علشان خاطر سي الطاهر!../ رشاد أبوشاور

-

علشان خاطر سي الطاهر!../ رشاد أبوشاور
لن يغيب عن بالي فجر ذلك اليوم 28 آب 1982 في ميناء (بنزرت) التونسي ما دمت حيّا.
كنّا على السفينة(سولفرين) التي أقلتنا من ميناء بيروت، ومرّت بميناء (ليماسول) القبرصي، ومن بعد بميناء (كريت) حيث كان استقبالنا حميما.

في ميناء بنزرت استقبلنا رئيس الجمهوريّة التونسيّة الحبيب بورقيبة، رغم تقدّمه في العمر، ووقف وهو يصافح المشرفين على السفينة، وانتبهت إلى أنه يردد مع كل مصافحة:
_ علشان خاطر سي الطاهر...
دهشت من هذا الترحيب، وانشغل تفكيري في البحث عن (سي الطاهر) هذا، ثمّ بغتة ضربت على جبيني، وكأنني أقول: وجدتها.

نعم عرفت من هو سي الطاهر. إنه محمد على الطاهر، المناضل الفلسطيني الكبير، والصحفي الذي جعل من الصحافة رسالة توعية ومقاومة، والذي سجن في فلسطين، ومصر، وتشرّد ولوحق واضطر للاختفاء متنقلاً بين بيوت الأصدقاء، وفي أحياء القاهرة، متخفيّا بملابس رجل دين أحيانا، وبزي فلاح فلسطيني أحيانا، ورهين سجن (هاكستب) الرهيب بمكيدة من حكّام مصر المتنفذين آنذاك، المعروفين بخدمة بريطانيا، وبموالاة الصهاينة.

أكتب عنه وأنا مُحرج، يداخلني شعور بالتقصير، فالرجل عاش حياة غنيّة، وخاض غمار معارك كبيرة وعلى جبهات متداخلة، بكتاباته وصحفه، فلسطينيّة وعربيّة، نصيرا مشاركا بالجهد والفعل لحركات التحرر العربيّة في المغرب العربي الكبير، انطلاقا من رؤية قوميّة وإسلاميّة رحبة، واضعا نصب عينيه محاربة الإنكليز أصل البلاء والداء، ومنبها للخطر الصهيوني الذي كلمّا طال أمد بقائه ازدادت على الأمة تكلفة التخلّص منه.

الحبيب بورقيبة وهو يرحّب بنا مكرّما ذكرى صديقه سي الطاهر، كان يخاطب روح ذلك الرجل الكبير الذي جعل من معركة تحرر تونس من فرنسا الظالمة معركته كصحفي ومناضل.

لم ينس الحبيب بورقيبة مواقف سي الطاهر، الذي استقبله في مصر، وقدمه للوطنيين المصريين، واصطحبه إلى العراق لجمع التبرعات دعما للشعب التونسي وأحراره.

ترى: هل تنبّه الأخوة الذين خاطبهم الحبيب بورقيبة إلى اسم سي الطاهر؟ والسؤال الأهم: كم عدد الذين يعرفون شيئا عن هذا المناضل والصحفي الكبير؟ وأبعد من هذا وذاك: هل يعرف الصحفيون الفلسطينيّون هذا الاسم المؤسس الكبير، وصحفه التي نشرها في مصر -الشباب والعلم والشورى- وهرّبت إلى فلسطين، وسجّلت وقائع انتفاضات وهبّات وثورات فلسطين، والأقطار العربيّة مشرقا ومغربا؟!

بعد جهد مضن حصلت على مذكرات الأستاذ محمد على الطاهر في جزئيها: معتقل هاكستب.. مذكرات ومفكرات 1950 الصادر عن المطبعة العالميّة بمصر، وكتاب ظلام السجن الصادر عام 1951.

في مذكراته نتعرّف على الأوضاع السياسيّة في مصر، وخفاياها، وصراعات حزبي: الوفد الذي يمثّل الوطنيّة المصريّة، والسعديين المنشق عنه والذي يمثّل أقليّة قامت بدور معاد لمصر وشعبها خدمة للإنكليز.

انتقل محمد على الطاهر إلى مصر، ليتمكن من شّن حملاته على الانتداب البريطاني، ولينبّه أهل مصر إلى خطورة التسلل الصهيوني، وهو ما جرّ عليه غضب وحقد أدوات بريطانيا في مصر أمثال الميرلاي محمد يوسف رئيس البوليس الذي بلغ حدّا من الحقارة أن اعتقل زوجة الأستاذ الطاهر في إحدى المرّات ليجعلها رهينة!.

من يقرأ كتاب سجن هاكستب سيقارن معاملة البوليس آنذاك بما يحدث راهنا للفلسطينيين، فهناك في مصر شعب عربي أصيل مؤمن، وهناك عملاء مهمتهم عزل مصر عن أمتها، والتفنن بمطاردة الفلسطيني والتضييق عليه لتكفيره!

لم يكن اعتقال الأستاذ الطاهر يمّر مرور الكرام في مصر، ففي كل مرّة كانت أبرز الأقلام الصحفيّة والأدبيّة والفكريّة والسياسيّة تنبري للتنديد باعتقاله، والتذكير بجهاده، وهذا ما كان يثير حنق عملاء بريطانيا والصهاينة عليه.

