جان لوك غودار، الناقد والمخرج السينمائي السويسري(1)

-

جان لوك غودار، الناقد والمخرج السينمائي السويسري(1)
لقطة ولقطة عكسيّة
المُتخيَّل: اليقين
الواقع: اللايقين
مبدأ السينما: إذهب إلي الضوء واجعله يُشعُّ علي ليلنا، علي موسيقانا
من موسيقانا

لسبب ما يتعلق علي الأرجح في لاوعيي بطاقة وحيوية وعنفوان المبدع الذي عنه وعن فيلمه أسعي أن أكتب هذه المادة، لم يرد اسم جان لوك غودار، الناقد والمخرج السينمائي السويسري النشأة الفرنسي الجنسية والأيقونة الخالدة لسينما الموجة الجديدة الفرنسية، شفاهة أو كتابة، إلا وقفزت فوراً الي ذاكرتي ومخيلتي البصريتين صورة المخرج السينمائي الشاب والأشعث إلي حد ما، الوسيم لكن غير المهندم بصورة خاصة، المشاغب والفوضوي والرافض بلا مساومة أو تنازلات أو هوادة، المفكر والحالم، الصاخب والمتأمل، عدو المؤسسات من كل نوع ونصير بل والمتنبيء بمظاهرات الطلبة الستينية، والمتضامن مع حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، المبدع النخبوي المثقف أكثر مما تحتمله السينما بالصورة المعهودة كما يقول بعض من نقاده ومنتقديه الكثيرين، المتفلسف والمتشعرن والمتأرخ والمتجغرف و المتسسلج (نسبة الي السوسيولوجيا إن صحّت التخريجة) و المتأنثرج (نسبة إلي الأنثروبولوجيا إن حالف الصواب هذي أيضاً)، وغير المتواضع كثيراً في الغالب لكن غير المتغطرس عمداً، المخرج ذو الأفلام صعبة الفهم والهضم الذي يريد، مع ذلك، مخاطبة كافة الناس ، والذي يكنُّ أيما احتقار للثقافة الرأسمالية الإستهلاكية حيث سيمفونيات موزارت أعمال فنية رائعة لكنها تصبح بضائع تافهة حين تُسَوِّقها شركة سوني! كما يقول.. غودار هذا، إذاً، يحضرني دوماً في لحظة يبدو أن الزمن كان قد توقف فيها حين كان في اوائل الثلاثينات من عمره أو نحو ذلك.

لهذا كان الأمر ما يشبه الصدمة و اكتشافاً متأخراً للغاية بالنسبة لي حين ادركت في زحام الحياة ومشاغلها التي لا ترحم، وأبصرت بأم عيني لدي مشاهدة فيلمه الأخير موسيقانا (سويسرا، فرنسا، كانون الاول/ديسمبر 2004)، والذي يظهر فيه غودار ممثلاً دور نفسه كما هو الحال في بعض أفلامه، أن هذا المبدع الذي ارتبط في ذاكرتي بشباب وتجدد هائلين ودائمين قد اصبح الآن كهلاً أشيب الشعر في أجزاء الرأس التي لم يلحقها الصلع بعد، مهمل حلاقة الوجه ليس كالعادة ومُجَعَّدُه ومُخْدَودِهِ الآن، أنيق الملبس بلا تكلّف، حاد النظرات كما كان لكن غائرها الآن خلف نظاراته الطبية السميكة، مقتضب التعليقات لكن عميقها ومباغتُها كما كان، غير بَرِمٍ بالاسئلة الصعبة و الاستفزازات التي ربما كان من أشهرها ما صرخت به مخرجة فرنسية شابة في وجهه في لقام سينمائي عام في باريس قبل عقود: يا أيها السيد غودار، أنا لا أستطيع أن أكمل إنجاز فيلمي لسبب بسيط هو أنك وأمثالك تسيطرون علي السينما المستقلة في هذا البلد! ، وقد بلغ هذا الغودار في نفس اليوم الذي شاهدت فيه الفيلم بمحض الصدفة (الموضوعية؟)، الجمعة 3 كانون الاول/ديسمبر 2004، الرابعة والسبعين من العمر بالتمام والكمال!

