الموسيقار الفلسطينى خالد جبران: أسعى لتأسيس مشهد موسيقي فلسطيني

الموسيقار الفلسطينى خالد جبران: أسعى لتأسيس مشهد موسيقي فلسطيني
بين أحضان القاهرة القديمة احتضن أحدث مسارح القاهرة "الجنينة" بحديقة الأزهر،التابع لمؤسسة المورد الثقافي آخر حفلات الموسيقار الفلسطيني خالد جبران مع فرقته الجديدة ليلك، التي يشارك بها أخوه المطرب الشاب ربيعن وعازف العود والبزق الفلسطينى الموهوب تامر أبوغزالة، وعازفة التشيللو الإنجليزية شيرلي سمارت، وعازف الإيقاع و الناي الإيراني هومان بورمهدى. كما يستعد لجولة فنية عربية تشمل البحرين، الأردن وعمان، ويشارك بعدها بمهرجان العود بمدينة تطوان المغربية. وسيصدر له خلال أسابيع ألبومه "مزامير خالد جبران".

على ربوة حديقة الأزهر المطلة على القاهرة التقيناه بعد حفلة.. وسألناه أولا عن مقطوعته الجديدة مزمور الصلب التى أحدثت صدى واسعاً بين الحضور.


-اثارتني كثيرا فكرة صلب الفلسطيني مجدداً.. بدايةً حين نفي من أرضه الى أرض أخرى ثم الى المخيم ثم صلب على باب المخيم -أيضاً - فى معركة غير متكافئة، حصار دام شهرين منع فيه وصول أي مساعدات إنسانية أو طبية، ثم اقتحامه بالمصفحات و المجنزرات، كان الاقتحام فى شهر أبريل /نيسان وفيه أسبوع الألام المسيحي و الاستعداد لاستقبال عيد الفصح، وجدتنى محملا بتراثى المسيحي أتساءل عن معنى الصلب، يصلب الفلسطيني والعالم يتفرج عليه فى الفضائيات، فىي هذه المقطوعة لا أصف ما حدث فى جنين و إنما انطباعي، وجدتني أصمت أسبوعين كاملين من هول المأساة ولا أجد ما يخرج الغليان داخلى سوى هذا المزمور.


-هل هو هروب ثابتا، كما فى أسفار أخرى مثل نشيد الإنشاد، وهوما يشابه كثيراً الحالة الموسيقية فى هذه المقطوعات، لكن عموماً لاتحكمني قواعد صارمة أو قالب مبلور، أبحث عن لغة موسيقية قادرة على التعبير عن كل انفعالاتىي بلغتي الشرقية العصرية.

-أجد حرية أكبر وثراء فى سلك طرق غير معهودة، مثلا فى مقطوعة "سفر" ألَمحت للسكك الأصلية فى مقام الغزام و طورت فى سكك غير معهودة، قد يأتي متزمتون ويرفضونه، لكن المهم بالنسبة لي هو هل هي متماسكة أم لا؟

-كان سؤال البحث عن الذات ملحاً لسنوات طوال، حتى جاءت الانتفاضة الأولى فتنبهت للإجابة عن سؤال أين أنا من حركة شعبي و شعرت بالحاجة للمشاركة فى التعبير عنه فكانت مرحلة التحول.
-ليست كثيرة..عُزفت لى مقطوعات حديثة للجيتار فى شيكاجو في العام 1992 حوارية لجيتارين، وعزفت لي الأوركسترا السيمفوني بالقدس في العام 1995 كونشيرتو للبيانو و وتريات اسمها اربع لمحات على 6 نغمات.

