المعجم التاريخيّ للغة العربية هل نستطيع أن ننجزه بعد مائة عام؟/ د.علي القاسمي*

-

المعجم التاريخيّ للغة العربية هل نستطيع أن ننجزه بعد مائة عام؟/ د.علي القاسمي*
منذ أكثر من قرن من الزمان والمعجم التاريخي للغة العربية حلم يراود اللغويين والمثقفين العرب، بوصفه أداة معرفية لا غنى عنها لاستيعاب المفاهيم وتمثّلها. وكان مجمع اللغة العربية بالقاهرة قد وضع قضية تأليف المعجم التاريخي في طليعة أهدافه عند تأسيسه عام 1932، وعكف عضو المجمع المستشرق الألماني أ. فيشر على إعداده، ولكن نشوب الحرب العالمية الثانية ثم وفاة فيشر حالا دون إكمال هذا المعجم.

وقبل سنتين قرر اتحاد المجامع اللغوية والعلمية العربية تكوين لجنة المعجم التاريخي للغة العربية. وخصص مجمع اللغة العربية بالقاهرة دورته الثانية والسبعين التي انعقدت في المدة من 20 آذار (مارس) إلى 3 نيسان (ابريل) 2006 لتدارس الجوانب المختلفة لتأليف هذا المعجم. ثم عقدت لجنة المعجم اجتماعاً أعلنت خلاله إنشاء هيئة المعجم التاريخي للغة العربية وبدء العمل الفعلي العام الجاري في الإعداد لهذا المعجم.

المعجم التاريخي: طبيعته ووظيفته

المعجم التاريخي هو نوع من المعاجم يرمي إلى تزويد القارئ بمعلومات عن أصل الألفاظ وتاريخها ومعانيها من خلال تتبع تطورها منذ أقدم ظهور مسجّل لها حتى يومنا هذا. وذلك يعني أمرين:
الأول، أن يضمّ المعجم التاريخي كل لفظ استُعمِل في اللغة، سواء يُستعمل في الوقت الحاضر أم لا.
الثاني، أن يوثّق المعجمُ تاريخَ كل لفظ في شكله ومعناه واستعماله ممثِّلاً لهذا اللفظ بعدد من الشواهد.

خطوات تصنيف المعجم التاريخي:

يحدد علم اللغة التطبيقي الحديث مراحل تأليف المعجم التاريخي بما يأتي:

(1) تحديد عصور تطور اللغة. ولا تقسّم حياة اللغة إلى عصور أو فترات بصورة اعتباطية، وإنما توضع الحدود التاريخية عند التحولات الثقافية واللغوية الكبري التي تؤثر في ألفاظ اللغة شكلاً ومضموناً. فمثلاً، تقسم حياة اللغة العربية إلى خمسة عصور هي: العصر الجاهلي، العصر الإسلامي، العصر العباسي، العصر الوسيط (1258ـ1850م)، العصر الحديث.

(2) إعداد قائمة بالمصادر والمراجع من المخطوطات والمطبوعات الموثَّقة، أي التي تشتمل على عنوان المصدر، واسم مؤلِّفه، وتاريخ صدوره أو العصر الذي ينتمي إليه. والمصادر إما مصادر أولية، أي نصوص لغوية كاملة وردت في كتب ومطبوعات، وإما مصادر ثانوية، مثل المعاجم والدراسات التأصيلية والتأثيلية والتاريخية اللغوية التي تبيّن أصل الألفاظ وتؤرّخ لتطورها.

(3) إنشاء مُدوَّنة لغوية مُحوسَبة، مكوَّنة من نصوص لغوية تُخزن وتُعالج وتُسترجع بالحاسوب، ويتمّ اختيار هذه النصوص من قائمة المصادر والمراجع من المخطوطات والمطبوعات الموثَّقة. ويشترَط في نصوص المدونة أن تكون متوازنة من حيث انتمائها الموضوعي، والتاريخي، والجغرافي، والاجتماعي. فيجب أن تنتمي نصوصها إلى جميع عصور اللغة، وإلى جميع البلدان الناطقة بتلك اللغة، وتغطي جميع فروع المعرفة من آداب وعلوم وفنون. وكلما كانت هذه المدونة ضخمة (حوالي ألف مليون كلمة مثلاً)، ازدادت مصداقيتها وكبرت منفعتها، فهي تزوّد المعجمي بجميع جذور الكلمات، وجميع الألفاظ التي استعملت، وجميع الشواهد (العبارات والجمل التي ورد فيها اللفظ المطلوب) التي تبين سياقاتُها تغيّر مباني الألفاظ ومعانيها عبر العصور.

(4) استخلاص جذور الكلمات ومشتقاتها والتعبيرات التي تدخل فيها من المدوَّنة اللغوية. فجميع ألفاظ مداخل المعجم الرئيسة والفرعية يتم اقتباسها من المدونة اللغوية.

