تجربة إدوار الخراط السردية منذ "حيطان عالية" وحتى "الغجرية ويوسف المخزنجي" /فيصل درّاج

-

تجربة إدوار الخراط السردية منذ
في سيرة إدوار الخراط الكتابية ما يثير الفضول، منذ ان بدأ يرود «أرضاً مجهولة» في بداية اربعينات القرن الماضي، الى ان استوى علماً من اعلام الرواية العربية بعد عقود اربعة. لم تكن بداياته، على رغم اختلافها، تشي بما وصل اليه، ذلك انه بلغ الخمسين واقفاً امام مجموعتين قصصيتين، احداهما ترد الى الاربعينات وعنوانها «حيطان عالية»، وثانيتهما تحيل الى زمن الخمسينات المنقضية وعنوانها: «ساعات الكبرياء». ومع ان «السنوات العجاف الناصرية» أملت عليه شيئاً قريباً من الصمت، على مستوى الابداع، فقد أثمر شغفه بالكتابة ترجمات عدة مبرهناً، انه يقف، دائماً، داخل الكتابة لا خارجها، في انتظار زمن خصيب موافق سيدعوه، لاحقاً، زمن «الحساسية الجديدة»، الذي تدفق سعيداً في روايات متدفقة.

ربما يكون في كتاب الخراط «الحساسية الجديدة»، الذي كتبه اكثر من مرة، ما يعلن عن مشروعه الكتابي كله، لأن في الكتاب ما ينقض وما يثبت، وما يصرّح بالموقع الذي يرومه صاحب النقض والإثبات معاً. فلكل حساسية كتابية زمن، بعضها تقليدي يلوذ بزمن تقليدي، وبعضها متأهب صابر ينتظر زمناً جديداً، يحرر المكبوت من قيوده. نقرأ في كتاب «الحساسية الجديدة»: «والى الحساسية التقليدية ينتمي مشاهير الكتاب المصريين والعرب على تراوح تقديراتنا الممكنة لقيمتهم الغنية، وهم الذين «استولوا» بمعنى من المعاني على السلطة الادبية في ساحتنا»، ويصبح القول اكثر تحديداً بالجملة الآتية: «إن الحساسية التقليدية في نهاية التحليل، هي رافد من روافد السلطة...». يعطي الخراط قوله واضحاً، وإن كان الوضوح لا يتحرر من الارتباك، وذلك لسببين على الاقل: فهو يساوي بين السلطة الادبية والسلطة السياسية، وهو ما لا يصمد طويلاً امام المحاكمة العادلة، فلم يهجُ احد السلطة السياسية كما هجاها نجيب محفوظ على سبيل المثال، منذ ان وضع روايته الاولى «عبث الاقدار»، الى ان اقفل مساره في «يوم قتل الزعيم». وهو يساوي بين السلطة السياسية والذائقة الادبية «الجماهيرية»، اللتين ترميان بالشهرة على طرف وتمنعان الشهرة عن طرف مختلف، وهو كلام لا ينقصه التعميم. وفي الحالات جميعاً يقف المبدع المختلف، الذي «استولى» غيره على حقه من الشهرة، فوق ارض غريبة. انه الغريب المختلف الذي ينوء تحت شهوة الانطلاق الحر، التي تعيد اليه ما يستحقه، والذي ينتظر زمناً يهتك ضحالة انصار «الحساسية القديمة».

لا تأتي قيمة الخراط الاكيدة من رفضه الغريب، الذي يجانس بين الواقعية والاستبداد، وهو كلام فقير البنيان، بل من عمله الدؤوب المقاتل، الذي يؤمن بالقول الذي يباطنه ايماناً شديداً، ساعياً بجدية كبرى الى احتلال الموقع الذي يريد، ومدافعاً عن الموقع الادبي المبتغى بأدوات ادبية. ولعل هذا الطموح المتوهج، الذي ينصر الحساسية الجديدة ويحمل بهزيمة الذين شاخت حساسيتهم، هو الذي اقنعه باعادة انتاج قول واحد لا يتغير في كتب كثيرة، كأن يعيد كتابة «الحساسية الجديدة» تحت عنوان جديد هو «الكتابة عبر النوعية»، او ان يوحد الكتابين مع ثالث ورابع في كتابه «مهاجمة المستحيل»، او «مناطحة» ما لا يُقبض عليه. والخراط في ما يفعل يكتب ويقاتل ويعدو ويعبئ ويحاضر، مستعيداً موقعاً «حُرم» منه، ومساعداً تلاميذ الحساسية الجديدة على التمتع بما حرمته منه «السنوات العجاف». وهو في مشروعه، الذي يدافع ويهاجم في آن، يكتب روايته اكثر من مرة، ويكتب «نظرية في الرواية» اكثر من مرة ايضاً، منتقماً من «الواقعية» انتقاماً متأخراً، وموجهاً سهامه الى تلاميذ شاخوا قبل الاوان، ومبرهناً لخصوم قدامى انه جدير بما هو جدير به، من دون الاكتراث بذائقة ادبية «جماهيرية» فاسدة، كما لو كان المبدع الحق يخلق نصه ونقاده وقراءه في آن. وهذه العوامل جميعاً تفرض على الناقد النزيه ان يميز في الخراط بين ذات مجتهدة شاءت مخلصة اقتراحاً أدبياً خاصاً بها، وبين المنتوج الابداعي النهائي الذي وصلت اليه. واذا كان الاخير قابلاً للمساءلة، او للتبني او التنكر بشكل ادق، فإن تقديراً واحتراماً لا يطاولهما الشك يذهبان الى شخص ذلك المبدع الغريب، الذي عالج الصخرة التي يشتهي، بالإبرة المتأنية حيناً وبالإزميل الثقيل الصاخب تارة اخرى. وسواء انجز الخراط «ثلاثية» خاصة به، وهو حكم معياري لا يعجب الكثيرين، ام بقي مشدوداً الى كتابة تعيد كتابة ما كتبت، فقد افلح في النهاية في خلق موضوع ادبي جديد، يفرض قراءته على النقاد جميعاً، صفقوا له من السطور الأولى، ام نظروا اليه «على مسافة»، الى جانب مساهمات روائية مغايرة، حققت «شهرتها» بأشكال مختلفة.

