"دياب"- نبش في كذبة "البطولة العربية".../ أنطوان شلحت

* تمثيل: عامر حليحل
* تأليف: علاء حليحل
* إخراج: سليم ضو
* موسيقى: حبيب شحادة
* ديكور وملابس: أشرف حنا
* إضاءة وتنفيذ ديكور: نعمة زكنون

أبادر فأقول إني أعتبر مسرحية "دياب" مفاجأة مهرجان "مسرحيد" الرابع لمسرحيات الممثل الواحد (عكا القديمة، 9-11 آب 2005). فمن بين جميع الأعمال، التي شاركت في إطار المسابقة، جاءت هذه المسرحية، أو على الأصح برزت كأشبه بالعمل المتكامل، سواء من حيث الأداء التمثيلي أو من حيث النص والإخراج. وأسهمت سائر العناصر الفنية، من موسيقى وديكور وملابس وإضاءة وغناء، في إثراء كل ذلك.

غير أنه داخل هذه المفاجأة الشخصية والعامة لا بدّ من تقطير مفاجآت أخرى ليست أدنى مستوى وقيمة، في مقدمها الحضور القوي للممثل عامر حليحل والنص الصافي والرشيق للكاتب علاء حليحل.

سؤال افتراضي: هل كانت النتيجة ستفضي إلى مفاجأة لو لم يقدّر لهذا العمل ممثل في قامة عامر حليحل؟

لقد حمل عامر النصّ على كتفيه بالجدارة المطلوبة، فكان كمن يحمل صليبًا ليتسامى به أو ليزيده سموًا على سمو. وقد أعطاه بعده الجمالي، الدرامي، الإشكالي والموحي في الآن ذاته. علاوة على ذلك برز مجهوده في أن يقدّم للمشاهد البعد النفساني الداخلي، الجوانيّ، للشخصية.

وشكّل إخراج سليم ضو معينًا له في ذلك. لكن يبقى من العسير الحكم بأن إخراج سليم قد تفوّق على نفسه، حيث أنه ظلّ محتفظًا ببصماته المعهودة.

وإذا شئت اختصار الكثير من المواصفات فإن "دياب" هي علامة فارقة في مسيرة عامر الفنية، التي ننتظر منها المزيد من الإبداع الخصوصي والمتميّز.

لقد كانت هناك بعض الثغرات التي تتعلق بالنمو الدرامي للشخصية. وبوجودها بقيت شخصية تنمو وتتحرك في الفضاء الذي على الورق دون مقدرة فائقة- في غياب جهد إخراجي متفوّق- على أن تصل إلى الحالة الدرامية في ذروتها الفنية.

ولكي لا يبقى هذا الكلام طلسميًا، أشير مثلاً إلى أن بعض المواقف التي كان يتعين على عامر فيها أن يتقمص جزءًا من سائر الشخوص المرافقة له في رحلته، كانت أقرب إلى السرد منها إلى تجسيد اللحظات الدرامية. وكان في مقدور جرعات إضافية من جهود التفنين أن لا تدع موطىء قدم للسرد، الذي يصيب المونودراما في مقتل.

أقول هذا مع قناعتي شبه التامة بأن هذا الصنف من الإبداع المسرحي، الذي يستهوي الكثير من الفنانين، يستحيل أن يتحرّر كليًا من السرد، بل أكاد أجزم بأن السرد هو جزء غير منفصل، آصرة عضوية منه. مع ذلك لا تنعدم الأدوات الفنية التي في مستطاعها أن تجعل من تقمص الشخصيات المتعددة أبعد من مجرّد عملية تقليد أو تغيير للأصوات.

على رغم هذه الهنات قدمت لنا "دياب"، في التحصيل النهائي، وجبة شهية في مهرجان أصابه داء الحمية، وفي مشهد مسرحي عام قلّما يوفر لحظات فرح بولادة أعمال فنية تحلّق بالمشاهد بعيدًا.

على حدّ ما أعلم فهذه هي التجربة الأولى لعلاء في كتابة المونودراما. وهي، والحق يقال، تجربة تسجّل له لا عليه، بعد أن أثبت أنه يمتلك من أدوات كتابة مثل هذا النص، الشديد التعقيد في رأيي، ما يكفي لكي يخوض غماره بجدارة ويعود لنفسه ولنا جميعًا سالمًا غانمًا- سالمًا دون رضوض تذكر وقد تجنّب عثرات السقوط في الكتابة الفجّة، التبسيطية، الشعاراتية، التي تلازم عادة هذا النمط من الكتابة (وقد شهدنا سقوط نصوص أخرى ضمن المهرجان في كتابة كهذه). وغانمًا بتأبّطه نتاجًا أدبيًا ينضاف إلى سائر ما أبدعه في مضماري القصة القصيرة والرواية، والذي لم يأخذ حقّه إلى الآن من طرف النقد المتعثر لدينا، غير الملتفت كفاية إلى الأصوات الأدبية الجديدة، التي تجتهد ضمن حقل غني من دلالة تجاوز السائد والمبتذل.

