الحرب بقفازات بيضاء../ د.ناديا خوست

-

الحرب بقفازات بيضاء../ د.ناديا خوست
نشر الدكتور عبد اللطيف ياسين كتابا عن الجنس والمرأة عبر التاريخ، مستندا إلى الحاجة التي يشعر بها كطبيب يواجه ما يتصل بحياة مرضاه الشخصية. لكنه أضاء العرض التاريخي، الذي تناول موقف الشعوب القديمة من المرأة والجنس، ومواقف المجتمعات المعاصرة، برؤية الكاتب المنحاز إلى الإنسان. فلامس المفاهيم المركزية في المنظومات الأخلاقية التي قدست الحياة الإنسانية، وتأملت في دهشة مولد الإنسان، واحترمت العلاقات الطبيعية بين الرجل والمرأة، وتوجست من العلاقات المثلية والشاذة.

يستنتج من يتابع ذلك العرض التاريخي أن مستوى العلاقات الاجتماعية الاقتصادية، ومشاركة المرأة في العمل العام، حكمت الرؤية الأخلاقية. ومع ذلك تمتنع المطابقة بينهما ببساطة لأن المجتمعات محملة بتراث العادات والرؤى التي تتنقل من مرحلة تاريخية إلى أخرى. فحضارة الأنكا منعت الرجل من قتل زوجته الزانية، والمايا أدانت اللوطي. وشعب الأزتيك أوصى الفتى بأن يحترم نفسه فلا يترامى على النساء، وطلب منه أن يضبط نفسه ويتميز بالإباء. والمصريون القدماء أوصوا الطفل باحترام أمه "التي ربته وتحملت أوساخه وراقبت تعليمه".

لا يفوّت الكاتب، خلال ذلك، تصحيح الرؤية المتداولة عن المرأة اليهودية. ويسرد معلومات عن أصل العبرانيين، وعن أصالة العرب في فلسطين قبل الإسلام. وينبه إلى العنصرية التي تبيح لليهودي، في العلاقة بمعتنقي الأديان الأخرى، ما لا تبيح له في العلاقة بأبناء دينه. ومقابل ذلك يذكّرنا بمكانة المرأة في الحياة العامة في أول الإسلام، وبأن النبي الكريم أوصى بالنساء.

وكأن الكاتب الطبيب يرد، بمعلومات علمية وتاريخية، على هيجان يقصد أن يضع الجنس مكان المسائل التي تشغل العرب في المنطقة. يقول: "حرصت في كل ما كتبت عن الجنس على ربط ممارسة الجنس بمنظومة القيم الإنسانية، للارتقاء بهذه العملية الغريزية إلى الأبعاد السامية".

توجز هذه الجملة مسار الإنسانية من البدائية المتوحشة إلى الحضارة. وتبيّن أن الجنس يُرى من خلال منظومة أخلاقية فكرية. يؤسس الكاتب الموقف من المرأة والجنس، إذن، على علاقات اجتماعية اقتصادية سياسية. لذلك نراه يتابع المؤامرات الكبرى لتقسيم الأرض العربية، ويفحص المؤتمرات التي بحث فيها الغرب "خطر" أن تمسك الشعوب بثرواتها الوطنية. فيذكر أن رئيس وزراء بريطانيا هنري كامبل بنرمان دعا المفكرين والباحثين في سنة 1905 إلى اجتماع نبه في بدايته إلى حقيقة تجب مواجهتها بمخطط سياسي يبنى على دراسة.

قال: تنشأ الإمبراطوريات وتتسع ثم تضمحل، فما هو السبيل إلى مدّ عمرها، وإبعاد نهايتها؟ وضع السؤال في أيدي المفكرين ليقترحوا له الحلول. فهل نتبين في هذه البداية الوعي الغربي الذي يفهم دور المفكرين الثمين، ومكانة الثقافة في البناء وفي التخريب؟! انتهت دراسات أولئك المفكرين بتقرير إلى وزارة الخارجية وضّح أن الخطر يأتي من منطقة "يعيش فيها شعب واحد تتوافر له وحدة التاريخ والدين واللغة ومقومات الترابط الاجتماعي، بالإضافة إلى توجهاته الثورية وثرواته الطبيعية". لذلك يجب على الدول الغربية تجزئة تلك المنطقة، وفصل جزئها الإفريقي عن جزئها الآسيوي. واختراق ثقافتها لتقبل تقطيع المجتمع. كيف؟ بنشر الثقافة السطحية، والحزازات الطائفية، وتضخيم الخلافات البسيطة لتصبح كأنها صراع مركزي، وإلهاء الناس بالقشور الفكرية. والهدف تفكيك البنية الاجتماعية.

