أين الجنون في "جنون"/ فراس خطيب

أين الجنون في
نور، الشخصية الرئيسية التي يؤديها الممثل صالح بكري في مسرحية "جنون"، الانتاج الجديد لمسرح الميدان. هي شخصية تعبرّ عن حال وجودية معقدة بمجملها ومثيرة بمضونها الدرامي إلى حد كبير. نور شخص مجروح ومكبوت ويعاني من "انفصام في الشخصية" ويقع تحت اضطهاد عائلي يتحول إلى اضطهاد مجتمعي ليؤثر على سير علاجه عند طبيبته النفسية (حنان حلو)، الشخصية المركزية الأخرى التي تغوص في بحثها في أمور "تتناقض" مع المفاهيم المألوفة والمؤسساتية وحتى المجتمعية. وهي ايضًا ضحية لعوامل أخرى.

بين نور وطبيبته النفسية يقع فضاء مسرحية "جنون"، حين تتداخل فيه الاحداث والمونولوجات والآلام والتأوهات والمعاناة. وفي ترجمة هذا الواقع ووصف هذا الفضاء المثير حقًا على خشبة المسرح، سقطت "جنون" (في الميدان وليس الأصلية) في اختلالات توازن كبيرة ومنقطعة النظير.
الأول تقني متمثل باختيار الممثلين، وتجلى هذا الاختلال بالتوازن بين الشخصيتين الرئيسيتين: نور وطبيبته النفسية، بشكل فاضح من حيث الاداء وعمق الشخصية. كان الفرق شاسعًا بين شخصية نور المؤداة على الخشبة وبين شخصية طبيبته التي لم ترتق إلى مستوى أداء صالح بكري الذي استجاب للشخصية ومؤثراتها إلى حد كبير نسبيًا.
كان بكري وكأنه وحده على المسرح، يستمد قوته ويطلقها من ذاته ليحبطها من يقف قبالته. خاصة في الجلسات العلاجية. ومن معلوماتي المتواضعة جدًا جدًا في العلاجات النفسية، أعلم جيدًا أنّ على الطبيب النفسي أن يحتوي المعالج وألا يتحدث معه بحدة وهو مكتوف الايدي وأن يكون هادئًا وليس منفعلا وأن يقنع الجمهور بتضامنه مع الشخصية وليس فقط لأن النص يعني التضامن، لأن الطبيب النفسي عليه أن يدرس كل حركة واجابة وسؤال. ولا يسأل لمجرد السؤال ولا يتضامن لمجرد التضامن.. ما كان غائبًا في "جنون".
ولا يمكن تجاهل الخلل التوازني الآخر المتمثل بالسؤال: "من اين تستمد الشخصية شرعيتها؟ واذا كانت الشخصية "ضحية" فمن الضروري التوضيح، ضحية ماذا؟. وهنا يأتي دور العائلة، أساس الشخصية وأساس بنيتها البدائية التي تطّورها إلى الحد الذي علينا أن نراه على الخشبة. لأن المسرحية أصلاً هي حال انفصام كبيرة. ونور لا يعاني وحده من هذا الانفصام . أمه تعاني انفصامًا متمثلا بعلاقتها مع ولديها، والطبيبة تعاني من تخبط بين المؤسسة وذاتها واخوه المغتصب يعاني هو أيضًا. وانفصام الشخصية لا يأتي من الهواء! لا بل هو نتاج عوامل جوهرية في سياقها لم يتم التركيز عليها ولا في أي حالة تذكر إلا في حالة نور.
نور، ضحية مجتمع وعائلة. ولكن بعد إعداد المسرحية وتحويل لهجتها من التونسية إلى الفلسطينية العامية. اختزل المعّد (تامر سلمان) تسع شخصيات بأربع شخصيات من دون أن ينقل عبء الشخصيات التسع على حياة نور وتكثيفها بالشخصيات الأربع المتبقية. لتظل الشرعية مبتورة. لها سياق مبتور ووضوح مبتور لا يخدم السير الدرامي. فمثلا: يعبّر نور عن كراهيته للنساء: "حاسس بدي اقتل"، يقول في بداية المسرحية لطبيبته، ولكن المعد وبخطوة غير مسؤولة تجاهل شخصيتين نسائيتين رئيسيتين أثرتا على حياة نور بطريقة او بأخرى وهما أختاه: الخرساء والمنحرفة، اللتان تكملان الصورة وتساعدان على فهم عقدة نور مع النساء.
