عمل ابداعي ضخم يتوج مسيرة مبدع سينمائي استثنائي(2)

-

عمل ابداعي ضخم يتوج مسيرة مبدع سينمائي استثنائي(2)
موسيقانا : خلاصة التجربة

ليس موسيقانا ، إذاً، فيلما بحثياً، أو وثائقياً، أو شعرياً، أو تأملياً، أو فلسفياً، أو روائياً، حتي بالمعاني الغودارية الملتبسة التي كرّسها هذا المبدع الاستثائي طوال نصف قرن من علاقته الشغوف بالسينما، بل هو عمل إبداعي ضخم يتجسد فيه كل ما سبق ذكره في الحلقة السابقة في تتويج ناضج لمسيرة غودار السينمائية والفكرية والسياسية، وفي استشرافاته القلقة لهذا القرن فيما يخص الصراعات الهائلة في العالم كله، وفي منطقتنا العربية علي وجه الخصوص، والتي تثبت كل المؤشرات الراهنة انها ستكون مجال حروب صغيرة وكبيرة، دموية وبشعة.

لكن موسيقانا ، في الوقت نفسه، وللمفارقة تقريباً، لعملٌ هاديء و رزين وليس صعب الفهم خاصة إذا ما أنت قارنته بـ بيرو المجنون أو عطلة نهاية الأسبوع مثلاً. غير ان الوجه الثاني للعملة هو ان الفيلم هذا لجريء وشجاع للغاية، علي صعيد آخر، فيما يخص ما صار علي التقنيات السينمائية الكلاسيكية والتجريبية أن تتعامل معه ببعض الهدوء و"الرزانة لصالح دم الإنسان الذي صنع ويصنع الفن والحياة والسينما وما بعد السينما، ولصالح الأطفال الذين صرنا، في مشهد يومي تقريباً، نري عظام رؤوسهم الصغيرة مخلوطة بما تبقي من آخر وجبة كانوا يتناولونها قبل أن تجيء الرصاصة أو القنبلة لتضع النهاية المبكرة.

لهذا، لا بد من أن يكبر المرء كثيرا في فيلم غودار هذا الاحتفاء بالشأن الفلسطيني في ردح صعب من الزمن يتخلي فيه ليس العالم فحسب، وليس العرب العاربة والمستعربة، والغاربة والمستغربة والقحطانيون والعدنانيون، فحسب، بل حتي بعض الفلسطينيين أنفسهم، عن فلسطين وأهلها وسردها المخنوق. ألم يقل غودار كما اقتبسته سابقاً، أن السؤال السينمائي التقني يشكل بالنسبة له معضلة أخلاقية؟
إذاً، ينزع موسيقانا نحو الهدوء الشكلي (بالمعايير الغودارية علي الأقل)، حتي مع وجود التقسيمات الدانتيّة للفيلم (التي سأتحدث عنها تالياً، والتي، بنائياً، تُذكَّر المرء الي حد ما بـ دوائر فيلم بازوليني سالو )، واللمسات الغودارية المعروفة والمألوفة بحلول هذا الوقت. بل أن موسيقانا ربما كان أكثر أفلام غودار اقتراباً من البساطة والتيسير البنائيين طوال مسيرته السينمائية، وهذا لعمري مؤشر نضج وتمكن من الأداة التعبيرية وثقة بالنفس. لكن حتي في هذه البساطة يلجأ غودار إلي مثاقفة قاريّة عميقة حين يستعير عملاً شهيراً من التراث الأدبي الأوروبي الكلاسيكي هو جحيم دانتي الذي عاش مشرداً ومنفياً بين المدن الإيطالية في القرن الرابع عشر بسبب مواقفه السياسية. إذاً، يستعيد غودار عمل دانتي في كون فيلمه مؤلفاً من ثلاثة أجزاء بالترتيب: الجحيم، والأعراف (أو المطهر)، والجنَّة. وهذه الأجزاء هي ممالك دانتيّة مقتبسة من الجحيم الذي ينبغي أن تكون لنا معه، نحن العرب والمسلمين، علمانيين كنا أم غير علمانيين، مشاكل كبري علي صعيد النقد الثقافي والسياسي، وهي مشاكل أبرزها بكفاءة إدوارد سعيد في الإستشراق .

