سمير اليوسف ... وجع اللامعنى وعدم براءة الفلسطيني/ خالد الحروب

-

سمير اليوسف ... وجع اللامعنى وعدم براءة الفلسطيني/ خالد الحروب
حاز الكاتب الفلسطيني المقيم في لندن سمير اليوسف جائزة «توشولسكي» للعام 2005 ويمنحها مركز «بن» السويدي، تقديراً لتجربته الأدبية والنقدية، وورد في بيان الجائزة سيرة موجزة للكاتب الذي ولد عام 1965 في مخيم للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، وانتقل الى لندن عام 1990 ليدرس الفلسفة ويحوز شهادة الماجستير من جامعة لندن.

والجائزة هذه فاز بها أدباء من العالم ومنهم: سلمان رشدي، نور الدين فرح، تسليمة نسرين وسليم بركات.

وأصدر سمير اليوسف حديثاً رواية عنوانها «طريق بنتونفيل»، هنا قراءة في الرواية انطلاقاً من المجموعة القصصية «عشية الصمت» التي كانت صدرت من قبل.

في مجموعته القصصية «عشية الصمت» والرواية الجديدة «طريق بنتونفيل» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) يسعى سمير اليوسف الى تعرية ما تريد الضحية أن تفاخر بما تمتاز به: الادعاء بالبراءة المطلقة والاستناد إلى مظلوميتها كي تظلم الآخرين, وافتراض أن على الآخرين معاملتها كضحية. ليست هذه «ثيمة» جديدة, لكن الجديد الصادم في نص اليوسف هو الولوج إليها من مدخل الذات ونقدها وتقريعها. فهنا ليست الضحية المتحولة أحياناً جلاداً هي اليهودي ضحية أوشفيتز الذي صار مجرم حرب ضد الفلسطينيين, فهذا أمر سهل التناول ويناغي الذات الفلسطينية التي تصدر كتابة اليوسف عنها. الصعوبة هي في اجتراح القدرة على اتهام الذات, الفلسطيني ضحية الضحية هنا, في أنها تخرج من إنسانيتها أحياناً وتصبح جلاداً. أو على الأقل تتوقف عن كونها ضحية, وتمارس من البشاعات ما يمارسه الناس العاديون. إنه تقريع لمفهوم «البطل الأسطوري» بالسرد والتجريد, بالمعايشة والتصوير المرير, تفكيك للنظرة إلى الفلسطيني بكونه البطل النقي: يناضل بطولة, ويتحدث بطولة, وينام بطولة, ويعشق بطولة. هنا نكتشف أن الفلسطيني, ابن المخيم, وحامل الكلاشنيكوف, إنسان عادي, يومه المطحون تحت أربع وعشرين ساعة في مخيمات بائسة ليس منسوجاً على منوال القديسين. فهو يغضب, ويكذب, ويكره, ويتصرف كالأشقياء, وفي وقت قذارات الحرب (الأهلية في لبنان) يقتل مدنيين وأبرياء ويتلذذ بالانتقام.

أبطال «عشية الصمت» فلسطينيون عاديون, فدائيون عصفت بهم الأقدار إلى لبنان فوجدوا أنفسهم في حرب ليست حرب فلسطين, فتلوثت أيديهم. بين المخيلة المتعاطفة معهم في كونهم قصفوا زهرة شبابهم جرياً وراء «التحرير», والممارسات اليومية لهم, تسقط براءة الكلاشنيكوف: «كان إبراهيم على قناعة تامة بأن إطلاق النار عند الإنسان المسلح لهو بسيط بساطة الضغط على الزناد. وقد يكون المرء ماضياً في طريقه بسلام حينما يبرز له رجل مسلح, يأمره بالركوع ويوجه فوهة بندقيته إلى صدغه ويضغط على الزناد. طاخ! وينتهي الأمر» («عشية الصمت», ص 36). السلاح ذو الاسم الرومانسي الذي كان التلفظ به قميناً باستدعاء رموز الطهورية والفداء, يُستخدم هنا لإرهاب عابر طريق على سبيل التسلي, أو لتخويف صاحب بستان.