تري، أهو الزمن الذي يمضي بلا هوادة، أم انه أنا من يعيش خارج الزمن (بالمعني الأكثر سلبية للإحتمال الثاني)، أم انه حضور غيابي وصدفوي ورمزي في حفل عيد ميلاد غودار الرابع والسبعين؟ لا أدري بالضبط، لكن ما أتذكره أن المخرج السينمائي السويدي المخضرم إنغمار بيرغمان بعث ببرقية تهنئة الي أكيرا كوروساوا، زميله الياباني العتيد، بمناسبة بلوغ الثاني سن الثمانين، قائلاً في ختام البرقية: فلنبدأ الآن في صنع الأفلام يا عزيزي فقد أصبحنا ناضجين لذلك! . إذاً، ليمد الله من عمر غودار في أية حال، وليؤيده بالصحة والعافية والمزيد من الأحلام والأفلام!

بدايات غودار

قبل ان ينخرط غودار في الإخراج السينمائي ترحَّل بين سويسرا وفرنسا وأمريكا الشمالية والجنوبية (سيقول لاحقاً أن ليس هناك تعريف دقيق وواضح ومحدد لما تعنيه كلمة أمريكا ، مما أغضب كثيراً من النقاد السينمائيين وغير السينمائيين الأمريكان)، عاكفاً علي كتابة مقالات نقدية في السينما لمجلتي فنون و دفاتر السينما الفرنسيتين الشهيرتين باسم مستعار هو هانس لوكاش. ومن هذه الأعمال مقالة شهيرة أسهم فيها غودار بإضاءة هامة حول الجدل العنيف الذي كان دائراً في ذلك الوقت في الأوساط السينمائية والفكرية بين أنصار نظرية المونتاج الماركسية التي كان الروسي سيرجي آيزنشتاين متحمساً لها فكراً وتطبيقاً (كتاباته المعروفة وفيلمه التشريعي الأشهر المدمِّرة بوتيمكين علي سبيل المثال)، من جهة، حيث كان هَمُّ آيزنشتاين محاولة بيان أن السينما لديها قدرة بصرية طبيعية علي إثبات صحة النسخة المبدئية (والتبسيطية، في الحقيقة) من الديالكتيك الهيغلي -- الماركسي، بمعني أن السينما، وعبر المونتاج، تستطيع أن تُري الجميع أن الفرضية + نقيض الفرضية = الجَمْيعَة ، ونظرية التركيب المشهدي (mise en scene) التي، من جهة أخري، رأي أندريه بازان، الذي كان حينها مفتوناً بتقنيات سينمائية أمريكية من قبيل التركيز العميق الذي تظهر فيه مناطق الكادر السينمائي الثلاث ـ الأمامية والمنتصف والخلفية ـ بنفس درجة الوضوح البصري (كما في فيلم أرسون ويلز المواطن كين علي سبيل المثال التشريعي الأشهر)، انها تشكل الحقيقة الأعمق للسينما ومستقبلها (ويحاجج بعض المنظِّرين السينمائيين اليوم ان الأمر كان انعكاساً لاواعياً لقناعات بازان الكاثوليكية العميقة خاصة في مراهنته علي تقنية اللقطة الكبيرة ذات التركيز العميق التي ابتدعتها السينما الأمريكية، والتي توازي فلسفياً وجمالياً الرؤية الإلهية النافذة والشاملة للكون والموجودات).