-أخذت من الموسيقى الغربية آليات وآفاق، لكن لم يحدث أن أمليت على الموسيقى الشرقية أي شيء، لكني عربي وشرقي أعتبر موسيقانا كاللغة الأم تعيش داخلنا، الخلل فى كثير من التجارب الحالية للتطوير ينبع من كوننا عالم ثالث والغرب عالم أول، يملك نفوذ وسائل الإعلام والانتشار وتفوقا حضاريا يجعل التأثير الحضاري هنا خطيراً.
-دَرست فى المعهد الوطني الفلسطيني حتى 2000، ثم أردت تقديم دور مكمل للطالب الذى تخرج من المعهد ومازال بحاجة للتدريب والتطوير حتى يصير عازفاً ماهراً، لذلك جاء الأرموي.. ننتقي الطلاب ونتبنى الطالب الموهوب ونوفر لهم التدريب ونحميهم من إغراءات السوق التجاري. هدفي خلق مشهد موسيقي قوي في فلسطين، نعطيهم كل الأسباب ليخرجوا الموسيقى الكامنة داخلهم، وحتى اذا لم يتوفر عندنا الأساتذة المطلوبين فى آلات بعينها، فاننا نرسل طلبتنا ليدرسوا فى مصر أو الأردن أو غيرها. نحن محاصرين من إسرائيل، لكن،أيضا السوريين محاصرين والمصريين وغيرهم بأساليب مختلفة.


-نعم، ولكن الوضع في فلسطين الآن على صعوبته أفضل، منذ سنتين كان الناس يمشون شاحبي الوجوه ولا يطرحون حتى تحية الصباح على بعضهم، لا فن ولا مسرح، كنا فى مهب الريح، كل يوم قصف وضرب، قررنا عمل شئ للإحياء من خلال مشاركات فنية لا تحتاج إلى بروفات، الأساس فيها حر، نأخذ الشباب الى مدن رام الله و بيت جالا وغيرها رغم الحصار، صارالموسيقيون يحبون المشاركة، استمرت التجربة واتسعت المشاركات، رغم صعوبات الإعداد والتنقل فى الحصار.


-سجلت أسطوانة أثناء عملي فى المعهد الوطني بعنوان "أم الخلخال" وهو اسم مقطوعة لعازف العود العراقى منير بشير، في حينه كانت أول أسطوانة "سي دي" تظهر بفلسطين بعيداً عن الموسيقى الحماسية والوطنية، كانت تخاطب لغة فنية محضة، لكنها ذات طابع تعليمي لطلبتي.

-رياض السنباطى ومحمد القصبجى، والأخير أعتبره أهم عازف عود على الإطلاق.

-الكنيسة الأرثوذكسية البيزنطية فى شمال فلسطين التى أنتمي اليها، لها ألحانها الشرقية الخاصة، انها تمتلئ بالمقامات، تتشابه كثيرا مع الألحان القبطية فى مصر، تستهويني دائما الألحان الدينية وتجويد القرآن، أجد فيها شيء من عصارة شعورمجتمع بأكمله، وهنا نحكي عن ما هو أكثرمن الفن، لذلك فى تدريبات الطلبة أجعلهم يستمعون الى تلاوات قرآن بعينها، وبالنسبة لي يظل الشيخ محمد رفعت هو المعلم الأكبرفى حياتي، أتعلم منه يوميا فى نقلاته بين المقامات، أعتبره أعظم موسيقي شرقي سمعته فى حياتي.


-مازلت أجرب فى القوالب والمقامات، أعطاني الاسم سفر داوود بالتوراة، لفت انتباهي كونه يأخذ تيمة واحدة أو اثنتين تتكرر بشكل تصاعدي، أوتراكمي ولم أجد لها فورم أدبي.

هذه المقطوعات كُتِبَتْ خصيصاً لآلات موسيقية بعينها كالعود أو البزق، وهي تضع الآلة الموسيقية في قلب عملية الإبداع، وبخلاف المعهود تُخاطب المستمع مباشرةً دون وساطة الكلمة المُغَنّاة ودلالاتها اللغوية, فهي إذاً: موسيقى تتحدث عن نفسها. تحاول هذه الموسيقى أن تستكشف أطيافاً أوسع للتعبير الكامن والممكن في الآلة الموسيقية الشرقية, وبغياب الكلمة يجد الموسيقي في آلته بوصلة بديلةً تُعينه على الإبحار في أعماق جديدة من الشعور الإنساني.

