عام على رحيل الطيب صالح

عام على رحيل الطيب صالح
ابراهيم درويش – ناقد من اسرة "القدس العربي"
(بتصرف)

مضى عام على وفاة الروائي السوداني الطيب صالح ( 1929- 2009) الذي وافاه الاجل يوم 18 من الشهر الحالي قبل عام، والباحث في حياة وتراث الاديب الشهير عادة ما يتوقف في البحث عند انتاجه الروائي والقصصي الذي يظل قليلا ولا يغطي حياته الادبية وانخراطه العام في الحياة الثقافية العربية والدولية والسودانية - المهاجرة، اذ انه توقف عن الكتابة الروائية عند مرحلة معينة ولم ينتج بعد ' موسم الهجرة للشمال' و ' دومة ود حامد' و' بندر شاه' و ' عرس الزين' وقصصه الاخرى اي شيء وكل هذه الاعمال تعود الى فترة الستينات من القرن الماضي، وهي الفترة التي علمت خروجه كصوت مهم من اصوات الرواية العربية واكدت موقعه كـ ' عبقري الرواية العربية' كما جاء عنوان كتاب في حينه، وتمثلت اهميته من ناحية كونه ابن المرحلة الثالثة من مراحل التأسيس الروائي العربي اي بعد مرحلة البحث عن مكان في الجنس الادبي العربي ' الرواد' ومرحلة التأسيس الحقيقي من خلال العمل الجاد للروائي المصري نجيب محفوظ ( 1911- 2006). ثم جاءت مرحلة الطيب صالح ومجايليه من كتاب الرواية في اكثرمن مكان من العالم العربي. كتب الكثير عن رواية صالح المهمة ' موسم الهجرة..' وتم تحليلها عبر اكثر من نظرية ادبية وقرئت على اكثر من مستوى وحللت على اساس العلاقة بين الغرب والشرق، وظروف ما بعد الاستعمار وولادة الدولة الوطنية، وقورنت شخصية ' مصطفى سعيد' بمالرو في رواية ' قلب الظلام' لكونراد وقدمت رسائل ماجستير ودكتوراه عن اعمال صالح الادبية ونوقشت طويلا ومنعت روايته المهمة في اكثر من مكان، منها بلده. ومن الناحية التأسيسية تظل رواية مهمة ومفتوحة على القراءات المتعددة من ناحية انها لا تخضع لجدلية العلاقة بين الشرق والغرب كما جاء في دراسة صدرت قبل اعوام لان مصطفى سعيد نفسه لم يكن الا صورة عن الغرب، فهو بارد، وعقلاني و....و.... بخلاف الطالب العربي الرومانسي الذاهب لمدينة الانوار ولندن الضباب الباحث عن دفء الجسد، وان كانت لعبة الجسد جزءاً من لعبة سعيد مع الغرب، وايا كان التحليل فالرواية على الرغم من مرور اكثر من اربعين عاما على صدورها تبقى مفتوحة على القراءات. وحان الوقت لصدور طبعات جديدة منها تمثل هذه القراءات. طبعا هناك صعوبات تعتري هذه العملية لان اعادة النشر والتوثيق والقراءات الموثقة لاعمال الكتاب الكبار تقوم بها في الغرب الدور الناشرة التي تعمل مع حراس وورثتهم على استمرار الارث الادبي للكاتب وديمومته واصدار طبعات متعددة، شعبية واكاديمية ومختصرة ومن مختلف الاحجام والاشكال ( لا اعرف ان صدرت طبعات جديدة من هذا النوع ام لا؟). بعيدا عن الجانب الروائي المتمثل في هذه الاعمال والتي تشير إلى عزوف عن الكتابة الروائية او انشغال بالحياة العامة والمنتديات، فقراء الطيب صالح وان ظلوا على امل انتظار ظهور اعمال جديدة له او رواية تضارع ذلك الانفجار السردي المثير والتصوير لعالم السودان وثقافته وناسه واهله، تصوفهم واغانيهم ورقصاتهم، ومنتدياتهم ورمزية النيل في حياتهم باعتباره مصدر الحياة والنماء والمجهول، الا ان الكاتب رحل دون ان يحقق احلام القراء، وتظل ' منسي' التي صدرت من ضمن الاعمال التي اصدرتها دار رياض الريس صورة عن سيرة ذاتية روائية جمعت بين الطيب صالح وصديقه منسي ـ المسلم او المسيحي لا يهم هنا ـ المهم انها لم تكن العمل الذي كان ينتظره القارئ. واعتقد ان الطيب صالح رحمه الله لم يكن يريد من خلاله الا الوفاء لصديق من اصدقائه والوفاء كان من احد طبائعه كما تشير مقالاته وكتاباته الاخوانية عن صلاح احمد ابراهيم الشاعر واقاربه من عائلته الممتدة الذين ماتوا وهو في الغربة.

