تعلّم الأناقة في "ثلاثة أيّام" عند زكي درويش / تركي عامر

تعلّم الأناقة في
النّقد ليس شغلي واحترافي. "يا لشوقي واحتراقي"! مجرّد حَنِينْيَا (nostalgia) باذخة إلى أيّام، لو استطعنا إلى أَرْشَفَتِها سبيلاً من أحلام خالصٌ تاريخُها غيرُ المخلِّص لجغرافيّتها الخالصة، لَجاءت التّرجمة على بعض إخلاص. أعلن أنّي لست ناقدًا. على المتضرّرين أن يتوجّهوا إلى أقرب مَبْكى من مكان سُكْرَاهُم، وليركبوا أعلى خيلهم (وليلهم)، وليواجهوني في محكمة البطّيخ! لو اعتذرنا عمّا نفعل (ونترك)، لَما ظلّ في الغربال إلاّ حبّات (هبّات) قليلات. ثمّة من يغرقون السّوق (حدّ تعويم العملة المتداولة) ببضائع لا طلب عليها، ولا يعتذرون عمّا يقترفون من جرائم بحقّ الحبرانيّة، يستحقّون عليها تأبيدةً في زنزانة مكيّفة للكتابة، إلى أن يخترعوا حِمْضًا نحويًّا يشبههم تمامًا. أرتكب، من بين ما أرتكب، مقالات لا تتبنّى استخطاطيّة (strategy) نقديّة بعينها، مع احترامي لمذاهب القَدَاميّين ومدارس الحداثيّين، ولا تعتمد عقيدة (doctrine) عسكريّة في تعاملها مع النّصّ (مناورةً/ مداورةً/ محاورةً)، غير أنّها (المقالات) لا تتنكّر لغول المحبّة وعنقاء الموضوعيّة قدْر الإمكان والإِزْمان. آسف لطول الأفتوحة.

عكّا، مؤسّسة "الأسوار"، أواخر شباط 2010، على ضفافِ احتفائيّة بالرّوائيّة المغرّبة إلى أستراليا دينا سليم، التقيت الكاتب زكي درويش. أهداني آخر إصداراته، "ثلاثة أيّام". سبع قصص قصيرة في ثمانين صفحة. قرأتها في أقلّ من ثلاث ساعات، وذلك لأسباب ثلاثة، أمّا الرّابع عشر: لغة واضحة لكن على أناقة، بسيطة لكن على عمق. ليس من السّهولة بمكان التّوصّل إلى خلطة الواضح ـ الأنيق ـ البسيط ـ العميق، إلاّ إذا كنت من الرّاسخين في العلم والعمل به، لا بل ومن الدّائخين في الحلم والحمل به. إلى ذلك، والحديث ما زال عن "ثلاثة أيّام" زكي درويش، تسلسل في الأفكار دون تلاعب لفظيّ هنا أو تَلاَعُن تَوْرَوِيّ هناك، فلا بهلوانيّة تُخَضْخِض مصارينك لفرط الاستطرادات والتّداعيات، ولا إسهاب أو إطناب يجعلك تتوسّل: "طنيب على عرضك!". الجمل عنده، بين قصيرة ومتوسّطة، تفي بالمطلوب دون لفٍّ ودوران، مشيتها ليست متثاقلة كسُلَحْفاة ولا متقافزة كأرنب. لتمرير رسالة سرديّة أو حواريّة، يعتمد المألوف من علامات التّرقيم. لا يرهقك بنقاط متلاحقة عصبيّة بلا سبب، ولا بأقواس ومزدوجات غير ضروريّات، ولا بقاطعات يقطعن الطّريق على وصول الجملة إلى المتلقّي بسلاسة انتقال السّلطة غداةَ انتخابات ديمقراطيّة. ثمّة من تطول جملتهم، فما أن تمسك بذيل خبرها بعد كذاطعشر سطرًا، يكون رأس مبتدئها قد فارق الذّاكرة، ما يضطرّك إلى إعادة القراءة مشكّكًا بقدرتك على فهم المقروء (والمقروق).