إن هشاشة القوالب الموسيقية المناسبة وقلتها، هي حقيقة معروفة لكل من حاول التأليف للآلة الشرقية. لكنها ضارةُ تغدو نافعة، بتوفر المضامين التي تدفع المؤلف إلى خلق قوالب حديثة تنمو وتتطور معها توازياً وفقاَ لطبيعتها.

إستخدام الموازين الخماسية كموضوع موسيقي (تيمة) تتطور طردياً مع التيمات الأخرى وليس كمجرد وحدة عدد وقياس في "أصفهان"، ساهم كثيراً في خلق وبلورة المبنى الملائم والخاص بهذا المزمور الذي لم يتشكل وفقاً لخطة بنيوية مسبقة. كذلك شأن تَحَرُرْ الصوت من مهمة نقل الكلام المُغَنّى و"تفسيره" موسيقياً في "بلو دايف"* واستحالته آلةً موسيقيةً تحلق في فضاء لحني مستقل تحاور منه الآلات الأُخرى بدلاً من استعبادها والاتكاء عليها كما جرت العادة في مرافقة الآلة للصوت. هنا أيضا أملي هذا التوجه الحديث ملامح المبنى الموسيقي المناسب لحوارية البزقين والصوت وآلة الإيقاع.

هل موسيقانا الشرقية تطريبيةٌ بحكم تعريفها؟ هل قدرها محتوم فعلاً بالتعبير عن "منتهى الفرح" أو "غاية الحزن" فقط؟ وما هما سوى: "طرفين نقيضين من الوجدان يتحدان فتغدو الحالة طرباً"! ماذا عن باقي الحالات النفسية والشعورية التي تُشكل جل كيانك النفسي اليومي وهي خارج خانة التطريب أو الوله والبكاء؟ ماذا عن الخوف؟ الحسد؟ ماذا عن الأمل، القلق، الملل، الجشع، الإحباط؟ والشجن؟ وماذا عن نشوة الإنتصار المؤقت عند اجتيازك الحاجز العسكري المجاور بسلام؟؟
ماذا عن العقيدة الإلهية إذ تتهاوى في أعماقك خزياً يوم يقوم "سيد العالم الأبيض" مدافعاً عن "صليبه المقدس" بصلبك واخوتك ولغة أمك على صفيح أكواخ مخيم جنين أو البصرة؟ ماذا تكتب أيها الموسيقي حينها وماذا تعزف؟ أموشحات أندلسية حالمة أم سماعيات تركية مُرَفهّة؟ وهل تتناغم إيقاعاتها الرصينة مع رشاقة وقع الصواريخ على ليل بيت جالا؟

أم تراك تهجرها باحثاً عن التعبير الموسيقي للموت صلباً؟

أُلِفَتْ هذه المقطوعات خلال أعوام الإنتفاضة الأخيرة كمنفذ وحيد من العبثية التي تهدد كيانك, وكردٍ وحيدٍ أُتقنه مجيباً على سؤال يومي يُطرح على كل عربي وشرقي: من أنت؟

مزامير 6،4،3،2،1: تأليف وتوزيع خالد جبران. مزمور 3: تأليف خالد وربيع جبران.
عزف:
خالد جبران – بزق: 6،4،3،1 عود: 5،2.
تامر ابو غزالة- بزق باص:3،1 عود:6.
هومان بور مهدي- زارب ودَف:6،3.
ربيع جبران - صوت:3.
تسجيل وميكس: ستوديوهات صابرين
فني صوت: عصام مراد
مساعدة انتاج: بولين نونو
تصوير: غارو نالبنديان و سعيد مراد
تصميم الغلاف: تيربو ديزاين
إنتاج: مركز الأُرموي لموسيقى المشرق- فلسطين

التعليقات