غير أن غودار، وفي الوقت المبكر ذاك، اعتبر أن كلا النظريتين المتصارعتين فيهما مبالغة، وانهما خِلْوٌ، في نهاية المطاف، من الاهتمامات الجمالية والأخلاقية الكبري أو الأكبر (وثمة لغودار، في الحقيقة، مقولة شهيرة يبوح فيها بأن سؤال الإختيار بين لقطة بان ولقطة دالي في التصوير السينمائي يشكل بالنسبة له مأزقاً أخلاقياً صعباً، أي أن هذا السؤال ليس تقنياً أو جمالياً كما هو الحال عند غيره، وقد كان لذلك مغرماً بترديد مقولة لينين المتفائلة والشهيرة ان الأخلاق هي جماليات المستقبل )، وأن مجال المونتاج هو الزمان، بينما مجال التركيب المشهدي هو المكان. وأظن شخصياً أن الزمن قد تضامن إلي حد بعيد مع غودار في أطروحته تلك، حيث زال معظم التعنتات والتطرفات النظرية في أي فيلم نشاهده اليوم سواء كان الفيلم ذاك قادماً من أقصي اليمين أو أقصي اليسار أو من الوسط بألوان طيفه المتعددة، بل وحتي من غير ذلك من جهات أخري جديدة تنبثق في راهن العصر هذا، (وثمة، في الحقيقة، لقطة شهيرة في فيلم بيرغمان، غير المغرم كثيراً بالسجالات النظرية، الفراولة البريّة ، لا بد من تذكّرها في هذا السياق، حيث يجتمع زمانان -- زمان الشباب البعيد وزمان الكهولة الحاضر ـ في نفس الكادر فيما عُرِفَ لاحقاً بـ سينما اللقطة )، حيث أن كلا الرؤيتين ـ المونتاج والتركيب المشهدي، عنيتُ ـ صارتا تُوَظَّفان بالمقدار نفسه خاصة مع تطور التقنيات السينمائية، وبغض النظر عن الموقف الأيديولوجي للمخرج، خصوصاً مع انتهاء الحرب الباردة وزوال كثير من تبعياتها الثقافية التفصيلية الدقيقة.

كان غودار، اذاً، يقرأ بشغف (دراسته الجامعية التي كانت في مجال الأثنولوجيا الذي أتاح له التعرف علي الآخر خاصة لجهة تزامن ذلك مع بدايات صعود المدرسة البنيوية في الفكر الفرنسي) ويشاهد الأفلام في السينماتيك الفرنسية العتيدة بصورة مجنونة متعرفاً إلي فرانسوا تروفو، وأندريه بازان، وكلود شابرول، وإيريك رومر، وجاك ريفيتي الذين سيشكل معهم لاحقاً سينما الموجة الجديدة التي صار الناطق الرسمي بإسمها ورمزها الأشهر، والتي تركت بصماتها الواضحة علي مسيرة السينما العالمية. وفي الوقت نفسه كانت بلدان أخري في أوروبا الغربية (آنذاك) تضيء سينمائياً برموز مشاغبة كبيرة مثل راينر فيرنر فاسبندر في ألمانيا، وبيير باولو بازوليني في إيطاليا، مما خلق حالة من الحلم الجمعي لدي أولئك المخرجين حيث كان ثمة شبح يُخَيِّمُ علي أوروبا .

وأثناء عمله بصفته عامل بناء في أحد سدود الماء السويسرية، هو القادم ليس من صفوف العمّال بل من خلفية طبقة وسطي عليا مريحة (والده كان طبيباً مرموقاً لديه عيادة خاصة ووالدته التي ماتت في حادث سيارة كانت تعمل في وظيفة متقدمة في قطاع البنوك)، أنجز غودار فيلما وثائقياً مدته عشرون دقيقة عن بناء السد بعنوان عملية بوتون (1954)، ثم حقّق في السنة التالية فيلماً روائياً قصيراً مقتبساً من قصة قصيرة لجي دي موباسان، مواطنه الشهير الذي يعتبر من الآباء الروحيين لفن القصة القصيرة.

غير ان بداية غودار السينمائية الفعلية كانت فيلمه الروائي الطويل الأول لاهث (1959) الذي فاز بجائزة افضل مخرج في مهرجان برلين السينمائي، والذي صَعَقَ فيه عالم السينما بتكريس اثنتين من التقتنيات السينمائية الطليعية اللتين سيتذكره بهما تاريخ السينما إلي الأبد: القطع المفاجيء المشوِّش والمُرْبك بين الأزمنة والأمكنة (jump cut) (والذي قال مرة انه معادل تقني وجمالي لما يحدث في حياته!)، والاستعمال الخلاق للكاميرا المهزوزة المحمولة باليد. وهذه الرغبة التوثيقية سوف تصبغ سيرة غودار الروائية اللاحقة حيث سيصبح الخطأ القديم صواباً جديداً. وفي صدد مشابه يتعلق بنزعته التجريبية والتخريبية ثمة حوار شهيرة سُئِل فيه غودار: ألا تعتقد أن الفيلم السينمائي ينبغي أن يتكون من بداية، ومنتصف، ونهاية؟ فأجاب: نعم، أعتقد ذلك، لكن ليس بنفس الترتيب بالضرورة! .