الفقرات في "ثلاثة أيّام"، مقرّطات مسفّطات (كحطب وجَاقٍ قرويّ) بعناية فائقة، مع ترك فراغ بين الفقرة وجارتها، كحدّ فاصل بين الجارات احترامًا لخصوصيّة كلّ منها، ما يشي باحترام الكاتب للتّعدّديّة دون أن يقول. لا يمسخ قصّته منبرًا خطابيًّا للتّصريح، ببثّ فجّ ومباشر، بمبادئ وقناعات. يفعل ذلك بقطبة مخفيّة ماهرة، والشّاطرون يرون إليها تطلّ كخيط الفجر في آخر اللّيل (ليل الجملة). ما قلت حتّى السّاعة، يدفعني أن أوصي المعنيّين (ناشئين وناتئين/ مشاهير ومغامير) بمدرسة زكي درويش للأناقة الكتابيّة: فنًّا وفكرًا/ شكلاً ومضمونًا/ مبنًى ومعنًى. ضع دائرة غير مغلقة حول الثّنائيّة الّتي تتقاطع وصحّتك الأدبيّة. اثنين وخميس، نم بلا كلسات! سنة سنتين بتخفّ، بقدرة الباري قلم رصاص معتمرًا ممحاة خضراء أو حمراء.

سبحان من قسّم الأقلام ولم ينسَ من حبره أحدًا. منذ مدّة لم أقرأ كتابًا على نَفَسٍ واحد، أو كَرْعَةً واحدة، كما قرأت "ثلاثة أيّام" زكي درويش. لو علّم الرّجل في قريتنا، لَكان أحد أساتذتي في الابتدائيّة. بعض من إصدارات درويش يقيم على رفوف مكتبتي المترفة بدخان سجائري الرّخيصة. يعتريني كسل للبحث عنها الآن. جاءت "ثلاثة أيّام" خلوًا من بطاقة تعريف بالكاتب (في سطور وصورة) وبقائمة إصداراته. ماذا لو طبّ الكتاب في يد من يقرأ الكاتب للمرّة الأولى؟! أوليس التّعارف سنّة؟! أم أنّه شيعة؟! أحببت إطلالة درويش المتجدّدة، وفي الوقت نفسه أحترم قلّة تكشّفه للضّوء (ظنّي تلافيًا لخربطة ما في عمليّة التّمثيل الكلوروفيليّ). عودة إلى "ثلاثة أيّام"، ما الّذي يجعل كتابًا، في هذا العصر المحكوم بمِسْلاَطٍ وسِنْدٍ وإِنْتَر (العبسيّ)، يأخذك هكذا مأخذ؟! حنين حارق إلى رائحة الحبر وحفيف الورق؟! نوع الكتاب أم صاحبه؟! لغته الأنيقة أم سلاسة الأسلوب؟! مضامينه، أم ما يخفي من إيحاءات حالمة ويفجّر من تداعيات نائمة؟! خلوّه من علامات ترقيم لا محلّ لها من الإعراب؟! أم تخلّصه من زوائد لغويّة تنتسب إلى آل مطّاط، وأشقّائهم بالرّضاعة آل جاييك بالطّويلة؟!

في السّياق ذاته، ما الّذي يجعلك تُمَشْلِح الكتاب، عا طول إيدك، بعد قراءة الجملة/ الفقرة الأولى؟! ركاكة اللّغة أم رثاثة الأسلوب؟! غباء مغرور أم غرور غبيّ؟! تفاهة الموضوع أم ضحالة المضمون؟! أنيميا مزمنة في الموهبة والتّجربة والثّقافة؟! هنا يحضرني سميح القاسم: "للفنّان عمومًا ثلاثة أعداء: التّطفّل والتّقليد والمحدوديّة" (1984). قد تصير الأنيميا إلى لوكيميا بفعل هُتاك نرجسيّ مميت، فترى إلى من لم يطلع من قمع البيضة، لا كرونولوجيًّا بالضّرورة، يصرّ على إصدار كتاب ولو على خازوق. ما أجمل التّروّي والتّريّث، لا في الكتابة والإصدار فحسب، بل وفي الحياة والموت كذلك. كتاب انتحاريّ طَبَّ تحت يدي مرّة، قلت انتحارَذاك: إذا كان العنوان على غباء يقبّ له شعر الرّوح فكيف سيكون الكتاب؟! وما زال "الكتاب" يعاقر الدّخان على رفّ ما، أخفيه عن العيون، مساهمة في الصّحّة العامّة، على أنّه غذاء فاسد. في ما يتعدى سلامة اللّغة وبراعة الصّياغة، من المفروض أن يكون العنوان مغريًا/ مدهشًا/ مثيرًا. وبعد، "عدا عن جماله، يجب أن يكون العنوان لغزًا" (سعيد تقيّ الدّين)، أو لغمًا ينفجر بين يديّ القارئ.

