سعدي يوسف .. شيب الأحزان وبرد الغربة والوحشة وموال عراقي/جورج جحا

-

سعدي يوسف .. شيب الأحزان وبرد الغربة والوحشة وموال عراقي/جورج جحا
قراءة كثير من قصائد مجموعة الشاعر سعدي يوسف "صلاة الوثني" كفيلة بأن تُجَرد القارىء ولو الى حين من حسه النقدي أو تُعَطل فيه هذا الحس خلال القراءة وحتى بعدها وتتركه في بحر من الأحزان النبيلة.

في القصائد أجواء فنية مؤثرة وموحية ترسم بمشاعر الغربة الوحدة والوحشة وبرد الشمال والحنين الى وطن بعيد يتحدث العالم عن أحزانه.. لكن الجمرة كما يقول المثل الشعبي "لا تحرق إلا مكانها" وما من رفقة تكسر حدة الغربة سوى سنجاب لندني متوحد.

شيب الأحزان المعتقة التي يستحضرها يوسف من زمن الايام الآفلة بأفكارها وأحلامها وآمالها وثوراتها وثوارها وعالمها الوردي الخدَاع والتي يرسمها بمهارة تحز في النفس كسكين وهمي يختلط بمواويل بكائية عراقية حدودها الدموع التي قد تحدث عزاء أو تنفيسا مؤقتا على طريقة نظرية ارسطو في التطهير حيث الأسى قد يطرد الأسى ولو لفسحة قصيرة الأمد.

ويختصر سعدي يوسف غربة كثير من الحالمين والشعراء المشردين حيث يرسم التشرد بتميز ويجعلنا من خلاله نلتقي بكثيرن منهم.. بأحزان محمد الماغوط البيروتية وبآلام السياب يثيرها المطر على الخليح.. وبشكل خاص بصقيع غربة الشاعر الراحل بلند الحيدري اللندنية وغيرهم.

جاءت المجموعة في 95 صفحة من القطع الوسط وبغلاف من تصميم طالب الداود يطل منه وجه الشاعر وسط نقوش ورسوم وكتابات عراقية قديمة واشتملت على 50 قصيدة. وصدرت عن دار نينوى للدراسات والنشر في دمشق.

في القصيدة الثانية من المجموعة "أغنية الصرار" التي كتبت في لندن كسائر قصائد المجموعة باستثناء واحدة كتبت في دبلن في 2003-2004 حساب مر لحياة الفنان والحالم عامة وتساؤل عما كان يفعله في ايام الحصاد. يقول يوسف "ربما ساءلت نفسي الان عما اكتب الآن../ لماذا اكتب الان؟../ وفي أي مكان أكتب الآن..

"ألم يتعبك نصف قرن من العابك/ الصخرة والنبع وهذه اللغة.. الالوان والغيم... الخ../ انك لا تبدو دؤوبا مثل نجار/ ولا منتبه الملمس كالخزاف/ انت الغافل/ الناحل/ والتأتاء/ ما شأنك والدنيا../ دع العالم يمضي مثلما علمنا العالم ان يمضي/ فما لله لله/ وما كان لقيصر للقيصر.../ قم فاذهب الى مقهى على الشاطىء وانعم بنبيذ الشمس اذ تغرب/ والمرأة إذ تلعب/ والسنجاب..../ كم ساءلت نفسي؟/ نصف قرن وأنا أسأل نفسي/ لم لا تخذلني أغنية الصرار/ كي أغفو قليلا.."

وفي قصيدة "تحقق" يقول "قد كنت/ يا ما كنت آمل/ والخريف يلوّن الغابات بالذهب.../ يا ما كنت آمل ان أرى وجه العراق ضحى/ وان أُرخي ضفائره المياه عليّ/ ان ارضي عرائس مائه بالدمع ملحا.../ لاسأل الاشجار/ هل تعرفن يا اشجار أنّى كان قبر أبي؟.."

في قصيدة بعنوان "السنجاب" -وتتكرر صور السنجاب في قصائده- يقول في توحد او تماثل بينه وبين هذا الحيوان اللطيف الذي يتحرك في وحدته مسابقا المطر اللندني "شرّع السنجاب يخبّي تحت الارض مؤونته/ مقتربا من بابي/ ما أجمل هذي الدنيا قبل المطر../ السنجاب يمرّ على السنجاب."

