود خاصة بعالم الرجال وأخرى خاصة بعالم النساء، فكان الحل العملي لدى عائشة بأن كل لكمة تتلقاها من الجلاد وتصمد أمامها تكسر حلقة من حلقات المعايير الخرقاء، تثبت بأن التماسك والصمود والمقاومة لا تستند إلى معايير خاصة بالعضلات والخشونة والصلابة الشكلية وحنجرة آدم، بل تستند إلى قيم ومعتقدات ثابتة لها علاقة بنظرة الإنسان لقضيته ومدى إيمانه وقناعته بها، وبنظرته لنفسه وموقعه وإحساسه بالمسؤولية عن تلك القيم والمبادئ، هي المعادلة التي وضعت عائشة نفسها بين جدرانها, ومنها استمدت صلابتها فحوّلت قمة الضعف الجسدي إلى قوة فكرية تحتمل التعذيب ، فأثبتت أن لقوة الجلاد حدود ونهاية تتحول بعدها القوة المادية إلى فكرة ضعيفة لا تحقق مبتغاها.

* إن عائشة عودة التي تنظر لنفسها كقائدة ورائدة في الكفاح الوطني الفلسطيني، وضعت تجربتها في إطار التجربة النسائية في المعتقل، فخرجت من إطارها الذاتي لفرط تواضعها وثقتها بنفسها وإحساسها بالآخرين واحترامها لهم، فكان أن جعلت من تجربتها وكتابها توثيقاً لتجربة المناضلات الفلسطينيات في الأسر، فما كان لحسها المسؤول أن يتغاضى عن إنجازات الحركة النسائية الأسيرة في مواجهة إدارة السجون، خاصة وهي تضعها في خدمة النضال الوطني الفلسطيني النسوي المتواصل، وهذا ليس غريباً عليها، فتفاني الذات والاندغام بالجماعة ثقافة وسلوك أصيل لديها يمكن لكل من عرفها أو عايشها أن يتلمسه فيها، فتحية إلى عائشة المناضلة والكاتبة التقدمية التي شكلت روايتها تسجيلاً لشهادة على قمع الاحتلال وعنفه، شهادة تأخرت كونها من الشهادات التي لا يمكن أن تغادر الذاكرة بسهولة, فهي التي أعطت لحياة عائشة مساراً ومعنى استثنائيين، ومن هنا تأتي أهمية أن تتحول رواية "أحلام بالحرية" إلى فيلم سينمائي يصور أحلام المرأة الفلسطينية بالانعتاق من القيود..

التعليقات