زكي درويش أقلّ أدبائنا استخدامًا لواو العطف. الجملة عنده تعقب أختها عَ الدّعسة، دون الاتّكاء على عطوفة العاطفات العاصفات بالرّوح. أمّا الفضل في تنبّهي للمسألة الواويّة، فيعود إلى أستاذي في الابتدائيّة، البروفيسور سليمان جبران، في كتابه "على هامش التّجديد والتّقييد في اللّغة العربيّة المعاصرة" (إصدار "مجمع اللّغة العربيّة"، 2009). كذا بالنّسبة لمصطلحيّ المعياريّة والمحكيّة بدل الفصحى والعامّيّة. الاستغناء عن خدمات العطف، برأيي المعطوف على رأي جبران، يكسب القصّة/ القصيدة/ المقالة تكثيفًا حدّ التّفجير، ويحول دون مَطْمَتِها دون طائل. طلع الشَّعر على لسان الرّوح وهي تنبح: "الكتابة فنّ الحذف لا الإضافة". هنا يحضرني محمود درويش: "الهويّة هي فساد المرآة الّتي يجب أن نكسرها كلّما أعجبتنا الصّورة!". لا يقتصر الحذف على أداة هنا أو حرف هناك. ثمّة جمل، أو فقرات، لو شُيّعت إلى سلّة محذوفات غير قابلة للاسترجاع، لاستردّت القصّة (والقصيدة) صحّة في بدنها وعافية في روحها، ما يكسبها رشاقة كأنّها خارجة للتّوّ من حمّام بالحليب والعلّيق معلّقةً ثامنة. إرهاق النّصّ بواوات غير ضروريّة قد يُخضع القارئ لإنهالاتسيا (inhalation) عاجلة. ثمّة من يوصي بالواوات في غير موضع، لعلّها أكثر بركة. مش كده، يا حاج محمّد؟!

ثمّة ملفوظات عامّيّة، ليس للفصحى أن تجاريها جمالاً فونولوجيًّا ودقّةً في التّصوير والتّعبير. حبّذا صار الجميع إلى هذه المقايضة الفاغمة بين الشّقيقتين، لا سيّما البيضاء من المحكيّة، بمعنى أنّها مفهومة في حرفيش وحيفا كما في حلب وحلبجة كما في حضرموت والحجاز. زكي درويش، في "ثلاثة أيّام" على الأقلّ، أقلّنا استخدامًا للمحكيّ. قلّما نجد لفظة غير فصيحة في السّرد عنده، ولا حتّى في الحوار. يعتمد الفصحى السّهلة المتداولة، غير المتحذلقة وغير المتبرّجة، بعيدًا عن الإنشائيّة المتكلَّفة والمبتذلة، وبعيدًا أيضًا عن الإسفاف والتّفاهة. وهي، قبلاً، دقيقة جدًّا لجهة الرّسم والنّحو والصّرف وسواها من أوّليّات. لست ممّن يقيمون القيامة إذا ما أخطأ أحدهم بحقّ نقطتيّ التّاء المربوطة أو الهمزة الـ (.....ـة). لكنّي، قطعًا، لن أزعل إذا أتقنهما وسواهما من عناصر أوّليّة. عودة إلى لغة زكي درويش، لا يتوغّل في أدغال التّراث خارج التّغطية المعاصرة، لاستعراض ثقافة أو لإعلان تماهٍ. لا يغرق في شيء لا يخدم حركة النّصّ (سردًا وحوارًا)، إلاّ في الشّديد السّديد. لغته هي الفصحى الدّارجة على ألسنة النّاس، مدرسةً وثقافةً وإعلامًا وسياسةً، مفرداتها مألوفة للقرّاء، بصرف النّظر عن مدّخراتهم اللّغويّة ومحفوظاتهم الأدبيّة. وهو، أيضًا، أقلّنا إقحامًا لمفردات أجنبيّة في قصصه. كأنّي به (كاتبًا كما مربّيًا) لا يتنازل عن عروبة اللّغة، ناهيك عن عروبة الموقف. ولكن، مرّة أخرى، بعيدًا عن طنين الخطاب.

ليس آخرًا، ثمّة من ينتظر أن ألخّص له مضمون القصص. لا، ما حزرت. خذ الكتاب واقرأ، واعفني من مهمّة المخبر! التّلخيص، على الأقلّ، ليس من مهامّ السّسموغرافيا الثّقافيّة. وهذه أحد محاور النّقد الثّقافيّ الّذي بدأته في مقالة "لحظة القبض على الـ G-Spot" قبل أسابيع. أمّا المونوغرافيا الأدبيّة، وهذه ليست مهنتي، فهي أحد مجالات النّقد الأدبيّ الّذي أتركه لمن يتقنه أكثر ممّن خلّفوني. وأخيرًا، شكرًا، زكي درويش، لـ "ثلاثة أيّام" تعيد لأدبنا الثّمانيأربعينيّ بعض حياة.

حرفيش، الجليل، آذار (مارس) 2010


.

التعليقات