من البريء, من القاتل؟

رواية «طريق بنتونفيل» مختلفة, انها نص روائي موسع مع تكثيف للقطة، ويمكن تخيلها واحدة من قصص «عشية الصمت» فيما لو كانت في البيئة نفسها. لكنها في مكان آخر, تدور أحداثها في نُزل تابع للبلدية تقطنه مجموعة بائسة من العاطلين من العمل في شارع فرعي في منطقة «كنغز كروس» في لندن, أو «وسط البلد». هنا واحد من أقدم أحياء لندن, يختلط فيه الغنى بالفقر, العابرون بالمقيمين, التأنق بالتسكع, النساء الجادات صاحبات الأعمال بالعاهرات اللواتي يتلطين في الشوارع الخلفية.

البطل الرئيس في «طريق بنتونفيل» هو إلى حد ما حاصل جمع شخوص «عشية صمت» بترددهم, بحيرتهم, بالسأم الذي يفيض في حيواتهم, مضافاً إليه كآبة الفقر والبطالة من العمل في مدينة لا ترحم مثل لندن. شخوص لا يتسمون بالشجاعة (إبراهيم مثلاً في قصة «بقية الليل»), يغيرون آراءهم سريعاً, يترددون إزاء أي موقف, يركضون, ثم يقفون, يعاودون الركض, ثم لا يلبثون أن يعكسوا اتجاههم كله. يحدثون أنفسهم كثيراً عما يتوجب عمله إزاء موقف ما, يعوضون بالبوح الداخلي للنفس عن الفعل في الواقع. والأهم من ذلك أننا نبدأ مع الشخصية الرئيسة كما مع شخوص «عشية الصمت» من حيث لا ندري. كأنما هو فيلم سينمائي يبدأ تصويره لهم من منتصف حياة كل منهم, فلا نعلم ما حدث لهم سابقاً, كيف جاؤوا, ومن أين. نعرف لحظتهم الراهنة التي يرصدها النص, وهي لحظة يحشر فيها الزمن مقادير هائلة من الخوف, والقسوة, والهرب, والقرف, واللامعنى, فتصبح كفقاعة تكبر مع مرور الوقت تضغط على جدرانها الداخلية كل تلك المقادير فتجعلنا لا نترقب إلا انفجارها المحتم.

بطل الرواية وهو ذاته الراوي لا نعرف ماضيه, ويربكنا. لا نعرف إن كنا نتعاطف معه أو نزدريه. لا نعرف حتى اسمه, لهذا سنطلق عليه اسم «صاد». يحق لنا أن نتخيل أنه «سين» في «عشية الصمت» وقد أصبح أكثر مرارة وسخرية وعبوراً للتجارب المريرة. لكنه الآن في لندن. سخريته البالغة تطاول كل شيء حوله: الآخرين القاطنين معه في نُزل بائس للعاطلين من العمل, الحياة وتفاهتها وقضاياها, وكل شيء آخر. نشاطه الأبرز والأثير إليه هو النوم. ينام حتى منتصف النهار, يبعثر ما تبقى من ساعات هنا وهناك, في الحانة القريبة, أو متجولاً في شوارع «كنغز كروس», يرقب العاهرات ولا يُستثار بهن, يتأمل وجوه الناس, ثم يدلف إلى حانوت «ثيو» القبرصي اليوناني الذي يسكن النُزل القذر نفسه ليسأله إن جلب له الأقراص المهدئة. يتهاذران, يتداولان قصص بقية النزلاء ثم يغادر شاتماً في ذاته ثيو، متمنياً له كل سوء. يعود إلى النزل ونظرائه: برندن, ايرلندي هرم شارك في الحرب العالمية الثانية ويشعر بالغبن وقلة الامتنان من الدولة والبشر، غارث: شاب محطم طردته والدته من البيت بتهمة السرقة يعيش الآن من بيع الحشيش وأحياناً يرافقه صاحبنا «صاد» إلى عالمه السفلي, بل وينتهز فرصة تركه حقيبته الصغيرة معه ليسرق منها عشرة جنيهات أكثر من مرة. ثيو ويون قبرصيان يونانيان، أولهما يملك حانوتاً في الحي ويتنافسان على كيت الإنكليزية صديقة ثيو ويغريها يون بالزواج مقابل مبلغ صغير حتى يتمكن من الحصول على إقامة قانونية. هناك أيضاً جيم الهامشي والهش المخمور معظم الأحيان مع كلبه الذي يثير صاحب النزل جورج ومساعده الشاب المفتول العضلات غاري الذي حارب في الفوكلاند والكل يناديه بـ»بطل الفوكلاند».

