الحيلة الروائية والحيلة النقدية/ إلياس خوري

-

الحيلة الروائية والحيلة النقدية/ إلياس خوري
لعل السحر الذي لا تزال تمارسه رواية الطيب الصالح: موسم الهجرة الي الشمال علي قرائها نابع من حيلتها الروائية المركبة. الرواية التي استعادت عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، و الحي اللاتيني لسهيل ادريس، استطاعت تجاوز الروايات التي سبقتها، ليس بسبب عمقها الثقافي الذي يستند علي اعمال فانون وكونراد وغيرهما فقط، بل اساسا لأنها نجحت في تجاوز تبسيطية العلاقة بين الشرق والغرب، مثلما شاعت في الادب العربي، عبر حيلتها الكتابية: المزج بين الموروث الشفهي الحكائي والبنية الروائية من جهة، واقامة الالتباس الغني بين الراوي والبطل.

ليست الحيلة الادبية مجرد لعبة شكلية، ولا نستطيع اختصار الرواية بموقفها التوفيقي الذي يدعو الي العودة الي الهوية، مثلما هو حال روايتي الحكيم وادريس. اشكالية السرد القائمة علي الحكي، تفتح احتمالات المتخيل، مستعيدة المدونة الحكائية العربية التي تمتد من الف ليلة وليلة الي ما لا نهاية له من ادب الحكاية المكتوبة والشفهية في آن. والتباس العلاقة بين الراوي (الذي لا اسم له) وبين مصطفي سعيد تسمح للقارئ بالافتراض ان مصطفي سعيد هذا، هو متخيل الراوي وتهويماته، و ليس شخصية رمزية مثل بقية شخصيات الرواية، كما اعتقد النقد العربي، بل هو مجرد حيلة او ذريعة كي يترك الراوي لنفسه حرية التهويم والتخييل ، وتركيب حياة من الافكار والرغبات، حقيقتها نابعة من صورة وهمية عن العلاقة بين الرجل العربي والمرأة الاوروبية.

استهوتني هذه الحيلة طويلا، وفي كل مرة اقرأ مع طلابي هذه الرواية، نقوم بمقارنة شخصيتي الراوي ومصطفي سعيد لنكتشف انهما تتكاملان، ما نعرفه عن احدهما لا نعرفه عن الآخر، هذا التوازي الشامل، والنهاية الغريبة المتشابهة للشخصين، تجعل من افتراض كونهما شخصا واحدا احتمالا كبيرا، بل هو عنصر السحر الخفي الذي يصنع من الكتابة حيلة، مستعيدا حيل المقامات، او حيلة الدفاع الشهرزادي عن الحياة.

وجوه التكامل بين الشخصيتين مدهش، نعرف الكثير عن اقامة سعيد الطويلة في بريطانيا، بينما لا نعرف عن الراوي سوي انه درس الشعر الانكليزي هناك. مصطفي سعيد قضي سبعة اعوام في السجن في بريطانيا بعدما قتل جين موريس، بينما قضي الراوي سبعة اعوام هناك للدراسة. نعرف اسم زوجة سعيد السودانية، ولا نعرف شيئا عن زوجة الراوي، حتي اسمها لا يرد في الرواية، والي آخره... كي نصل في النهاية الي لعبة المرايا التي تضفي مسحة خرافية علي مناخات الرواية بأسرها وتقود الي مشهد الغرفة الانكليزية في القرية السودانية، حيث يري الراوي صورته في المرآة فيعتقد انها صورة مصطفي سعيد.

التوازي والحكي والتهويمات والمرايا، تطلق الخيال من عقاله، وتفتتح صفحة جديدة في الرواية العربية قائمة علي استعادة حيلة الحكي، وتحويلها الي حيلة سردية في داخل المبني الروائي الحديث.

حيلة الطيب الصالح، جري توظيفها في شكل لافت في مؤتمر الرواية العربية الذي عقد مؤخرا في القاهرة. اتت حيلة الناقد كي تستخدم حيلة الروائي من اجل انقاذ جائزة كاد موقف صنع الله ابراهيم الشجاع والمشرّف، حين رفضها في الدورة الماضية، ان يطيح بها.

الناقد جابر عصفور، رئيس المجلس الاعلي للثقافة في مصر، اكتشف ان الناقد يملك الحيلة ايضا. وكانت حيلته بسيطة ولا تخلو من الذكاء. الطيب الصالح كان رئيس لجنة التحكيم في دورة صنع الله ابراهيم. اعضاء اللجنة شعروا بمهانة عميقة من العرض الروائي ـ المسرحي الذي قدمه ابراهيم. وهناك تردد ان لم اقل رفض مصري للقبول بالجائزة بعد الذي حصل في الدورة الماضية. الحل الوحيد هو منح الجائزة لكاتب لن يرفضها من جهة، ويمتلك قامة ادبية كبيرة تجعل التشكيك في الجائزة نافلا من جهة ثانية.

الطيب الصالح هو الحيلة ـ الحل المثالي. هكذا نجح الناقد الحصيف، ممثلا بجابر عصفور في ان يثبت للكاتب انه يستطيع استخدام الحيلة نفسها، محولا المؤلف هذه المرة الي شخصية ميلودرامية.

قد يأتي من يعترض ويقول ان خدعة صنع الله ابراهيم لادارة ملتقي الرواية في الدورة الماضية، حين اوحي لها انه وافق علي الجائزة، ثم جاء الي القاعة ورماها بأسلوب فضائحي، هي عمل ميلودرامي ايضا. وهذا قد يكون صحيحا، لكنه يجد تبريره في ان الخدعة كانت وسيلة مؤلف شرف لايصال رأيه وموقفه من النظام المصري.

الطيب الصالح لن يعترض، كما اظن، علي استخدام كلمة ميلودراما من اجل وصف الموقف الذي ارتضاه لنفسه حين قبل الجائزة، فالكلمة جزء من قاموس موسم الهجرة ، التي لم تتردد في بناء نهاية ميلودرامية لرواية احتلتها شخصية مصطفي سعيد الميلودرامية هي ايضا.

المسألة ليست هنا، اي ليست في الانقاذ الشكلي الناجح الذي توصل اليه جابر عصفور ولجنة التحكيم التي ترأسها ادوار الخراط. النجاح هنا كان لعبة حاذقة، اعادت تذكيرنا بأن السؤال ليس مجرد موقف شكلي، بل يمس بنية ثقافية كاملة بنت تحالفا بين السلطة والثقافة الحديثة بحجة مواجهة التيارات الاصولية الزاحفة.

هذه التركيبة تتهاوي اليوم. من مصر الي لبنان ترتفع صيحة كفي ، انها المقياس الثقافي والسياسي الجديد. لم يعد من الممكن التعايش مع انظمة الطوارئ الدائمة، والتجديد المتواصل وصولا الي الجمهوريات الوراثية.

شرط استعادة الثقافة لدورها هو الانخراط الجدي في المعركة الديمقراطية. انها الافق الوحيد، بعكس ما يظن امراء الظلام في امريكا، من اجل ان يستعيد الحق العربي مكانته، ويؤسس لمعركة الاستقلال الكبري، واستعادة الحق الفلسطيني، والكرامة العربية المهدورة.

جائزتنا الحقيقية هي الحرية، وانهيار الاستبداد، وهذا في حاجة الي ما هو اكثر اهمية من حيلة نقدية تحاول استخدام الحيلة الأدبية، من اجل انقاذ عالم مات ويحتاج فقط الي من يواريه الثري.

التعليقات