وفي العام التالي، 1960، انجز غودار فيلمه الثاني الجندي الضئيل الذي يعرض فيه لوحشية الحرب الفرنسية في الجزائر، والذي تأخرت اجازته في فرنسا لمدة عامين كاملين. وقد قامت الممثلة آنا كارينا بدور الشخصية النسائية الرئيسة في هذا الفيلم، كما قامت بأدوار رئيسة في عدد من أفلامه اللاحقة، مثل المرأة هي المرأة (1961) و حياتي التي سأحيا (1962)، وقد تكللت علاقة الإثنين بالزواج في 1961 ولكنهما تطلقا في 1964 (تكرر سيناريو غودار المهني والعاطفي نفسه في نهاية الستينيات مع الممثلة آني وايزمسكي: زمالة عمل، فحب، فزواج، فطلاق بعد سنوات قليلة من الاقتران).

وقد توالت أفلام غوادر بغزارة بعد ذلك، فحقق الجنود (1963)، وهو فيلم مُعادٍ للحرب لكن برود أسلوبه صدم الجمهور والنقاد الذين كانوا يتوقعون اشتغالاً عاطفياً و درامياً أكثر علي الثيمة، ثم ازدراء (أو احتقار ) المقتبس عن رواية للإيطالي ألبيرتو مورافيا (1963) والذي بدأ غودار فيه رحلته الطويلة والمتميزة في بحث علاقة السينما بالواقع علي الرغم من ان الفيلم، حسب الظاهر، يتمحور حول فشل علاقة زوجية، أي الثيمة التي تعرضت لها بإرهاق وملل شديدين أطنانٌ مُطَنَّنَة من الأفلام. هذا البحث الفكري كانت خطوته الثانية فيلم عصابة من اللامنتمين (1964) الذين يتحدَّون حدود العلاقات بين ما هو واقع وما هو متخيل، أي الموضوع الذي سيصبح قريبا ديدن غودار وشغله الشاغل، بينما كان فيلمه امرأة متزوجة (1964) نظرة عبوساً قمطريراً إلي مؤسسة الزواج والأسرة في المجتمع الفرنسي. وفي الفيلم هذا يرسم غوادر خطين متوازيين بين اللامرئي في مؤسسة الزواج و اللامرئي في مؤسسة السينما، ولهذا يصبح الفضاء الواقع خارج الشاشة، أي الفضاء الذي لا نراه ولا نعرفه، مجال حدث لا يقل أهمية عما نري، خاصة في لقطة شهيرة تتجه فيها نظرات اثنتين من الشخصيات الي المكان الواقع خارج الكادر السينمائي.

أما فيلم ألفافيل (1965) فقد كان مغامرة غودار الأولي في سينما الخيال العلمي، وهو فيلم يرسم في نبوءة صارمة صورة قاتمة للمجتمع التكنولوجي المعاصر. وحول جوانب أخري من الاغتراب السياسي والوجودي في عالم لا فرق يذكر فيه بين الواقع و الخيال يدور فيلم بيرو المجنون (1965) الذي يلجأ فيه غودار عامداً متعمداً، وبصورة تنكيلية للغاية، الي تشويه لقطة الزاوية العريضة، الزاوية الأثيرة لدي السينما الكلاسيكية، كما يختتمه بطريقة شعرية يصعب نسيانها خاصة بالنسبة للمغرمين بالرموز الكبري في تاريخ الشعر الفرنسي، حيث ترينا كاميرا غودار ترجمة بصرية لمقطع شهير من قصيدة لرامبو نسمعه في الخلفية بصوت بيرو (الذي صار ميِّتاً في وقت مشاهدة اللقطة): لقد وجدتها! الأبدية! إنها الشمس ممعنة في البحر . بيد أن ما يهمني هنا في سياق المادة هذي هو أن الفيلم هذا قد سجّل أول العلامات المباشرة لاهتمام غودار بالشأن الفلسطيني، وقد تأخرت إجازته في الولايات المتحدة إلي العام 1969، أي بعد أربع سنوات كاملة من انجازه.