وفيما يخص الشأن الفلسطيني في موسيقانا ، في سياق الثقافة الفرنسية، لا بد، في الحقيقة، من استدعاء طيف جان جينيه ( القديس الشهيد حسب وصف سارتر) الذي كان صارماً وواضحاً في حياته (الوقت الذي قضاه في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين) وفي كتابته ( عاشق أسير مثلاً) وذلك علي عكس الكثير من المثقفين الفرنسيين الراديكاليين و التقدميين و البديلين (أشكر هنا السينمائي العماني حاتم الطائي الذي كان يُصِرُّ بما يشبه الإسراف علي هذه النقطة الخاصة بجذرية موقف جينيه الاستثنائية أوروبيّاً من الشأن الفلسطيني وذلك في كثير من أحاديثنا قبل نحو من خمس عشرة سنة، وحتي قبل ظهور الترجمة الإنكليزية الكاملة لـ عاشق أسير ). بكلمات أخري، أحاول أن أقول هنا أن بعض المبدعين الغربيين قد تعاطفوا معنا لكن بـ شروط و ضوابط ؛ فعلي الصعيد السينمائي، مثلاً، لا يجد المرء كبير صعوبة في استدعاء فيلم قسطنطين كوستا غافراس حنّه ك المتعاطف بـ تحفظات مع المأساة الفلسطينية، هذا علي الرغم من أن كوستا غافراس، الأيقونة المبجلة باستحقاق وجدارة للسينما السياسية البديلة، لم تكن لديه أية ضوابط أو تحفظات حول الأسئلة الإنسانية والسياسية الجوهرية والملحّة فيما يخص أمريكا اللاتينية كما في فيلمه مفقود ، أو تلك الخاصة بالحركة الشعبية في اليونان كما في فيلمه ز . لكن هذين الإثنين ــ جينيه وغودار، عنيتُ ـ ليست لديهما شروط وضوابط كثيرة في وصف حالتنا.

وليس في الأمر فَلْسَطَنَةً (نسبة إلي فلسطين) قسرية لغودار، فالرجل، في مثال فوق- نصي أخير، كان في طليعة ثلاثمئة مثقف ومفكر فرنسي، من ضمنهم تودوروف مثلاً، وقَّعوا جماعياً علي نص احتجاجي نشرته صحيفة ليبراسيون في عددها الصادر في 8 اذار (مارس) 2004 يدينون فيه قرار منع عرض فيلم الفلسطيني ميشيل خليفي وزميله القادم من الدولة العبرية إيال سيفان الطريق 181 الوثائقي المشترك الذي كان من المفروض أن يعرض لأكثر من مرة ضمن فعاليات مهرجان سينما الواقع في مركز بومبيدو لولا استجابة إدارة المهرجان المخجلة لضغوط يهودية عبّر عنها كثير من المثقفين والأكاديميين الفرنسيين في بيان نشروه في اللوموند متذرعين بالأسطوانة المشروخة والمضجرة والمبتذلة إياها، أي، كما حدستم بالضبط، معاداة السامية ، معتبرين ـ أي غودار وبقية المحتجين علي عدم عرض الفيلم - ان الأمر، في الحقيقة، يتصل برقابة لا تعلن عن هويتها.

لهذا وغيره علينا أن لا ندهش كثيراً أن هناك مؤشرات علي بداية حملة ضد غودار في الولايات المتحدة بتهمة العداء للسامية و العداء للأمريكانية خاصة بالنظر إلي ما يعتور علاقات فرنسا بالدولة العبرية والولايات المتحدة معاً في الفترة الأخيرة؛ فعلي سبيل المثال، كان كيفين توماس، الناقد السينمائي في صحيفة لوس أنجيليس تايمز ، ثاني أكبر الصحف الأمريكية اليومية، أكثر من غمّاز ولمّاز حين أشار الي احتمال الإساءة لليهود في فيلم غودار الأخير وذلك في مراجعة عن موسيقانا نشرها في عدد الصحيفة الصادر يوم 3 كانون الاول (ديسمبر) 2004 (وطبعا، سيكون من نافل القول أن غودار تعرض ويتعرض الي ما يشبه الشتائم المقذعة في عدد من المواقع الالكترونية السينمائية الأمريكية. نقرأ في أحد هذه المواقع، مثلاً، أن أي طالب سينما أمريكي في سنته الجامعية الثانية، لو كان قد أخرج موسيقانا ، فإنه سيكون محظوظاً لو حصل من استاذه علي تقدير ناجح فقط! يا للسخاء!).