لقد وصفت صحافة حكومة إبراهيم باشا عبد الهادي الأستاذ الطاهر بأنه خطر على الأمن العام، فرّد عليها وهو رهين السجن، وواصل خوض المعركة ضدها بعد الإفراج عنه.

تميّز هذا المناضل والصحفي والمجاهد الكبير بالعناد، وتحمّل السجن والتشرّد، ولم تهن عزيمته، ولا لانت عريكته، فهو مؤمن بعروبة فلسطينن، وبأن الصهيونيّة خطر على كل أقطار الأمة، ومن يتوانى اليوم عن المواجهة والقيام بواجبه سيجّر غدا على بلده مصائب تكلف كثيرا.

تصدّى الأستاذ الطاهر لمن وقّعوا على الهدنة إبّان حرب 48، واتهمهم بأنهم يضيعون فلسطين عن سابق عمد، وأن العرب قبل تلك الهدنة كانوا على وشك الوصول إلى (تل أبيب) وفرض الاستسلام على الصهاينة، ولكن بريطانيا المجرمة أعلنت أن انتدابها على يافا لم ينته بعد، ودفعت حكّام العرب الخاضعين لها لتوقيع الهدنة، وهكذا تمّ منح العصابات الصهيونيّة الوقت لجلب السلاح والمتطوعين بفضل التخاذل العربي الرسمي.

بنظرة ثاقبة بعيدة يكتب الأستاذ الطاهر: إذا كان العالم العربي لا يقضي اليوم على الدولة اليهوديّة وهي فلول من عصابات، وقبل أن تكتمل وتصبح دولة قانونيّة حقيقيّة فإنها ستقضي عليهم، وإن عجز العرب عن ذلك الآن فهم غدا أعجز (مذكرات هاكستب39 (.

يتميّز الأستاذ الطاهر رغم رصانته وجديّته بروح السخريّة، المبثوثة في مذكراته، فعلى سبيل المثال اكتشف أنه وصف في مرّات اعتقاله الثلاث بالمدعو في المرّة الأولى، والمسجون في الثانيّة، والشخص في الثالثة (ص55مذكرات هاكستب).

أليس السجناء السياسيون في بلاد العرب من أصحاب الرأي هم هكذا لا أسماء لهم، تنكيرا لهم، تمهيدا لإخفائهم من الوجود؟!

الأستاذ الطاهر إنسان غاضب اتخذ من الصحافة وسيلة لإعلان غضب وسخط على الأوضاع العربيّة، يكتب عن الجامعة العربيّة: إن الذين سيطروا على جامعة الدول العربيّة، وتصرّفوا بأقدار فلسطين، قد أبعدوا أهلها عن قضيتهم، واختصوا أنفسهم بمناصب العمل ومرتباته وألقابه بدون أن يقوموا بأي عمل لأن معظمهم يجهلون فلسطين، ولا يعرفون قضيتها، ولا يعنيهم أمرها..(ص 75 ,76..هاكستب)

يصف الجامعة بجامعة (الباشوات)، ويفضح جهل عزّام باشا وانشغاله بالصغائر، وجهل أحد مقربيه بالقائد عبد القادر الحسيني بطل فلسطين (637 وما بعدها، هاكستب).

يكتب الطاهر مقالاته بلغة بسيطة واضحة مباشرة، وأحيانا يكتب بلغة أدبيّة رشيقة، ويقدّم مشاهد حواريّة مسرحيّة تدّل على غنى أسلوب الكاتب وسعة ثقافته، هو الذي جمعته صداقة بعميد الأدب العربي طه حسين، ومحمد حسين هيكل، والأمير شكيب أرسلان، وكبار الكتّاب والأدباء في عصره.

آمن الطاهر بدور الكلمة المكتوبة: من الواجب أن يضع الناس كتبا عن فظائع هؤلاء الظالمين، تسجّل إجرامهم.. حتى لا يستستهل كل حاكم مجنون يأتي بعد الآن الإقدام على كسر رأس أمّته، وإهانة بلاده، وسفك دماء أبناء وطنه.(هاكستب ص 68)

تجمعني بالدكتور عصام الطاهر، ابن شقيق سي الطاهر، صداقة أعتّز بها، وهو كان مقربا من عمه، وفي مرّات كثيرة روى لي فصولاً مدهشة من حياة ذلك الرجل الكبير. والدكتور عصام يعكف على كتابة مذكراته التي سمعت بعض فصولها، وأحسب أنها ستكون حدثا كبيرا عند صدورها، وفيها كشف لجوانب غير معروفة من حياة هذا الرجل الكبير ورجالات عصره...

يستحّق محمد على الطاهر ولد في نابلس 1896وتوفي في بيروت 1974- أحد رجالات فلسطين والعرب الكبار، أن يُكرّم بجائزة صحفيّة تحمل اسمه، وأن تطبع مذكراته بإشراف الدكتور عصام الطاهر، لتقدّم لشعبه وأمّته، فهي شهادة كبيرة تضيء جوانب بعض ما جري ويجري لفلسطين وشعبها...

التعليقات