المقالات والمختارات

وتمثل المختارات التي صدرت على حد علمي في 8 اجزاء عن دار النشر البيروتية نفسها معينا مهما لفهم العالم الروائي والثقافي للراحل، فمقالاته التي نشرت في مجلة ' المجلة' السعودية، تشير الى مشاريع لاعمال روائية او بذور لاعمال روائية او مشاريع غير منجزة، وتظهر باتجاه اخر ان الروائي لم يتخل عن حسه السردي ورؤية الروائي. وتعيد المقالات صورة عن الكتابات الموسوعية لكتاب المرحلة الذهبية من الادب العربي الكلاسيكي والنهضة الحديثة اذ انها تعبر عن مثقف شامل عالم بالتاريخ والادب واللغة والشعر الشعبي السوداني واللهجات، وعندما كان يرسم ابطاله في المقالات كان يلونهم بلون وطنه وتنوع اهله ' وناسه'. انتبه العديد من متابعي الطيب صالح الى اهمية المقالة عنده ففي مؤتمر للدراسات السودانية عقدته جامعة درام نهاية القرن الماضي قدمت منى اميوني دراسة مهمة عن ادب المقالة عند الكاتب. والان وقد اصبحت المقالات ان لم تكن كلها مجموعة فهي لا تؤشر فقط الى الجانب الروائي فيها واسلوب القاص ولكنها تؤشر الى موسوعية الدارس وقراءته الموسعة، ففي بعض الاحيان كان صالح يتحدث عن كتب قرأها، ومن النادر انه تحدث عن روايات ولكنّ لديه باعاً في الثقافة الكلاسيكية العربية، احيانا نقول من الجاحظ، وباعاً في الثقافة الكلاسيكية الانكليزية، شكسبير وابطاله. وتشير المقالات إلى انه كان يكتب مثل الرحالة، متحركا، في مدن العالم، فيها من المرح وفيها من الحزن، عندما يتذكر اخوانه الذين رحلوا وانهم لم يخرجوا من وطنهم الا مرة او مرتين للحج وفي عمل وهو من طاف العالم.

خيبة المثقف من السياسي

ستعود الى الطيب صالح فكرة التشرد عند السوداني المرتبط بأرضه بسبب الظروف السياسية المتغيرة ومقالاته الغاضبة التي كتبها نهاية الفترة الديمقراطية وخيبة امل المواطنين من الظرف السياسي الذي جاء بعد انتفاضة عام 1985 وثقافة الطوابير التي اصبحت علامة من علامات الحياة المتوقفة في السودان، طوابير للبنزين والخبز والسكر، وطوابير في مطار متهالك لا تطير طائراته ولا يهتم احد بالمغادرين، ينتظرون بلا امل او نهاية، ثم جاء الانقاذيون الذين كتب عنهم بغضب لا لسبب إلا لأنهم ارادوا ان يمحوا حقب التاريخ السوداني الحديث والبداية من جديد ' كل عشرة او عشرين عاما، يجيئنا (مخلص) ملهم يمحو ما حدث قبله ويبدأ من جديد'. ويقول واصفا ' عباقرة الانقاذ' في دولة السودان ' هؤلاء كأنهم يكتبون على صفحات بيضاء لم يكتب عليها احد قبلهم، علما بان تاريخ السودان يمتد الى الوراء اكثر من اربعين قرنا.. وجدوا شعبا حسن الاسلام، فآلوا على انفسهم ان ينزلوا عليه الاسلام من جديد.. وجدوا امة كريمة متراحمة فأهانوا كرامتها وجرحوا كبرياءها...'. تبدو مقالاته غاضبة وعلى الرغم من لهجتها الجارحة التي تصف مدينة ملعونة هي الخرطوم ونهرا صابرا هو النيل ووطنا تافها لا وزن له وعملة لا قيمة لها ' تحمل بالزنابيل والركائب لشراء رطل البصل والطماطم ثم نادوا هذه امة صارت مؤهلة لزعامة العالم'.

