عـربية الشعـر / صلاح بوسريف*

عـربية الشعـر  / صلاح بوسريف*
شعوري عميق أن العربيةَ لُغَةٌ، مكانُ الشِّعرِ فيها طبيعي، في حين أنه في الفرنسية، يجب أن نُصارِعَ باستمرار لنتذكَّرَ ذلك '

[2]
الكلامُ للشَّاعر الفرنسي، إيف بونفوا. جاء في سياق الحوار الذي أجـراه معه محمد بن صالح، و هو نفسه مقدمة أنطولوجيا ' الصَّوت و الحَجَر ' . أشياء كثيرة جاءت في هذه المقدمة، لها أهميتُها في تأمُّل تجربة الشَّاعر، من جهة، و في تأمُّل أوضاع الشِّعر، في علاقته بغيره من مجالات الفكر والمعرفة، من جهة أخرى.
ما أثارني في هذا الحوار أكثر، هو هذا الإحساس العميق الذي عَبَّر عنه بونفوا، اتُّجاه العربية كلغةٍ، وَضْعُ الشِّعْر ِ فيها، أو مكانُه، كما يقول هو نفسه ' طبيعي '. ما يعني أنَّ العربية هي لُغَةٌ، بطبيعتها، تُوحِي بإيقاعاتِها، و أنَّ الصَّوْتَ فيها، يُتِيحُ لِمُتَلَقِّيهِ أنْ يَسْتَدْرِجَ اسْتِثْنَاءَ ' الكلام '، أو شعريةَ اللغة، و هي تَنْكَتِبُ، في إطار علاقات، ليس من الضروري أن تقومَ على التَّجاوُر. فحتى التَّناحُر، لهُ، في هذه اللغَةِ، ما يجعلُ من احْتِدَامَاتِه، تصير شعراً، أو ما يُوحِي باختلاف الكلام، و انْشِراحِه.

[3]
لا تحتاجُ العربيةُ، وفق إحساس بونفوا، إلى تَذَكُّر شعريتِها، أو تَشْقِيقِ هذا الشِّعْرِيَة، و توليدها، لأنَّ اللُّغَةَ، و أنا هنا، أُعَمِّمُ الكلامَ على كُلِّ اللُّغاتِ، ليست مُنْشَقَّةً عن نفسها؛ لغة للِشِّعر، و أخرى للنثر، فهي لغة واحدة. ماءٌ، لا لَوْنَ، و لا طَعْمَ له. و هي تَتَلَوَّنُ بحسب ما نُضْفيهِ عليها من ظلال، أي بما نضعه فيها من حياة، و ما نَبُثُّهُ فيها من حركة، أو من أنْفاسٍ، أي ما يجعل من هذا الكلام يكونُ غير ما كانَ، قبل أن يخرج من سياق اللغة التي هي مادتُه المُشتـَرَكة، و هي ما يملكه، أو يَتَمَلَّكُهُ مُسْتَعْمِلُو هذه اللغة، دون استثناء.

[4]
عربية الشِّعر، ما جاء في كلام بونفوا، هي عربية اللغة، فهي عربيةٌ فيها تُزَاوِلُ اللغةُ انْفِتَاحَها، تخرُجُ من المُشْتَرَكِ و المُتَدَاوَلِ، إلى الخاص و الاستثنائي. حتى عندما ننظر إلى المفردات معزولةً عن إيحاءاتِها المُشتَرَكة، فهي تُوحِي بِتَوَجُّسَاتِها. كُلُّ مفردة هي ذَرَّة قابلة للتَّفَتُّتِ إلى أكثـر من جسم، و هي انشراحٌ لا نِهَائيٌّ، العادَةُ ليست قَيْداً لها، فهي تجيءُ من عُشْبٍ، يَحْيا بما يَبُثُّهُ في التُّراب من نَوًى.
أنْفاسٌ تُوالِي من وَتِيَرةِ تَدَفُّقِها.
نَفَسٌ، يَلِيهِ نَفَسٌ
هِيَ نَفْسُ حَرَكَةِ المَوْجِ الذي يَجِيءُ مِنْ مَدىً
لاَ حَدَّ لانْفِراَطِهِ.