الجحيم

ومدة موسيقانا ثمانون دقيقة، لكن كلاً من الجحيم و الجنّة لا يستغرقان أكثر من عشر دقائق لكل منهما، بينما يستغرق الجزء الرئيس من الفيلم، أي المنتصف المعنون بـ الأعراف (أو المطهر)، ساعة كاملة. ولعلنا نجد ما يفسر دوافع هذه القسمة الضيزي في ما قاله غودار في مقابلة صحفية أجريت معه أثناء انعقاد الدورة الفائتة لمهرجان كان السينمائي: الصحافيون يذهبون دوماً إلي الجحيم، والسوّاح يذهبون دوماً إلي الجنة، ونادراً ما يذهب أحد إلي الأعراف! حقاً! غوادر، إذاً، يحاول أن يلفت انتباهنا إلي الأعراف، تلك المنطقة الوسطي الرهيبة، التي يذهب إليها ويطيل فيها الوقت في موسيقانا فيما يمكن أن يكون شغفاً ودعوة إلي نوع من التطهر الذاتي والتأمل. حقاً، لماذا لم تستأثر الأعراف علي كبير اهتمام في تاريخ الفن والإبداع الإنسانيين؟

الصحافيون، إذاً، ومن هم من شاكلتهم، يذهبون دوماً إلي الجحيم، ولهذا فإن القسم الأول من الفيلم الجحيم لَقسمٌ صحافي بمعني كبير، حيث يتكون هذا القسم بالكامل من لقطات ومشاهد، بالحركة البطيئة غالباً، وصور بالأبيض والأسود وبالألوان لكثير من الحروب تم اقتباسها من النشرات السينمائية الإخبارية (التي كانت شائعة قبل عهد التلفزيون) ومن نشرات إخبارية تلفزيونية، وكذلك من أفلام سينمائية روائية مثل فيلم آيزنشتاين أليكسندر نيفسكي الذي يصور الحرب الروسية الألمانية في القرن الثالث عشر (والذي كان أحد بنود الإتفاق السري الذي وقّعه هتلر وستالين قبيل الحرب العالمية الثانية ينص علي الإيقاف الفوري لعرضه في روسيا)، و قَبِّليني بموتيَّة لروبرت ألدريتش، و قلعة الأباتشي لجون فورد.
والحقيقة أن غودار كان قد استعمل المشاهد الحربية التوثيقية في واحد من أفلامه المبكرة هو الجنود (وغودار، في أية حال، ليس فريداً في ذلك فيما يخص أعلام السينما الكبار - فلنتذكر المرآة لأندريه تاركوفسكي مثلاً، ولنتذكر كذلك، بدرجة أقل أهمية، المشاهد الوثائقية في فيلم ريتشارد أدنبره عن رمز الاستقلال الهندي، المهاتما غاندي، قبل أن يتحول الأمر إلي ما يشبه الموضة )؛ بيد ان لجوء غودار لتوثيق الحرب في موسيقانا موسع أكثر ليس لأنه أعلي في نغمته الإدانية والاحتجاجية، وليس لأن المشاهد التسجيلية مدمجة في السرد في الجنود بينما هي قائمة بحد ذاتها في موسيقانا مكونة بذلك مقداراً كبيراً من القسم الأول من الفيلم فحسب، ولكن كذلك لأن غودار يذهب في القسم هذا، ولو بصورة غير مباشرة، إلي الأحلام القديمة والمغدورة للسينما البديلة. ثمة هنا، مثلاً، نسخة غودارية من مفهوم الإنعكاسية الذاتية (self-reflexivity) تعيدنا إلي الشكلانيين الروس الذين أصروا علي إظهار أداة العمل عارية قبل وقت لا بأس به من ظهور بريخت علي خشبة المسرح الراديكالي؛ وهذا أمر سيطوره غودار، كما سيتضح، في القسم الثاني من الفيلم.