حب الوطن

مات الطيب صالح ودفن في عهد الانقاذ الذي كتب غاضبا عنه ودفن مثل كل السودانيين في جنازاتهم التي يجتمع فيها العدو والصديق ويتألف الحاكم والمعارض وينسى السودانيون خلافاتهم، وكان الطيب يعرف ان السوداني لا ينسى وطنه وحبه لاهله، فهذه طبيعة هذا الشعب الذي يتسامح مع نفسه وقد لاحظ وهو يكتب في تلك الفترة الغاضبة ان الكثير من المعارضين للنظام في اجتماعاتهم التي حضرها وشارك فيها لم يهتف اي واحد منهم ضد النظام ولم يطالب بسقوطه. وهو وان كان غاضبا حانقا على مآلات السودان في ذلك الحين فلانه يرى ان الحلم الذي ولد من مخاضه السودان بعد الاستعمار عاش خيباته وحروبه الداخلية وتمزق نسيجه بين الشمال والجنوب، والغرب والشرق، ولانه ينتمي الى جيل الحلم الذي جاء بعد الاستقلال، جيل المثقفين المتنورين المنتحين على العالم. ولهذا يكتب مثل الباكي والنادب لحال اهله قائلا ' وارحمتاه للسودانيين، انظر اليهم جاؤوا من ادنبرة ومانشستر وسوانسي واكسترا واكسفورد وردنغ معهم نساؤهم واطفالهم واحيانا آباؤهم وامهاتهم. لم يتركوا بلادهم بمحض ارادتهم ولكنهم اخرجوا منها اضطرارا. كانت مرارة الطيب صالح وحيوية روايته عن الوطن الجديد الذي هو السودان وان كانت بحاجة لمراجعة من ناحية طبيعة المعلومات الا ان اهميتها تكمن من ناحية تعاملها مع فكرة الوطن الذي يراه صالح جامعا لكل الوان الطيف السوداني.

المطار وسكون الحركة في الوطن

وبالعودة الى واحد من مختاراته التي خصصها او اختار لها الجامع عنوانا ' وطني السودان' يبدؤه بلوحات كتبها في 21/9/1988 من مطار الخرطوم، صالة المغادرين- الساعة 4.50 مساء وفيها يلاحظ ويفكر بحال الاهل والخلان والسودان حيث يسجل صوره التي جمعها عن سودان الطوابير والتي تشمل كل شيء. والى حركة اهله من الجنوب، مثل جيوش النمل تسير، تسير من جوبا الى ملكال الى شندي الى اتبرا الى مروي الى الدبة الى حلفا على حدود مصر. امواج في اثر امواج من اقوام زلزلتهم الحروب والمجاعات والفيضانات والحكام الاغبياء والوعود الكاذبة'، ويقول ' الحكام السابقون واللاحقون والسابقون واللاحقون وجعفر محمد النميري في منفاه يحلم بالعودة ، تعود لأي شيء يا رعاك الله، اما حكمت قرابة عشرين عاما؟ فكنت مثل طفل شرس، اطلق سراحه في متحف للخزف النادر،فكسرت وهشمت؟'. تصلح اللوحات الثلاث التي وصف فيها مدار الحال في السودان كقصص قصيرة تظهر فيها المدينة كثوب مبتل لم يغسل منذ زمن طويل كما يقول. ويظهر فيها السارد الذي زار فيها قبراً عزيزاً عليه وانقطع الحبل السري بينه وبينها اي المدينة بالحزن والحاجة للبكاء لا على القبر ولكن على هذه المدينة والصالة ' الرثة'. ' في هذا المطار القميء، في هذه المدينة المهملة، في هذا الوطن الحبيب اللعين' بكى حزينا عندما شاهد صورة علقت في صالة المغادرين ذكرته بالسودان واهله الذين يعرفهم ' منذ كم الف وضعت هذه اللوحة في هذا المكان؟ ومن الذي وضعها؟ وماذا كان يدور في رأسه؟ لوحة بهتت الوانها واختلطت وكتب عليها باللغة الفرنسية ( بون فوياج) والعربية ( رحلة سعيدة)'.