مزجت رواية محفوظ بين السلطة والتاريخ وانتهت الى عبث الوجود، متوسلة تقنيات ادبية غير مسبوقة، مرددة بنجابة مدهشة قولاً «بدئياً» اقرب الى النبوءة. فما قالت به رواية «عبث الأقدار» نطقت به «يوم قتل الزعيم» في شكل مختلف، فكل السلطات متماثلة، وكل السلطات قاتلة للعدالة. واذا كان محفوظ ينتمي، منطقياً، الى «الحساسية التقليدية»، فقد كان على الخراط ان يرود ارضاً عذراء، احتفظت بلمعة ترابها لقادم غريب مغترب مختلف. ولن تكون تلك الارض المباركة إلا الذات المفردة المتفردة الناظرة الى السماء، لا مقتاً لـ»مسوخ» الارض، بل تطلعاً الى الحقيقة والجمال المطلق. ولن يكون العشق المبرّح الباهظ اللاعج، بلغة الخراط، وقد تجسّد في انثى على صورة عاشقها، إلا الدرب الجميل الشائك اللدن الصعب الذي يأخذ بيد المسافر الى تخوم الحقيقة. خيار صوفي مسكون بالأسى، قوامه شوق نبيل واسع يصطدم بلغة تخذله، لغة غاوية مباركة مخادعة، كلما اسفرت عن وجه رمت الحجاب على وجوه لاحقة. لن يكون العمل الروائي، وكما اعلنت عنه رواية الخراط الاولى «رامة والتنين»، إلا عملاً شاقاً مجهداً في لغة لا يمكن ترويضها، لأن اللغة «معطى» يتراءى ويحتجب في آن. لكنه، مع ذلك، عمل لا يمكن الهرب منه، حاله حال المرأة الفاتنة المخادعة، التي كما اجهدت عاشقها زاد اندفاعاً اليها. والبحث في اللغة، بهذا المعنى، بحث عن المطلق المستسر، بل ان اللغة هي الشكل الفني الذي يطرق في مستوياته المتعددة نافذة مطلق لن تُفتح له، إلا صدفة. ولعل جدل الشكل والمطلق، وقد اتخذا من «اللغة الانسانية» عماداً لهما، هو الذي يجعل من «رامة والتنين، الزمن الآخر، يقين العطش» رواية واحدة، ويقرر روايته الاخيرة «الغجرية ويوسف المخزنجي» صفحة من صفحات رواياته المتماثلة. والخراط في سعيه متسق بعيد من التناقض، فالبحث عن الحقيقة يستلزم ذاتاً نوعية بعيدة من «المسوخ»، ولغة نظيفة متطهرة بعيدة من الابتذال. ومع ان في هذا التصور الروائي، المشدود الى المجرد والمتعالي وأغوار الروح، ما يعاند نثر الحياة اليومية الذي تتعامل معه الرواية، فقد استطاع الخراط، ان يربط في شكل غير مسبوق، بين الرواية والتصوّف وبين التخيل الروائي والتصور الديني للعالم وبين النثر العارض ولغة مشغولة صقيلة، استقرت فيها طبقات لاهوتية متعددة. وربما تكمن في هذه الخصوصية، التي تعارض الرواية بأدوات تريد ان تكون روائية، اهمية الخراط كلها، ذلك انه فتح الرواية العربية على إقليم جديد خاص به، واجتهد في استصلاحه وإعماره بإخلاص كبير، مكتفياً بفرد ترى اليه السماء ولا يرى الى الارض.

يقول الرومانسيون: «إن الفنان هو ذاك الذي مركزه في ذاته». اراد الخراط، في متوالياته الكتابية، ان يكون مركز ذاته، رافضاً المحاكاة والتقليد، ومستنكراً «الواقع» وهو يضع هذه الكلمة بين قوسين، الذي ينتج كتابة واقعية تتشابه، او تكاد. كان في رفضه يحاور ذاتاً تريد ان تكون مع الآخرين وفوقهم، ويخلق روائياً ما باح به وما اختزنه صامتاً، اذ البطل، أي بطله، شامخ يرنو الى النجوم، وإذ اللغة، أي لغته، لها قاموس ذاتي لا يشاكل غيره. أديب خاص عاف ضفة، احتشدت بأسماء شهيرة او هزيلة الشهيرة، ورأى الى ضفة أخرى لم يرها غيره، وصنع من جهده الدؤوب جسراً يعبر فوقه الى ارض مشتهاة، حلم بها وهو «يرود المجهول»، مع قلة قليلة، قبل ان يبلغ العشرين من عمره. كأن الخراط، الذي وضع مركزه في ذاته، اراد ان يكون بطلاً في الكتابة، او كاتباً يحكي عن بطولة اخرى، الى ان اصبح ذلك «البطل»، الذي انبعث من حبر كثير وصفحات من الكتابة لا تنتهي.


التعليقات