تستحضر "دياب" شخصية دياب بن غانم من "تغريبة بني هلال"، ليسقط عليها المؤلف هموم الحاضر. وهي هموم يتقاطع فيها الشخصي، الأنوي، بالعام. وباعتبار "التغريبة"، ضمن أشياء أخرى، واحدة من "الأساطير المؤسسة" للبطولة العربية، فإن الاستحضار يراعي أن يحاكم هذه الشخصية وما تجسدّه بعد تجريدها من تاريخيتها، وذلك على خلفية ركام طويل من اللابطولة الكامنة في تلك البطولة، والتي تتأبى في ذاكرتنا الجمعية على الانضفار في الرواية التاريخية المتداولة، تحسبّا من خدش حياء القارىء العربي وجرح شعوره الطافح بأمجاد الماضي التليد.

"مسرحية دياب- كما جاء في "الورقة" التي وزعها علينا طاقم المسرحية قبل العرض- تروي قصة خيالية بوحي من تغريبة بني هلال على لسان بطلها دياب. وهي تحدث اليوم، في عصرنا الرديء، حين يهمّ العرب في رحلة طويلة نحو فلسطين السليبة، ليحرروها من وزر الاحتلال وسطوة أميركا. فيخرجون في مغامرة عسكرية كبرى يحتلون فيها البلدان والدول، ويقتلون "كل عربي خائن"، كما بقول دياب، ثم يصلون ويشرفون على حدود فلسطين، قرب حطين. لكن الخلاف يدبّ بينهم، فيتحاربون وينسحبون عائدين إلى نجد، إلا دياب بن غانم، الذي يمتطي فرسه "الخضرا" ويهجم على جيش اليهود الجبّار، فيقع في الأسر ويلقون به في قبو سفينة أميركية يعمل فيها ليل نهار على ملء أفران محركات السفينة بالفحم. لكنه يصرّ في أسره هذا على أنه حرّر فلسطين لوحده، وتربّع على عرش تل أبيب...".

من أهم مداليل هذه الكلمات أن المؤلف ينبئنا بأنه ماض في رحلة محاكمة، تعرية، لهذا البطل المحدّد الذي يحيل إلى حالة مجرّدة في التاريخ العربي عامة وإلى زمن مأزوم خاصة. بكلمات أخرى فإن المؤلف يخضّ كيان البطولة العربية، وينبش فيه، فلا تتساقط منه على مرأى منّا سوى خيبات وإحباطات، هزائم وانكسارات. وهو يقوم بذلك كله وفي ذهنه، على ما يبدو، تساؤل نزار قباني، الذي ما زالت أصداؤه تتردّد هنا وهناك: هل البطولة كذبة عربية، أم مثلنا تاريخ كاذب؟.

ومن الطبيعي أن ترافقه، في هذه الرحلة، شخوص وأحداث، حكايا ومفارقات، سجالات وحوارات، يصعب في خضمها غربلة الحقيقي من الكاذب، أو غربلة الواقعي من المتخيّل... لكن هذه الرحلة، التي تظهر لأول وهلة بأنها على نسق الرحلات المتداولة في الكتابة العربية الحديثة، تفارق الطراز الشائع من كتابة تجريح الذات وجلدها ولا شيء أكثر من هذا، عندما تستدعي في خاتمة المطاف وبفنية راقية وقفة متأملة في الذات لا تتخمها مؤونة العودة إلى الماضي، وإنما تنفتح على الحاضر دون أن يغادرها السؤال الصميمي عن المستقبل.

وهكذا ففي عرف المؤلف لا معنى للنظر إلى الوراء، إلى التاريخ، إلا بمدى ما يتيح ذلك من إمكانيات أمام الذات العربية المنشرخة لكي تحاسب ذاتها. وخلال ذلك يتكشف المؤلف بكونه حاذقًا في اصطياد المواقف والمفارقات، التي تخاطب عقل المشاهد ووجدانه دون أن تستخف بذكائه.

مع أن الاستيحاء هو من "التغريبة" فإن علاء حليحل يتناءى في "دياب"، كما في كتابته الأدبية الأخرى، عن الكتابة الطهرانية، سجينة البلاغة العربية. كما أنه يتناءى بالمقدار نفسه عن الكتابة الذهنية التي تقف حائلاً أمام التجسيد على الخشبة، لمجرّد الصعوبة الكامنة في تجسيد الأفكار. وبالتالي فهي تفرض التساؤل عن الشكل الروائي والقصصي وأساليب السرد السلسة، لأنها تزخم ببساطة مذهلة تعدّ من سمات نصوصه.

التعليقات