السوداني مجاز

يرى صالح ان السودان هو مجاز وليس حقيقة ويتمنى لو تبنى رجاله عشية الاستقلال اسم ' سنار' الذي كان معروفا في العالم وكانت هدايا اهله تذهب كل عام الى مكة ولهم رواق في الازهر الشريف. ويبدو الحنين او العودة لسنار هي حنين مدفوع بالخروج من الاسم الذي فرضه الاستعمار على هذه الرقعة الجغرافية التي اطلق عليها اسم السودان. فما هو السودان؟ يتساءل صالح . كان يكتب في وضع يتحدث فيه جون غرنق والجنوبيون عن تحرير السودان ووضع بدا فيه الوطن اوهى من نسيج العنكبوت، ويلوم صالح قادة السوادن من الصادق المهدي وحسن الترابي الى منصور خالد بانهم لن يعملوا اي شيء امام التحولات في الوطن الذي سيفرضه عليه الجدد من علم ونشيد جديد ومعه ستراق دماء جديدة. تحليل صالح في جوهره يفهم ازمة السودان لكن ما حدث مختلف فالدماء اريقت في محل اخر والوطن مهدد لان يصبح اوطاناً متعددة. مقالات صالح خاصة في ' وطني السودان' و' المواسم' تقدم فكرة عن روائي مثقف مطلع على ثقافته السودانية وتاريخ افريقيا وهناك فصول يقدمها الكاتب بطريقة درامية خاصة حديثة عن التكالب على افريقيا والدور الاستعماري البلجيكي، وشخصيتي حامد بن محمد المرجبي ' تيبو تيب' العماني الافريقي والزبير ود رحمة اللذين حملا آثام تجارة العبيد ' كانت نهاية كل منهما مثل نهايات ابطال مسرحيات بريخت، كل منهما خسر اللعب، لكنه نجا بنفسه، ومات في فراش، حتف انفه'، فيما خرج الاخرون خاصة ستانلي الذي يقدم صورته القبيحة ويعتقد ان كونراد كان يعنيه عندما كتب روايته ' قلب الظلمات'. في قراءته للفترة الاستعمارية يكشف صالح وعيا وفهما لمجريات الاحداث في القارة ويكتب بمرارة عن الخمسمئة ' احمر' بريطاني ممن حكموا السودان الطويل العريض ' بطوله وعرضه وسمائه وارضه وخيره وشره وجنه وانسه، حكمه اقل من خمسمئة من هؤلاء القبيل ( الحمر) الذين جاؤوا من وراء البحر، صحيح.. كانت تدعمهم جيوش غير مرئية وضعوها في ضواحي العاصمة وفي الثغور البعيدة وتسندهم ( هيبة) الامبراطورية ومع ذلك'.. وما جاء بعد الاستعمار فترات حكم من كل لون وحدب وايديولوجية وكلهم تولى ' لا ارضا قطعوا ولا ظهرا ابقوا'.

لماذا نحب الوطن ونرغب بتدميره

المرارة والحزن هما ما يعلمان كتابة صالح عن وطنه، فهو يستغرب كيف يحب الزعماء، زعماء السودان، وطنهم ويتعاملون معه وكأنهم يريدون تدميره. فهو يرى ان بناء الاوطان لا يقوم على فرد ولا حفنة بل مئات الالاف في وطن حر وناس احرار. يحضر السودان الحزين في كتابة صالح وهو يشارك احيانا في محاضرة وهو يرى كيف بنى الانكليز بلدهم وكيف استعان زعماء السودان في حقبه المتعددة بمعماريين لبناء صروح انهارت مع انهيار من بنوها. في ضباب لندن يتساءل صالح ' هل سماء الخرطوم ما تزال صافية ام حجبوها بالاكاذيب؟ هل مطار الخرطوم ما زال يمتلئ بالنازحين؟ هل ما زال اهل الجنوب ينزحون الى الشمال واهل الشمال يهربون الى اي بلد يقبلهم؟'.