(5) تكوين قاعدة شواهد موثّقة على مداخل المعجم. ويتم اختيار هذه الشواهد من المدونة بحيث توضّح تطور معاني ألفاظ المداخل واستعمالاتها عبر عصور اللغة.

(6) تحرير مداخل المعجم. ويضطلع المحررون بإعطاء الشروح اللازمة المتعلِّقة بتطوُّر شكل الألفاظ ومعانيها واستعمالاتها انطلاقاً من الشواهد عليها. الشواهد، ولا غير الشواهد، هي التي تقرِّر معنى الألفاظ واستعمالاتها وتطورها.

مكوّنات مداخل المعجم التاريخي:

تتكون مداخل المعجم التاريخي، عادة، من عشرة أقسام، هي:
(1) ألفاظ المداخل الرئيسة، ويخصَّص مدخل مستقل لكل لفظ من ألفاظ المشترك اللفظي ذات الأصل المختلف.
(2) ألفاظ المداخل الثانوية، وتتألف من مشتقات ألفاظ المداخل الرئيسة، والتعبيرات الاصطلاحية والسياقية التي تكون ألفاظ المداخل الرئيسة جزءاً منها.
(3) التهجيات المختلفة للفظ، عبر عصور اللغة.
(4) المعلومات الصوتية والصرفية والنحوية، عن ألفاظ المداخل الرئيسة والفرعية.
(5) معلومات عن الاستعمال. وعلامات الاستعمال الشائعة تضمّ:
أ ـ مستويات الاستعمال (مثل: شعري، مهجور، نادر، عامي، إلخ.)ب ـ الاستعمال الجغرافي (البلاد التي يستعمل فيها ذلك اللفظ بذلك المعنى)ج ـ الاستعمال التاريخي (سنة ظهور اللفظ أو المعنى، أو عصره)د ـ الاستعمال الموضوعي (الفرع العلمي أو المهني للفظ مثل: قانوني، هندسي، إلخ.)هـ ـ الاستعمال الأسلوبي (التفسير الذي يعطي للفظ مثل: مجازي، تهكمي، إلخ.).. و ـ الاستعمال الإحصائي (شيوع أو تكرار اللفظ في المدوَّنة اللغوية).
(6) المعاني المختلفة للفظ المدخل، وترتب هذه المعاني ترتيباً زمنياً تاريخياً.
(7) التعريف: هناك استراتيجيات مختلفة للتعريف. ولعل التعريف التحليلي الذي يقوم علي الجنس والنوع، يساعد على توضيح العلاقات بين المعاني المختلفة للفظ المدخل.
(8) الشواهد. وتوضِّح الشواهدُ المعاني المختلفة المسندة للفظ المعرَّف، وتُرتَّب هذه الشواهد ترتيباً تاريخياً. وينبغي أن تكون أصيلة غير مصطنعة.
(9) المصادر الأولية والثانوية.
(10) ملاحظات وتعليقات محرِّر المعجم.

صعوبات تأليف المعجم التاريخي للغة العربية:

إن تأليف معجم تاريخي ليس بالأمر الهين، حتى إذا توفّر المال اللازم لذلك. فقد استغرق تصنيف معجم أكسفورد للغة الإنكليزية أكثر من سبعين عاماً، واستغرق إعداد نظيره الفرنسي أكثر من ستين عاماً، واستغرق إعداد معجم غريم التاريخي للغة الألمانية أكثر من قرن كامل. ومع وجود الحاسوب وتقنيات معالجة المعلومات، نطمح إلى إنجاز المعجم التاريخي للغة العربية بمدة أقصر. غير أن العائق الأول هو عدم امتلاك هيئة المعجم التاريخي للغة العربية مدونة لغوية محوسبة.

والمدونات اللغوية الموجودة حالياً باللغة العربية، قد لا تتوفر فيها المواصفات اللازمة أو قد تكون خزنت في الحاسوب بطريقة لا تسمح بجميع أنواع البحث اللغوي المطلوب لتأليف المعجم التاريخي. ويتطلب إعداد المدونة اللغوية المثالية سنوات عديدة خاصة مع غياب طريقة المسح الضوئي الكامل للنصوص العربية.

ومن العوائق عدم وجود عدد كاف من المتخصصين في الدراسات التأصيلية والتأثيلية وصناعة المعجم، أضف إلى ذلك كله أن هيئة المعجم التاريخي للغة العربية ليست لها ميزانية من الحكومات العربية، وإنما تعتمد على تبرعات الأفراد والمؤسسات. ولهذا كلّه، فإنني لا أتوقع أن نستطيع إنجاز المعجم قبل مرور مائة عام.


* عضو لجنة المعجم التاريخي للغة العربية

عن "القدس العربي"

التعليقات