ومن تلك المشاهد الوثائقية في موسيقانا استعادات للحربين العالميتين الأولي والثانية، وكذا مشاهد ولقطات من أبرز حروب القرن العشرين كالحرب الفيتنامية والكورية وحروب المنطقة التي أجبرتنا ثقافة الإمبراطورية البريطانية أن نسميها زوراً وبهتاناً الشرق الأوسط (سقي الله هادي العلوي الذي كان يتحفظ علي المصطلح لأسباب فلكية قبل أن تكون سياسية!)، مع اظلامات كاملة للكادر بين بعض المشاهد، وذلك علي نحو أطول مما تتطلبه تقنية الإظلام التدريجي (fade to black). وحقاً، كم كان جي هوبرمان لامعاً حين وصف القسم الأول من موسيقانا بأنه استدعاء غوداري للوحة غرنيكا لبيكاسو. وهكذا فإننا هنا بصدد الإيماءات الغودارية الي رؤيته للعلاقة بين السينما (أو الصورة) والتاريخ التي ستتضح أكثر في القسم الثاني (الروائي) من الفيلم. وفي السياق هذا لا أستبعد أن يقوم بعض النقاد السينمائيين السذَّج في القريب العاجل أو الآجل باتهام غودار بأنه يُجَمِّلُ الحرب خاصة لجهة تحويله بعض المشاهد الوثائقية في هذا القسم من الفيلم إلي ما يشبه الكولاجات وما يشبه اللوحات التشكيلية فائقة الألوان عبر تدخُّلٍ معمليٍّ ما بعد إنتاجي. عزائي المختصر هنا هو أن أحد مذيعي قناة السي ان ان الذي كان ينقل للعالم ما يحدث في بغداد في أولي ليالي حرب 1991، وقد رأت عيناه وكاميرته الغربية الجحيم الملوّن بكل ألوان طيف الموت والدمار الذي تصبّه المقاتلات الأمريكية علي المدينة والردود اليائسة للمدفعية العراقية المضادة للطائرات المنصوبة علي سطوح المباني، عبّر واعياً عن لاوعي جمالي قَتْليٍّ عميق حين فاض به الحماس فخرج عن الموضوعية و المهنية الإخباريتين وقال بصورة جهنمية ومتبجحة ووقحة فيها الكثير من الغطرسة الدينية: بغداد مضيئة مثل شجرة الكريسماس! .

ويأتي التعليق الشفهي علي القسم الأول من الفيلم بصوت طفلة في الخلفية يقول لنا مُفْتَتَحُهُ في عصر الخرافة، ظهر علي الأرض رجال مسلحون بغرض الإبادة (لكن، أهو حقاً عصر الخرافة أم العصر المعاصر الأشد سفكاً للدماء من حروب الخرافات والأساطير؟). وتنقل لنا الطفلة غير المرئية تأملات غودارية أخري (غودار هو كاتب سيناريو الفيلم) منها أن هناك طريقتين لفهم الموت، الأولي هي التعامل معه بوصفه استحالة الممكن، والثانية هي النظر إليه باعتباره إمكانية الإستحالة، ولذلك فإن الموت هو آخر ، وأن الكُتّاب لا يعلمون عَمَّ يتحدثون (أهم، لذلك، بالمناسبة، الشعراء في جمهورية افلاطون وفي القرآن الكريم لاحقاً؟)، بينما لا يُحسِن رجال الفعل التعبير عن أنفسهم (ماو تسي تونغ مثالاً حسب غودار في موسيقانا ، بعد سبع وثلاثين سنة بالضبط من إنجاز الصينية الذي سبقت الإشارة إليه!)

هكذا يرسخ غودار اسئلته الكبري في القسم الأول من الفيلم الذي كاد يروق لي أن أراه باعتباره انبعاثاً سينمائياً لستيفن ديدلاس في خالدة جيمس جويس الروائية عوليس حيث يصرخ هذا أن التاريخ كابوس يحاول أن يفيق منه، وحيث هذا ما تراءي لي وأنا أشاهد القسم الأول من الفيلم. لكن التاريخ، في نهاية المطاف، ليس كابوساً قَدَريَّا، ميتافيزيقياً، أو معرفة بورخيسية (نسبة إلي بورخيس) نهائية موضوعة علي الرفوف في المكتبة التي احتفي بها الكاتب الكبيرلأسباب وجيهة؛ بل ان التاريخ هو فعل، ومجال فعل، ومَشْكلَة، وإعادة إنتاج، وإعادة تفكير، وإعادة نقد.

الأعراف

هكذا، إذاً، ننتقل إلي القسم الثاني من الفيلم، الأعراف (أو المطهر). وهذا القسم من الفيلم تدور أحداثه في شتاء سراييفو (بعد الحرب) حيث يعقد مؤتمر أدبي مفترض يأتي إليه غوادر مدعواً لإلقاء محاضرة لطلبة السينما بعنوان بارتيٍّ (نسبة إلي رولان بارت صاحب النص التشريعي في النظرية السينمائية الصورة، الموسيقي، النص ) عنوانها الصورة والنص . وعنوان المحاضرة هذا التي تلقي في فيلم عنوانه موسيقانا مثير للإهتمام حقاً، حيث أن الفيلم ناطق بعدد كبير من اللغات هي الفرنسية والبرتغالية والإسبانية والعربية والعبرية والروسية والصرب - كرواتية. زِد إلي هذا أن جسر ستاري موست يحتل أهمية رمزية ومجازية كبري في الفيلم حيث ترينا إياه كاميرا غودار من زوايا متباينة وفي لحظات حاسمة، وحيث ينبعث الزمن والتاريخ أمامه. والجسر الصخري هذا كان قد بناه العثمانيون في سراييفو، وقد نجا الجسر بنفسه من مغبة الدمار في الحربين العالميتين ، غير أن المدفعية الكرواتية دمرته خلال الحرب في 1993، ويجري الآن ترميمه في مشروع وطني ضخم يوشك علي الإنتهاء إن لم يكن قد انتهي فعلاً. إذاً، أيتعلق الأمر بإعادة وبناء وترميم جسور بين البشر والثقافات عبر لغة رمزية وليست لسانية هي الموسيقي والصورة؟ ربما كان الأمر كذلك.