في قصيدة "أيها الحنين يا عدوّي" يقول سعدي "لي ثلاثون عاما معك/ نلتقي مثل لصين في رحلة لم يلما بكل تفاصيلها/ عربات القطار/ تتناقص عبر المحطات/ والضوء يشحب/ لكن مقعدك الخشبي/ الذي ظل يشغل كل القطارات ما زال محتفظا بكل ثوابته/ بحزوز السنين/..../ انا لم اقطع عشرات الالاف من الاميال/ ولم اطوّف في عشرات البلدان/ ولم اتعرف الاف الاغصان/ لكي تسلبني انت..الكنز ( وتحبسني في زاوية.

"فاترك المقعد الآن واهبط) قطاري سيسرع بي بعد هذي المحطة/ فاهبط/ ودعني أمضي الى حيث لن يتوقف يوما قطار".

يرسم سعدي يوسف في بعض القصائد عالما رماديا كئيبا.. صورة قارب أعطبته الأيام فصار ثلثاه في غير عالمه الذي خلق له. انه رمز وانعكاس معبر لما أحدثه الزمن في الجسد وفي النفس. ففي قصيدة "شاطىء مهجور" يقول الشاعر "قارب ثلثاه على اليابسة/ ظل ينضح والبحر منكمش/ لائذ بكثافته من حبال المطر/ قارب لن يقوم ليبدأ عند السحر/ رحلة الصيد.../ مثلي".

ويكاد يكون من النوافل القول انه يكون في أفضل حالاته الشعرية عندما يبتعد عن المباشرة "اليومية" وان بحجة الواقعية مثلا وان تكن بواعثها وطنية وانسانية نبيلة كما في "غارة جوية" التي يقول فيها "في وطني الآن الرعد/ الطيران الامريكي/ وبالحاوية العنقودية/ كما شاهدناها في بيروت زمانا/ ينقض على الكوفة/ والفلوجة والنجف/ الطيران الامريكي/ الليلة ينقض عليّ الآن".

قصيدة "القطار الايرلندي" تحفل بخلاصات معاناة الشاعر الماضية والحاضرة. انها نسيج تتعدد خيوطه الوانا وانواعا. يقول "في دبلن/ كان قطار الليل.. الحانة/ حانة فيتزجيرالد وانت تغمغم في احدى عربات المطعم." وتلي ذلك غنائية حزينة اطار في شكل مستطيل وبكتابة حروفها اشد سوادا..

"يا ليل يا صاحبي/ راح الفتى وارتاح/ وامتد ثوب الدجى/ واسودت الاقداح/ حتى المجاذيف ملّت/ حيرة الملاح/ يا ليل يا صاحبي../ سمّ الافاعي فاح".

وتستمر القصيدة على هذا المنوال فيقول "ولكنك/ حتى ولو كنت مسافر ليل بقطار الهند/ ستبحث عن مأوى/ تبحث عما سيكون سؤالا أو سلوى/ تبحث عن "سعدي" المتلبث في الظلمات/ تبحث عما مات/ وعمن مات."

وننتقل معه الى إطار آخر نقرأ فيه الغناء الحزين "يا ليل أين الصفا.. أين انطفا المأمول../ أرض السواد انتهت للشوك والعاقول/ كل الجيوش اقتضت منها وحال الحول/ ياحسرتي للضمير المُشترى المقتول."

بعد ذلك نقرأ في القصيدة بالانجليزية كلاما لجاك سترو وزير الخارجية البريطانية يقول فيه ان قوات المملكة المتحدة باقية في العراق الى مدة من الزمن غير محدودة. وتمضي القصيدة من ثم في طريقها لنصل الى إطار آخر نقرأ فيه بقية الأغنية الحزينة "يا ليل يا صاحبي ما أوحش الوحدة/ أطبقت يا ليل حتى ماتت الوردة/ وارتد من كان مجبولا على الردة/ لكنّ صوتي سيبقى للصدى وحده".

التعليقات