خارج النُزل هناك راشد الفلسطيني شبه المخبول الذي يتكئ على حائط مصرف باركليز قبالة محطة «كنغز كروس» طيلة الأيام شارداً في ما فعل على شاطئ غزة حين قتل ثلاثة جنود مراهقين وهم يسبحون عراة بعد طول تردد. كاثي صديقة «صاد»، ناشطة سياسية زارت غزة وتأثرت بما رأت وصارت نصيرة للفلسطينيين, وهي ضد الحرب في العراق. تحثه دوماً على مرافقتها في التظاهرات الغاضبة سواء ضد إسرائيل أو أميركا لكنه لا يلقي لها بالاً, يستلطفها وينفر منها في آن واحد.

ونكاد نجزم أن وراءه قصة طويلة ومعقدة وغالباً مريرة. قريباً من النُزل هناك قاتل طليق يخطف العاهرات أو العاطلين من العمل ويقتلهم في المتنزه القريب حتى «ينظف» الحي منهم.

«صاد» يحيره راشد الفلسطيني المذهول. أول ما تعرف اليه قص عليه قصته مع الجنود الإسرائيليين. دهش «صاد» لكنه سرعان ما صار يشعر بالضجر كلما رأى راشداً وسمع قصته. راشد الذي تردد كثيراً في قتل جنود عزل من السلاح كان يقول له إنه لم يقتلهم إلا لسبب واحد وهو أنه لا يريد أن يأتي واحد متفاخر فيراهم ويقتلهم ليظفر ببطولة رخيصة ويصير بطلاً مناضلاً في غزة. بطولة رخيصة لأنها ستكون «مستمدة من مصادفة عبوره المحظوظ في المنطقة في وقت اختار ثلاثة جنود أن ينسوا حقيقة أنهم جنود فأقبلوا على اللعب على شاطئ البحر كالأطفال... يفكر راشد ويقرر أن يطلق النار عليهم, لا لكي يظفر بصفة البطولة وإنما فقط لكي يفوت على شخص آخر فرصة الفوز بها. سيقتلهم ولن يخبر أحداً بالأمر... ويتوارى عن الأنظار» (ص 123-125). يجعل اليوسف راشداً يرى في الجنود «براءة» ما, صادماً قارئه صدمة عنيفة: براءة وجنود إسرائيليون؟ في ذلك المشهد المعقد يكمن أوج الرواية وخلافيتها. فيه تنقيب عن إنسانية الفلسطيني التي طمرتها المحن والحروب والقتل والاضطهاد. راشد يرى براءة في وجوه الجنود القتلة عندما يتراشقون بماء الشاطئ ويتضاحكون, يراهم بشراً, ويصطرع في داخله الإنسان والمناضل, يتعاركان شديداً قبل أن يصلا إلى المساومة الأخيرة: قتلهم من دون بطولة, قتلهم بنوع من الخجل الذي سيحطم راشد ويطرده إلى خارج أرض النضال دفعة واحدة. هنا صورة مفارقة لرفاق «سين» في «عشية الصمت»: الفلسطيني الذي يخجل من القتل ولا يتلذذ به.

يتفاقم كره «صاد» لـ»راشد» الذي لا يعمل شيئاً, وهو نفسه لا يعرف سبباً وجيهاً لتراكم الكراهية والاشمئزاز تجاه راشد. ويزداد «صاد» غموضاً أمامنا عندما يتعرف إلى القاتل الطليق الذي يفاتحه برغبته في التخلص من راشد لأنه يتلطى كل يوم على حائط المصرف لا يفعل شيئاً. «صاد» المتردد في كل شيء, الذي يريد أن يفعل الشيء وضده, والذي يكرر رغبته في عمل الشيء أكثر من مرة محاولاً بث التصميم في قراراته يمتلك الشجاعة ليتآمر على راشد, ويفعل. يوهم راشداً أن شقيقاً له ينتظره في المتنزه القريب, حيث سيأتيه القاتل هناك ويجهز عليه بضربات خلفية على رأسه ثم بسكين يخترق قلبه. لحظتها كان «صاد» يراقب المشهد كله بلا مبالاة مفزعة. بل وأكثر فزعاً من ذلك, يغرقنا سمير اليوسف في موقف انفجاري لفقاعة السأم واللامعنى عندما تجتاح «صاد» رغبة هائلة في مشاركة القاتل بركل راشد وضربه وهو يتضرج بدمائه. لكنه في النهاية يقع في يد الشرطة لكونه المتهم الأول, بتهمة أنه قاتل راشد. «صاد» في «طريق بنتونفيل» مثل «سين» في «عشية الصمت» يصبح هو القاتل والمقتول.

التعليقات