زيارة السجين أم الإقرار بصحة موقف السجان؟../ زكريا محمد

-

زيارة السجين أم الإقرار بصحة موقف السجان؟../ زكريا محمد
أمس، الخميس، حضرنا الحفل الختامي لمهرجان القصبة السينمائي الدولي، شاكرين لمسرح القصبة تنظيم هذا المهرجان. لكننا فوجئنا بأن هذا الختام تحول إلى نافذة لتمرير قضايا سياسية مختلف عليها، وتمريرها على أنها تمثل الإجماع الثقافي الفلسطيني. فقد تليت في الحفل رسالة باسم المثقفين الفلسطينيين، جميعا، تطالب بكسر الحصار الذي تتعرض له الثقافة الفلسطينية والشعب الفلسطيني.

حسنا، كسر الحصار الإسرائيلي مطلبنا كلنا، هذا أمر لا شك فيه. لكن الغريب أنه إذ يتم الحديث عن كسر الحصار الإسرائيلي، فإن إصبع البيان تشير، في الواقع، إلى موقف المثقفين العرب الذين يرفضون زيارة فلسطين (الضفة خصوصا) في ظل الاحتلال. فموقف هؤلاء هو الحصار، وهو الحصار الذي ينبغي كسره.
وهكذا، يتحول هؤلاء المثقفين إلى محاصرين للشعب الفلسطيني وثقافته!

لقد ظن المثقفون العرب المعنيون المساكين أنهم يقدمون خدمة للشعب الفلسطيني وقضيته، فإذا بهم يتحولون، بجرة قلم، إلى محاصرين للشعب الفلسطيني، تتوجه الدعوات لشجب موقفهم، وكسر حصارهم!

وحين يصل الأمر إلى هنا، يصير السكوت عيبا.
لا يجوز السكوت على مثل هذا الخلط الغريب. فمن المحزن حقا أن يتم الحديث عن كسر الحصار على الشعب الفلسطيني وثقافته، ويكون المقصود بذلك موقف قطاع كبير من المثقفين العرب، لا الحصار الإسرائيلي.

وكي يتضح الأمر، وحتى لا يحصل خلط، فإن علينا أن نوضح أن إسرائيل لا تمانع أبدا في وصول أي مثقف عربي إلى رام الله. على العكس فهي ترحب بذلك، ما دام أنهم يأتون بموافقتها، وبأمرها، وما داموا سيعبرون الجسر الذي يسيطر عليه جيشها، وما داموا سيذلون ويهانون على الحواجز الإسرائيلية. بالتالي، فمن هذه الزاوية لا يوجد حصار إسرائيلي كي تكسره الممثلة التونسية هند صبري. كما أنه لا يوجد تحد لهذا الحصار في ما لو حضر المخرج المصري يسري نصر الله إلى رام الله.

إذن، فالحصار المعني ببيان مهرجان القصبة هو موقف قطاع واسع من المثقفين العرب الذين يرفضون المجيء إلى الضفة الغربية بموافقة الاحتلال. هؤلاء هم من يحاصرون الثقافة الفلسطينية بناء على هذا البيان. وحصارهم هو الحصار الظالم الذي يشار إليه!

وهكذا، فالمطلوب ليس مواجهة حصار إسرائيل، بل مواجهة حصار مفترض من العرب.

أما مهرجان القصبة فيريد أن يشارك بنشاط في كسر الحصار العربي المفترض. وهذا حقه، لكن شرط أن لا يتحدث باسم المثقفين الفلسطينيين كلهم، فمن أصدر بيان هذا المهرجان هم مجرد أقلية في الحياة الثقافية الفلسطينية. هم لا يشكلون الإجماع، ولا يمثلون الغالبية، بل إنهم لا يمثلون النصف.

بناء على هذا البيان، فإننا نصبح ملزمين بطرح السؤال التالي على القصبة وعلى مهرجانها: هل أنتم مهرجان سينمائي، أم أنكم تتحولون إلى هيئة سياسية للدفاع عن موقف سياسي خلافي محدد؟ إذا كنتم تريدون أن تكونوا هيئة سياسية، فلكم الحق في ذلك، لكن يكون لنا الحق حينها أن نعاملكم كجهة سياسية لا كمهرجان سينمائي. وفي هذه الحال، فإن المهرجان سيخسر بكل تأكيد، ونحن لا نريد له الخسارة.