[5]
حين يُؤكِّدُ بونفوا على ما يمكن أن تعرفه الفرنسية من احتدامٍ لِتَذَكُّرِ شعريتها، فهو يُشير، في اعتقادنا، إلى تلك المواجهة اليومية التي تَفْرضُها علاقة الشاعـر بهذه اللغة، لتَفْتِيـقِ شعريتها، أو لتَوْلِيدِها؛ ما يمكن اعتباره تذكيراً للنِّسيان، بتعبير فوكو.
رُبما في العـربية، كما أعرفُها، و كما أُزَاوِلُها، التذكيرُ، هو نوع من الصيرورة التي لا تفتأُ تُذكِّرُ بأُنُوثتها، أعني، بذلك العُشب الذي لا تَنْفَرِطُ خُضْرُتُه، و لا تَزُولُ.

[6]
قد يبدو لمن يقرأ هذا الكلام، أنّ في العربية كثير من الكلام الذي لا خُضْرَةَ فيه، و أنَّ كلامي عن العربية، بهذا التعميم، هو إفراطُ، لا يشي بأدنى تَحَفُّظٍ.
جوابي، طبعاً، هو أنني، حين أتحدَّثُ بهذا التعميم، فأنا أشيرُ إلـى اللغـة حين تكـون سماءً، لا قَفَصاً، أقصدُ اللغةَ و هي مُتَحَلِّلَة من المعنى، أو هي مفتوحة على كل الاحتمالات.
ما نقرأُهُ من نصوص، مكتوبة بهذه اللغة، أو تلك، هي تحويـلٌ لِلُّغَةِ، من هذا الانفتـاح الكٌلِّيّ، أو من هذه الاحتمالات المُفْرِطَةِ، إلى دلالاتٍ، لا تَتَكَشَّفُ، باعتبار ما تقوله اللغة مُعجمياً، بل بما تَتَّخِِذُهُ من أوضاع لها صلة بطبيعة الرؤية التي تحكُم علاقةَ الكاتب بما يكتُبُه، لا بما هو مكتُوبٌ سلفاً، أو راسخ في القوالب العامة المُشْتَركَة.

[7]
الشَّعر وفق هذا المنظور، كتابة دائمة لِلُّغَةِ. هو دَمُ اللغةِ. دَفْقُهُ هو ما يُعيدُ لِلُّغَةِ حياتَها، و يخلق في جسمها حَرَكِيَةً لا تعرف الانقطاع، يُجَدِّدُها و يُحْييها. إذا كانت العربية كلغة، تحمل في طَيَّاتِها، أصواتاً كامنةً، تُوحِي بإيقاعاتٍ مُتنوعةٍ، فَيَدُ الشاعر، تحتاج إلى مزيد من الرَّهافَة في تَعَقُّب هذه الإيقاعات، في الاستماع إليها، و تحويل مجراها من مُجرَّد أصوات تَحْدُثُ بالطبيعة، إلى نَغَمٍ، نسيجُ علاقاتِه، يَفِيضُ باللغة عن بديهياتها، و يصبو بها إلى ما يفيض عن الطبيعة ذاتِها، مثل حَجَر النَّحَّات تماماً.
ليس الشِّعرُ، في العربية، كما يُشير بونفوا، هو أن نكتفي باستدعاء الكلام دون وَعْيِ شعريته، فشعرية اللغة، و هي خام، لا تحمل في ذاتها أي معنى شعري، و لا يمكنُ أن تكون شعراً، فهي لغة تحتاجُ إلى اشتغالٍ، و إلى توظيف يخـرج بها من ذاتها، إلى ذاتِ مَنْ يكتُبُها، أو ' يَقُودُها ّ، كما يقول بونفوا نفسُه، في مُفْتَتَح الكتاب، و يصبو بها إلى أفق من الانشـراح الشعـري، الذي لا يَرْهَنُ الشِّعْرَ ذاتَهُ، في مُجَرَّدِ القصيدة، أو غيرها من المُقترحات التي عرفها الشعر، عبر مختلف مراحل ممارسته، بل يسمو بها إلى مجهولاتِ الشعر التي ليست هي الوزن، كما أنها ليست هي النثر، بل هي اللغة حين تُضاعِفُ طبيعتَها، و تُصبح لُغَةً فوق اللغة.
شاعر من المغرب

.

التعليقات