يرى الدكتور عبد اللطيف ياسين أن ذلك يطبق في زمننا، في المستوى الثقافي، بتسويق المصطلحات الفارغة، والانفتاح على "الآخر". ويأخذ من إدوارد سعيد التنبيه إلى "الحرب اللطيفة" على العرب بمجلات الأزياء، ومسابقات الجمال، والبرامج التلفزيونية، والدعارة الإعلامية الجنسية. يُستخدم في هذه الحرب على العرب والمسلمين، كما جاء في كتاب "أسياد الجاسوسية الإسرائيلي": الوصوليون والانتهازيون، والطامحون إلى النجاح والمال، والمغرّر بهم.

يعبّر الكاتب في نهاية كتابه عن إيمانه بانتصار المقاومة العربية. ويمكننا أن نقتطع من الخاتمة قوله: إن أية حضارة تفقد الإيمان والأخلاق والروح الإنسانية تسير إلى الزوال. لنذكّر بأن الانهيار الأخلاقي، والفساد المهني، وتمزيق الروح، أهداف تواكب الخزي السياسي العربي والعدوان على الروح العربية. ونرى في الحرب التي تمارس اليوم على العرب والمسلمين: إثارة القتال الطائفي، وتهجير المسيحيين وحرق كنائسهم، بالرغم من احترام الإسلام الأديان السماوية، والقتال بين القبائل الذي يبيح التدخل الدولي. وفي الثقافة نلاحظ مثلا أن البنيوية ظلت زمنا طويلا مقدسة في أبحاث النقد العربي حتى عندما هجرها مبتكروها. وتلتها نظرية موت المؤلف، ثم مصطلحات غربية لا علاقة لها بمجتمعاتنا كالحداثة وما بعد الحداثة. كم تغنينا بمسرح اللامعقول! واللامعقول هو ملاحقة المهجرين الفلسطينيين من مدنهم وقراهم ثم قصفهم في المخيمات. واللامعقول أن نتناول الجسد والجنس كأنهما قضية أدبية، بينما تقتل الأجساد العربية وتسرق أعضاؤها. واللامعقول أن يسيل النفط العربي إلى إسرائيل وغزة في جوع وبرد. واللامعقول أن يجر العرب إلى مفاوضة إسرائيل، بدلا من ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين. وأن يوظف المال العربي ضد المصلحة العربية العليا.

أما حداثتنا فهي أولئك الأطفال الذين يعبرون عن وعي رفيع وهم دون العاشرة من العمر. وهي صبر الأطفال والنساء على البرد والجوع والمرض في بلد محاصر. الحداثة أن يعيش عرب تحت الأنقاض ومجرمو الحرب الذين هدموا بيوتهم يختالون أمام الكاميرات الصحفية. والحداثة أن يكون من يقطع البحر والبر ليتضامن مع المحاصرين العرب غير مرغوب به في بلاد عربية، وأن يستقبل بالسجاد الأحمر من يقصف أطفالنا وأشقاءنا! والحداثة أن يعرف عدونا أن تخريب الثقافة سبيل لتفكيك المجتمع، وألا نفهم دور الثقافة والإعلام في تعبئة البنية الروحية بالمقاومة، أو تثبيطها!

نبه السيد حسن نصر الله إلى علاقة المخدرات بإسرائيل. ووضح السيد رئيس الجمهورية اللبنانية أن المعلومات تشهد على إشراف العدو الإسرائيلي على التجارة بها ونشرها. يستنتج العاقل، إذن، أن نشر مجلة الجنس، وإنفاق المال والدعاية على الروايات الجنسية، يقع في سياق "الحرب اللطيفة" المعلنة على العرب.

ويوضح ذلك إشراف المؤسسات الصهيونية عليها، بالاستناد إلى "الانتهازيين، والطامحين إلى المال والشهرة، والمغرر بهم"، والموظفين الذين انتقلوا من اليسار إلى اليمين كي يبقوا في مراكزهم. قد يحمل هذا لنا المفاجأة أحيانا بأسماء كانت ذات مكانة ما، حتى نتذكر أن المنعطفات توسع رؤية الأصيل ولو أوجعته، لكنها تسوق المرتزق أو الضعيف بما يناسب السلعة الرائجة في السوق!

التعليقات