والحق، أن هناك ما يشير إلى أن بيان مهرجان القصبة، لم يأت صدفة، بل أتى في سياق فتح معركة خاصة لكسر موقف المثقفين العرب الذين يرفضون زيارتنا بإذن من الاحتلال. وهناك شبهة أنه تحت ستار هذه المعركة، وتحت غيمة غبارها، ربما أريد تمرير (تطبيع) محدد مع إسرائيل.

ولعل وجود فيلم نادية كامل (سلاطة بلدي) في المهرجان أن يكون دليلا على ذلك. فرغم تعاطفنا مع المخرجة ووالدتها في مأساتهما الذاتية، فإن الفيلم يستخدم في الواقع مأساة خاصة لتمرير أفكار سياسية خطرة حول مسألة عامة، هي مسألة الصراع العربي الإسرائيلي. أو قل، إنه يطمس مأساة عامة عبر مأساة خاصة. يطمس مأساة الفلسطينيين، عبر التركيز على مشهد ثانوي. أي يستخدم المشهد الثانوي لتعمية المشهد الأساسي. فحين يتحدث عن المهاجرين اليهود المصريين إلى إسرائيل ومآسيهم الشخصية يفشل في أن يذكر واقعة أنهم ناموا في بيوتنا التي سلبت منا، وعلى فراشنا الذي وجدوده ساخنا من دفء أجسادنا.

وإذا جمعنا البيان إلى الإشارات الأخرى، فإنه يصبح بإمكان المرء أن يشك في أننا أمام محاولات لتمرير قضايا سياسية خطرة، أو مختلف عليها في أقل تقدير، تحت غطاء السينما.

ولأن الأمر كذلك، فقد كان علينا أن نواجه الخلط الذي حصل في مسألة الحصار. فالبيان يتحدث عن الحصار الإسرائيلي، لكنه يصوب في الواقع نحو موقف قطاع واسع من المثقفين العرب، بهدف كسره.

لذا، لا بد لنا أن نقول أن هند صبري لا تكسر الحصار الإسرائيلي حين تأتي إلى رام الله. هي لا تفعل شيئا يعاكس مصالح الاحتلال حين تأتي إلى رام الله. على العكس، فهي مرحب بها من قبل الإسرائيليين، ومرحب بغيرها. ولو كان هناك أي ضرر للاحتلال من وجودها، لما سمح لها بالعبور أصلا.

وإذا كانت هند صبري تريد أن تكسر الحصار الإسرائيلي فعلا، فقد كان عليها أن تكافح للذهاب إلى غزة. فهناك يكمن الحصار، الحصار المميت.

كذلك، لن يكسر المخرج يسري نصر الله الحصار لو أتى إلى رام الله، فهو سيأتي بإذن المحاصرين، بكسر الصاد، أي بإذن إسرائيل. ولن تمنحه إسرائيل إذنها كي يأتي ليكسر حصارها. سيأتي إلى هنا، فقط، كي يكسر موقف زملائه المصريين ممن يرفضون زيارة رام الله تحت الاحتلال وبإرادته. وإذا كان هدفه هو هذا فسينجح فيه. لكن عليه حينها أن لا يصور الأمر ككسر لحصارنا.

نحن مشتاقون لهند صبري، ومشتاقون ليسري نصر الله، ومشتاقون لكل إخوتنا من المثقفين العرب. نودهم هنا بيننا، كي نعمل لهم (المسخن)، وكي نعزمهم على طبق (كنافة) نابلسية. لكننا نتحمل عدم مجيئهم كي لا يصبحوا مذلين مهانين مثلنا. نحن هنا مذلون مهانون. نرغم على عبور الحواجز الإسرائيلية، وعلى تقبل الإهانات كل يوم عليها. نحن مرغمون أن ندفع وثيقة سفرنا إلى جندي أو جندية إسرائيلية على الجسر لكي يختمها ويسمح لنا بمغادرة بلدنا مسافرين. هذا قدرنا.