وإلي المؤتمر نفسه يأتي الكاتب الإسباني خوان غويتيسيلو الذي كان قد زار البوسنة ثلاث مرات خلال فترة الحرب وكتب عنها. وفي موسيقانا ، في الحقيقة، يقود غويتيسيلو كاميرا غودار مرتين علي الأقل، ويردد مقولته الرافضة للحرب: حين تقتلُ إنساناً دفاعاً عن فكرة فإنك لا تدافع عن الفكرة بل تقتل إنساناً ، كما يأتي الشاعر الفلسطيني محمود درويش. و الشخصيات هذي ــ المخرج السينمائي الفرنسي والكاتب الأسباني والشاعر الفلسطيني ـ يقومون بتمثيل أدوار أنفسهم بأسمائهم الحقيقية وبلغاتهم الوطنية. لكن عليّ أن أشير هنا إلي أن النسخة الأمريكية من الفيلم كانت مقتضبة الترجمة إلي الإنكليزية، وغير أمينة أحياناً، لما يقوله غويتيسولو ودرويش بالإسبانية والعربية، وأتمني أن تكون بقية النسخ أكثر حظاً فيما يخص هذا الشأن.

وإضافة إلي الشخصيات الحقيقية هاته، هناك شخصيات سينمائية تتعاضد روائياً مع التوثيق الغوداري، كالشابتين القادمتين من الدولة العبرية جوديث ليرنر وأولغا برودسكي. الأولي صحافية جاءت علي أمل أن تري في سراييفو مكاناً للأمل والصلح، وكذلك من اجل اجراء مقابلة مع السفير الفرنسي في البوسنة، والذي كان قد حمي وأجار في فيشي الفرنسية رجلا وامرأة يهوديين هما، في الحقيقة، جَدّ وجدة جوديث، ولكن السفير يتهرب من اجراء المقابلة. لماذا؟! ألانه صار يري أن الضحية قد تحولت إلي جلاد؟ أما أولغا فهي مخرجة سينمائية طليعية تقول لعمّها، وهو ابن شيوعي يهودي مصري من قبل 1948 ومترجم غودار في الفيلم، انها تفكر في انتحار ما احتجاجاً علي الإحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، وأن أصدقاءها في حيفا، حين ينامون، يحلمون بالفلسطينيين وليس بالإسرائيليين.

إلي هذا، يدور جزء لا بأس به من أحداث القسم الثاني من الفيلم في مكتبة سراييفو العامة التي بنيت في القرن التاسع عشر، والتي دمّرتها الحرب حيث لا تزال تشتعل فيها النيران في الفيلم الذي يقول فيه غودار في واحدة من دعاباته الكئيبة والعميقة، بالمناسبة، ان الثوريين يشعلون حروباً، بينما يقوم الإنسانيون ببناء مكتبات! وهناك أيضاً شخصية الكاتب الأبيض العجوز الذي لا اسم له ولا ينبس ببنت شفه طوال الفيلم، بل أنه هدف لغضب يصب جامه عليه ثلاثة من الأمريكيين الأصلانيين (ممن يعرفوا عموماً بـ الهنود الحمر في وصف دارج يتضامن، في الحقيقة المؤسفة، مع خطأ كولومبوس الذي كان قد ظن انه وصل الي هِْند التوابل والبهارات). ومما تقوله هذه الشخصيات للكاتب الصامت فيما يشبه المحاكمة أن الرجل الأبيض لن يفهم الكلمات القديمة أبداً، وان كولومبوس لا يزال يشن حربه عليهم من القبر، وانه يمكن له أن يسميهم هنوداً حمراً ، وان أساطير أيامهم مدفونة في رماد؛ وفي هذه الأثناء نسمع صوت غويتيسيلو، مُواطِنُ كولومبوس، غير مترجم في الخلفية، وهذا مأزق للمشاهد الذي لا يحسن الإسبانية.



عبد الله حبيب

التعليقات