احيانا تتمنى وهو يجترح قلبه في وداع الاهل والاصحاب انك المرثي ' تحس ان مجرد وجوده في الدنيا يجعلها اكثر خيرا واقل عدوانا' و'اف للدنيا تعطيك هباء يحسبه الناس هبات والذي تحبه يذهب ولا يعود، ولا عزاء'. العودة للطيب صالح هي عودة للمثقف كاتب المقالة من الطراز الرفيع ، المتعدد الاتجاهات والشامل الثقافة الذي يأخذ قارئه في رحلة مع اللغة والثقافة ويرسم وهو يكتب المقالة بريشة الروائي لوحات جميلة. ولدى الطيب صالح في فن المقالة الذي اتقن ملامحه والرحلة عين على الحياة ومرح واحتفاء بالحياة وجمالها. وتذكر كتاباته بكتاب النهضة والاصلاح ومهما حاول الكثيرون تحليل دوافع بطله الشهير، مصطفى سعيد، فالطيب صالح الانسان، المسافر، والصوفي والمنفتح والسوداني حتى العظم يظل نقيض بطله وصورة مختلفة عن هذا المخلوق الراوئي. ومقالات الطيب صالح التي كتبها على مدار سنوات واودعها مشاهده في العالم وقراءته الموسعة للثقافة العربية والغربية وعلاقاته الانسانية وذكرياته عن عمله اليونسكو وبريطانيا وقطر والسودان وعلاقته بالمدن والبشر تظل من اجمل كتاباته التي انشغل فيها عندما توقف عن انتاج الرواية. وتظل هذه اللمحات والمقالات كما اشرنا سابقا لوحات روائية غير مكتملة فلم يتخل صالح عن حسه الروائي وتشكيله الدرامي للاحداث. حتى في المقالات التي تبدو في بعض الاحيان تقارير لمؤتمرات ومشاركات وندوات وتذكر لعزيز يتدفق فيها قلم الكاتب وهو يكتب سيرة النيل والسودان، بلد مملكة الفونج ومن خلال ذلك تتجلى الالوان التي تعيد قارئها الى فضاءات ' موسم الهجرة للشمال' و'مريود' و' عرس الزين'. ففيها يتبدى السودان الذي احبه الطيب صالح وكره مع ذلك ساساته والسياسة التي دمرته ودمرت احلام من احبوه وشردتهم وهم من اكثر شعوب العالم تشبثا به في مناحي الارض وجعلت من احسن عقوله حراسا وموظفين وتجار شنطة يبحثون عن النجاة في عالم قهر، وهُم مَنْ هـُم من الاعتزاز بالنفس والوطن.

لوحة رعوية

في حديثه عن السودان رثاء له ولاهله ولمدنه وفي لوحاته التي كتبها حب وانتماء للوطن فالمطار الذي تشققت حيطانه ولم تعد الطائرات تهبط فيه وينتظر المسافرون فيه اياما قبل ان يعلن عن اقلاع الطائرات رمز لهذا الوطن الجميل الذي احبه الكاتب، الوطن الذي كان اهله يزرعون النخل في ديار ' المحس' و ' السكوت' ويزرعون الحنطة والشعير في ديار البديرية والشايقية والركابيين، يزرعون الموز في كسلا والبرتقال والجوافة في شندي والذرة في ارض البطانة والقطن في ارض الجزيرة، ويجنون الصمغ العربي من شجر الهشاب في كردفان، يصيدون البقر الوحشي في جبل مرة والظباء عند تخوم بحر الغزال، يأكلون سمك النيل الابيض وسمك البحر، يخرجون الذهب من مكامنه في 'حلايب' و ' جبال شنقول' كانوا يتناشدون شعر ' الدوبيت' ويرقصون 'الدوليب'في ضوء الاقمار، ويرتلون القرآن في جوف الاسحار. ويستخفهم الطرب في حلقات مديح المصطفى المختار. كانت البلاد تضج في العشيات بثغاء الشاه ورغاء الابل وصهيل الخيل وكان الرجل يمشي من ' ابو حمد' الى ' ابو دليق' فلا يخشى الا الله والذئب على غنمه' اي لوحة رعوية واي وطن؟ وطن كهذا ألا يُحب ويُعشق حتى الموت؟ لكل هذا كان صالح يفر من الحاضر المقيت الى التاريخ ' من اجل هذا افيء الى ظل الادب وانماط حياة الشعوب وتاريخ المسلمين والعرب وسير الامم'. ومثلما كان كريما في الدعاء لمن رحلوا علينا ان لا ننساه من الدعاء وفيوض الرحمات. في كتاباته فيوضات من المعرفة والعلم والمتعة الذهنية والروحية.

التعليقات