ويؤثر الإعداد المبتور وليس المختزل، على الشخصية المركزية الاخرى وهي طبيبته النفسية التي هي أيضًا ضحية للمؤسسة. واختار المعّد بأن يكون مباشرًا عن طريق كتابة مونولوج للطبيبة يختزل من خلاله معاناتها بأربع جمل مباشرة على طبق مباشر للجمهور كوسيلة للخروج من مأزق المعاناة وتبريرها. ولم تكن المونولوجات أصلاً مقنعة من ناحية فنية أو تمثيلة أو حتى درامية منطقية. وهنا فقدت "جنون" التوازن بين شخصية الطبيبة وبين ما أدى الى ان تكون هذه الشخصية هكذا. ومن الممكن ايضًا ان نسأل عن الطبيبة وتخبطها مع ذاتها؟. فهي خرجت عن المألوف إلى غير المألوف والمرغوب، إذن، لماذا لم يظهر تخبط كيان الطبيبة مع ذاته؟ فهل كان ابتعادها عن المألوف المؤسساستي هو المشكلة أم أن هناك قضية بينها وبين ذاتها؟ سؤال للمخرج أيضًا.
أدّى الفنان صالح بكري دوره بمصداقية كبيرة. كان الأفضل على الخشبة من دون منافس. استطاع بكري استحضار الشخصية المبتغاه وعندما كان على الخشبة وحده كان حضوره مقنعًا بدرجات عن حضوره مع شركائه على الخشبة من دون استثناء أحد.
أعتقد وبتطرف ربما، انه كان على مسرح "الميدان" أن يستفيد من خبرة أخصائي نفسي خلال المراجعات كلها لحل هذه الاشكاليات ولإزالة الضباب عن علاقة نور بامه وأخيه الخارج من السجن. ولماذا أمه اصلاً قاسية وتميز بينه وبين اخيه؟ واين تجلت هذه القساوة؟. وهنا وضعت المسرحية في سياق العناوين. عنوان يتلو الآخر وشعار يتلو الآخر من دون مصداقية، وكأنك تقرأ عناوين كاملة في صحيفة ولكن مضمونها مهشم لغويًا وحقائقيًا.
المكان المسرحي هو علم قائم بحد ذاته. ويجب استغلال كل زاوية من خشبة المسرح. ولكل مكان جوّه الخاص وطاقته الخاصة وخلفيته الخاصة. من أين يخرج الممثل وكيف يتحرك من مكان إلى آخر مع تبرير لكل حركة. شاهدنا الممثلين في جنون ضحية للباب الموجود وسط فضاء الخشبة.
برأيي فإن الباب لم يضف شيئًا سوى قطعة خشبية كبيرة كسرت فضاء المسرح لتحدده وتحد منه مما أثّر على حركة الممثلين. ففي حال وضع باب على الخشبة علينا ان نستغله مع الفضاء المتروك خلفه.
للموسيقى دور أيضًا واذ قمنا بتحضير ديكور جديد ووسيلة اخراجية وملابس جديدة وفضاء جديد، فلماذا نستعمل فوق كل هذا موسيقى عمر فاروق المستهلكة في المقاهي لتضيع خصوصية المسرحية بين نغماتها؟ إن ازالة عنصر مهم مثل الموسيقى (حتى من ملصقات المسرحية) يكسر كمالية العمل بشكل فاضح. وهذا ما كان.
مسرحية "جنون" الأصلية، من أروع ما كتب برأيي. ولكن ما شاهدناه في حيفا كان عمل ينقصه الكثير: اداء مسرحي غير متكامل، و"نهفات" غريبة غير مفهومة من حيث الملابس، وتكبير الأم عن طريق حشو ملابسها بالصوف. وارتداء الطبيبة النفسية الفستان الأحمر وكأنه إشارة للتحرر رغم أنه كان إشارة مراهقة لا معنى لها. ففي علم النفس التحرر يأتي من الداخل وليس عن طريق الفساتين.
الديكور كان متواضعًا إلى حد العصبية. وأحيي فكرة كيس الرمل التي أحسن استغلالها على الخشبة. كانت فكرة موفقة وشاعرية.
مع كل هذا وبرأيي، كان من الأفضل لو أعدت المسرحية إلى مونودراما يمثلها صالح بكري.

جنون
تأليف: جليلة بكّار
إعداد: تامر سلمان
تمثيل: صالح بكري وحنان حلو وجواد عبد الغني وعرين عابدي.
إخراج: سامح حجازي

التعليقات