لكن ما الذي يرغم يسري نصر الله على أن يذل على الجسر؟ ما الذي يرغمه على أن يلوث جواز سفره المصري بالختم الإسرائيلي؟ جواز سفره رمز لمصر، فلماذا عليه أن يهين هذا الجواز؟ أمن اجل أن يحضنني في رام الله، ويأكل صحن كنافة معي؟ لا، أنا لا أبيع كرامة مصر والجواز المصري بقعدة على صحن كنافة. لا، أنا لا أحب لمواطن مصري أن يهين نفسه بان يطلب موافقة الإسرائيليين على الدخول إلى رام الله.

نحن لا نريد إخوتنا المثقفين العرب هنا، لأننا لا نريد لهم أن يكونوا مذلين مهانين مثلنا. نريد لهم أن يظلوا أعزة. أهذا مطلب ظالم؟ أهذا مطلب سيء؟

أما إذا كانوا يريدون أن يتذوقوا طعم المذلة مثلنا، فلا مشكلة لدينا. يستطيعون ان يأتوا إلى رام الله متى شاءوا، لكن شرط أن لا يتحدثوا وقتها عن كسر الحصار. فلا علاقة لمجيئهم بكسر الحصار. حكاية كسر الحصار لعبة من البعض كي يأتوا مذلين مهانين إلى المذلين المهانين هنا.

حين تأتون ستتحولون، فورا، إلى مذلين مهانين يعانقون مذلين مهانين. ونظن أننا لسنا بحاجة إلى أن نزيد طابور المذلين المهانين من العرب.

أما من يريد أن يكسر الحصار فليذهب إلى غزة. من يريد أن يكسر الحصار فليذهب إلى الجانب الأردني من الجسر، ويقول: سأعبر إلى فلسطين من دون التنسيق مع إسرائيل، ومن دون إذنها، وغصبا عنها. وهذا غير ممكن الآن.

وثمة عبارة بريئة يتم تداولها، وتكاد تتحول إلى طوطم عند (كاسري الحصار الجدد!)، وهي: (زيارة السجين ليست تطبيعا مع السجان). لا، زيارة السجين هنا تطبيع مع السجان. دليل ذلك أن السجان يشجع علها. هو يضع العقبات أمام أهل المعتقلين الذين يرغبون في زيارة أبنائهم في سجن النقب مثلا، لكنه لا يضع العقبات أمام مجيء المثقفين العرب إلى رام الله، لأنه يدرك أنه يكسب في نهاية الأمر من مجيئهم، إذ هم يجيئون بأمره وإذنه.

لا، هذه ليست زيارة لسجين، إنها في الواقع إقرار بأن السجان على حق، بشكل ما. لذا، فإن وفود التطبيع الرسمية العربية كثيرا ما تستشهد بهذه المقولة. يأتون للتطبيع مع إسرائيل، ولتثبيت التطبيع معها، تحت حجة زيارة السجناء. يستخدمون مقولة طيبة من أجل تغطية سياساتهم غير الطيبة.

وحين يأتي يسري نصر الله، الذي يريد أن يزرو السجين فعلا، فهو من حيث لا يدري يثبت موقف هؤلاء ويدعمه.

عزيزنا يسري،
سمعنا صوتك أمس في مهرجان القصبة، وأحسسنا برعشة الحب فيه. رعشة الحب لفلسطين وأهلها. لكننا ربما نعرف أكثر منك ما يجري هنا. لا نحب لك أن تتعرض لابتزاز من يدعي أنه سجين، وانه يريد زيارتك. إذا جئت ستزور السجين ربما، لكن بثمن غال: أن تضيف مذلا مهانا إلى صف المذلين والمهانين العرب.

وإذا كنت راغبا في أن تصبح مذلا مهانا مثلنا، فأهلا بك في رام الله. وسوف نشرب نخب مذلتك ومذلتنا.
سوف نشربها ونبكي.

التعليقات