مفهوم البحث السينمائي

وواحدة من انجازات غودار الكبري هي نحته وتجذيره لمفهوم البحث السينمائي (film eay أو cineay) الذي لا بد أن تكون قد ألهمته إياه تقنيات المسرح البريختي خاصة فيما يتعلق بفكرة تأثير الإغتراب و خلق المسافة بين المشاهدين والعمل، بحيث أن أفلام غودار قد أخذت تتخفف باطراد من كل ما له علاقة بالحبكة الدرامية ذات البنية التقليدية، والقَص بالمعني المألوف للتعبير، وصارت أقرب إلي كونها بحوثاً أو دراسات أكاديمية بصرية، سياسية وفلسفية وسوسيولوجية وأنثروبولوجية، علي الجمهور أن يتعامل معها ويتفاعل بالعقل والفكر لا بالعاطفة والوجدان. وتندرج في الإطار هذا أفلام مثل ذكوري أنثوي (1966) و صُنِعَ في الولايات المتحدة الأمريكية (1966) و شيئان أو ثلاثة أعرفها عنها (1967) و الصينية (1967)، الفيلم الذي تصوَّر، ويصوِّر، فيه غودار طلبة ثوريين في جامعة نانتير الفرنسية. وبعد عام واحد من انجاز الفيلم، تحققت نبوءة غودار السينمائية حيث كان الطلبة الحقيقيون في نفس الجامعة في طليعة الطلبة المشاركين في مظاهرات 1968 التي اجتاحت فرنسا ثم امتدت إلي معظم مناطق العالم. وإذا كان فيلم الصينية قد باح بميول ماويّة جديدة في هوي غودار الإيديولوجي ضمن السباق الدائر بين الإتحاد السوفيتي (عهد ذاك) والصين فيما يخص كسب الأفئدة والعقول (هناك في الفيلم لقطة شهيرة لإحدي المسلَّحات وهي قابعة خلف متراس مصنوع من نسخ من كتاب ماو الأحمر) فإن فيلمه ريح من الشرق (1969) قد أكد انجذابه هذا فيما قد يشير إلي فقدان أمله في الحضارة الغربية، حتي في جانبها البديل والرافض، واستلهامه للشرق الذي يمكن أن يكون موطن الروح وموطن الثورة معاً. غير أن ما يلفت انتباهي هنا أن غودار، علي عكس الكثير من زملائه المبدعين الغربيين الكبار، بمن فيهم بعض أقرانه في الموجة الجديدة ، تجنب الوقوع في الأفخاخ الاستشراقية (ولا شك أن بحثاً دعونا نطلق عليه مبدئياً عنوان غودار باعتباره معادياً للاستشراق يعتبر، خاصة بالنسبة للبحَّاثة الآسيويين والعرب، مادة خصبة للبحث غير المطروق حتي الآن علي حد علمي).

وفي 1968 أنجز غودار واحد زائد واحد ، وفي العام نفسه حقق أيضاً تحفته الإحتجاجية الكبري عطلة نهاية الأسبوع الذي تضمن لقطة تَتَبِّع مدتها عشر دقائق كاملة هي الأطول من نوعها في تاريخ السينما، وهي أيضاً واحدة من أكثر اللقطات شراسة في هجومها علي حضارة الزيف والإستهلاك، وذلك في ثورة علي الاستخدام الواقعي لهذه اللقطة لدي فردريك مورنو صاحب نوسفيراتو وعلي الاستخدام الرومانسي لها لدي ماكس أوفولس مخرج رسالة من امرأة مجهولة الذي يعتبر أكثر أفلام فترته الأمريكية تقطيعاً للقلب، حيث لا شيء في لقطة غودار تلك سوي النار والدخان والموت والدمار والحطام والجنون في مجزرة مُتَبَطِّلة ولامبالية تقع علي طريق سريع (وهذا يختلف طبعاً عن كون الفيلم كاملاً مؤلفاً من لقطة واحدة كما في محاولات قديمة مثل فيلم هيتشكوك حبل ، ومحاولات جديدة مثل فيلم زاخاروف الأخير الفُلك الروسية ).

وعليّ القول هنا أن لقطة غودار التاريخية تلك حضرتني بقوة وألم لدي مشاهدتي لصور تلفزيونية وفوتوغرافية لما اصطلح علي تسميته بـ طريق الموت (Highway of Death) في نهاية حرب الخليج الثانية (حرب العراق والكويت)، وهي الصور التي تردد في بعض الدوائر انها اقنعت الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) بضرورة وقف العمليات الحربية الهجومية عند ذلك الحد. وفي غير العجالة هذي ينبغي التوقف فعلاً عند هذه النبوءة الغودارية في السياق العربي.
قول الحقيقة أربعاً وعشرين
مرة في الثانية

وبعد عطلة نهاية الأسبوع بدأ غودار مرحلة جديدة في مسيرته السينمائية تنكّر فيها تماماً للإلهام القليل الذي منحته إياه سينما العصابات الأمريكية التي أعجب بها في بداياته (في الحقيقة، سيشن غودار، في فيلمه في باريس الحب ، الذي أنجزه في 2001، هجوماً علي السينما الأمريكية ممثلة في شخص واحد من رموزها المعاصرين المُدَلّلين هو ستيفن سبيلبيرغ ـ الذي، بالمناسبة، تم تكريمه قبل مدة علي ظهر حاملة طائرات أمريكية ـ متهماً إياه باستغلال التاريخ الأوروبي وذلك علي اثر انجاز سبيلبيرغ لفيلمه قائمة شيليندر حول المحرقة اليهودية في الحرب العالمية الثانية، والذي يقول غودار أن سبيلبيرغ جني ملايين الدولارات منه في الوقت الذي لا يزال يعيش فيه شيلندر الحقيقي فقيراً ومهملاً في الأرجنتين).

غير أن غودار لم يتنكر للإلهام القليل الذي اعطته اياه السينما الأمريكية في بداياته (وحقاً، لا يمكن غض النظر عن شبه استعادات لأسلوب و بريكولاجات سينما العصابات الأمريكية في لاهث مثلاً) فحسب، بل وتنكر كذلك لأسلوبه التجريبي نفسه، فانخرط الآن في تحقيق ما أسماه أفلام ثورية لجمهور ثوري متأثراً في مسعاه الجديد هذا بالتجارب الجماعية المبكرة لبعض رموز السينما السوفيتية مثل دزيجا فيرتوف وأليكساندر ميديفكين، والثاني يكاد يكون مجهولاً علي الرغم من أهميته الشديدة في تاريخ السينما السوفييتية وذلك بسبب سخط آلهة سيئة الصيت الواقعية الإشتراكية وجهازها الستاليني/الجدانوفي الرهيب عليه، معلناً ـ أي غودار ـ ما صار يردده طلبة السينما اليافعون والمتحمسون في كل مكان من العالم تقريباً: إن مهمتي باعتباري مخرجاً سينمائياً هي قول الحقيقة أربعاً وعشرين مرة في الثانية (وهذا الرقم هو، طبعاً، عدد الفريمات التي تمضي في الكاميرا وآلة العرض في الثانية الواحدة أثناء التصوير أو العرض السينمائيين بالحركة الطبيعية).
ومع نهاية السبعينات بدأت مرحلة أخري في العطاء الاستثنائي لهذا المبدع الكبير، حيث استقر في مدينة رول السويسرية وبدأ في إخراج أفلام ذات طابع فلسفي وتأملي وشعري وإنساني لا يظهر فيها الهاجس السياسي ناتئاً علي السطح بل يعتمل في داخلها، ومن تلك الأفلام كل امرء لنفسه (1980) و هيام (1982) و الإسم الأول: كارمن (1983) الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي و تحية لمريم (1985) الذي أدانته الكنيسة الكاثوليكية نظراً لأن غودار يعرض فيه لميلاد المسيح من وجهة نظر ذاتية و واقعية جداً. ولاحقا أنجز غودار أفلاماً أخري منها الملك لير (1988)، و حافظ علي حقك (1988) و الموجة الجديدة (1990) و ألمانيا 90 (1991) و يا ويلي! (1993) و جان لوك غودار: بورتريه ذاتي (1994) و موزارت إلي الأبد (1996).


عبدالله حبيب
"القدس العربي"

التعليقات