عندما يحرس الفردوس جنود مارينز امريكيون مسلحون ببنادق رشاشة!(3)

-

عندما يحرس الفردوس جنود مارينز امريكيون مسلحون ببنادق رشاشة!(3)
طروادة وفلسطين: تناص

وفي مشهد لاحق نري الشخصيات الثلاث هذي واقفة أمام جسر ستاري موست. وهناك حوار بين كاتب فرنسي (هو شخصية سينمائية وليس كاتبا حقيقياً) والسفير الفرنسي المفترض في سراييفو، حيث يقول الأول انه قد ألف لتوّه كتاباً يتتبع فيه بعض المسائل الأدبية من هوميروس إلي فوكنر. ويُذَكِّرنا الكاتب الفرنسي هذا بواحدة من المعضلات التاريخية الأدبية الكبري حين يذّر بعض الملح علي جرح حقيقة أن كاتب الإلياذة و الأوديسة كان ضريراً في الواقع، ولذلك فإن الكاتب الفرنسي (أي المثقف) هذا يقول لسفيره (أي السياسي) ان هوميروس إنما كان يكتب ما يقوله له الناس وما يسمعه منهم، فهو، ضمنيا ً، لم يكن مؤلّفاً لهذين العملين الذين ربما كانا، في الحقيقة، الأكثر خلوداً فيما يخص التراث الأدبي الإغريقي الكلاسيكي.

وإضافة إلي أن الحوار هذا يمهد الطريق للحوار مع محمود درويش، والذي يتسم بطابع طروادي صارخ، فإن غودار هنا إنما يدلي بدلوه في الموضوع الذي شغل الفكر الفرنسي الحديث كثيراً علي اثر تقديم جوليا كريستيفا مفهوم التناص ، وهذا يتساوق مع مجاز الجسر بين الثقافات والشعوب الذي يشيده غودار في الفيلم. (وبمناسبة الحديث عن الكتب والكتّاب في موسيقانا : إضافة إلي غويتيسولو ودرويش، وفوكنر وهوميروس، يحفل الفيلم بإشارات بصرية وشفهية إلي كتّاب مثل بلزاك، وكافكا في صورة له معلقة علي الحائط يقابلها في نفس الغرفة جهاز تلفزيون يُري شيئاً من أخبار محطة السي ان ان!، وحنّه آرندت، والفيلسوف اليهودي عمانويل ليفيانس الذي صار شأنه يتعاظم أخيراً في الفلسفة الغربية، والذي، في إحدي اللقطات، نُري أن أولغا مهتمة به حيث نراها تقرأ أحد كتبه).

وأولغا هي من يجري الحوار مع درويش الذي يظهر أول ما يظهر في لقطة مُظَلَّلَة (silhouee) ثابتة، مما يضاعف من رغبة المشاهد في التعرف إلي شخصه وهويته، خاصة وانه ينتمي إلي هوية وطنية مُظَلَّلَة (بالمعني المجازي وبين مزدوجين هذه المرة). وأثناء الحوار معه تقول له أولغا أنت تتحدث كيهودي! فيرد درويش: آمل ذلك، فهذا أمر حسن الصيت في هذه الأيام، لكن الحقيقة لها وجهان، واننا استمعنا الي الرواية الإغريقية أما أنا فأبحث عن شاعر طروادي لأن طروادة لم ترو حكايتها. ويتساءل درويش: هل الشعب أو البلد الذي لديه شعراء كبار يملك الحق في السيطرة علي شعب لا شعراء له؟ ويضيف استنكارياً في توسيع للحساسية التي كان قد عبّر عنها للتو: هل لشعب أن يكون قوياً دون أن يكتب شعراً؟ ثم يعبر عن رغبته في الكلام باسم الغائب، اي باسم شاعر طروادة، فالمشاعر الإنسانية تظهر أكثر في الهزيمة، وهناك شاعرية أعمق في الخسارة، وانه لو كان منتصراً لشارك في المظاهرات التي ينظّمها المهزومون. ثم يباغت درويش أولغا (في الفيلم) بسؤال يفاجيء به أيضاً المشاهد الغربي (للفيلم)، إذ أن الكاميرا عبر تقنية اللقطة واللقطة العكسية تضع المشاهدين في مكان أولغا (مزيد حول ذلك لاحقاً): هل تعلمين لماذا نحن الفلسطينيين مشهورون؟ ويجيب عن السؤال بنفسه: لأنكم أنتم أعداؤنا، والعالم كله معكم، فاسرائيل لها أنصار في كل مكان. ولهذا السبب تحديداً يكشف درويش عن مفارقة: ولكننا ـ نحن الفلسطينيين ـ محظوظون، فقد الحقتم بنا الهزيمة، لكنكم منحتمونا الشهرة. وحين تسأله أولغا مبتسمة: أنحن وزارة دعايتكم السياسية؟! يجيب درويش بصورة حازمة وقاطعة: نعم! ويستمر درويش في إرباك محاوِرته وإرباك المُشاهد معلناً: أحمِلُ اللغة المُطيعةَ كالسَّحابة ، ومنهياً الحديث بإبراز واحدة من الأسلحة الفلسطينية المتبقية القليلة: شعب بلا شِعر هو شعبٌ مهزوم. وفي لحظات مفصلية من الحوار يقطع المونتاج بين وجه محمود درويش ووجه واحد من الأمريكيين الأصلانيين الثلاثة والذي يبدو مصغياً باهتمام واستحسان لحديث درويش (رغم انه لا يفقه لغته) كما لو أنه كان يستمع اليه وهو يلقي الخطبة الشعرية الشهيرة التي تقمص فيها الشاعر صوت ومأساة المواطن الأمريكي الأصلاني.

والحقيقة أن درويش كان قد عبّر أيضاً عن الوجدان الطروادي هذا في الفيلم الوثائقي محمود درويش: حيث الأرض هي اللغة الذي أخرجته سيمون بيتون (1998) حيث يقول: إنني أعتبر نفسي شاعرا طروادياً، أي ذلك الشاعر الذي لم نعثر ولم يعثر تاريخ الأدب الإنساني علي نصه. إنني أنتمي إلي طروادة ليس لأنني مهزوم، ولكن لأنني مهووس بكتابة النص الغائب. وقد كنت أتمني أن أكون منتصراً، بالمعني العام، لكي أختبر صدقية رغبتي في تقمص ضحية طروادة التي تستطيع أن تكتب سيرتها. ويقول أيضاً: لدي مشكلة أريد أن أعترف بها: أنا لم أعترف حتي الآن بأنني مهزوم. ربما زودني الوهم الإبداعي بأسلحة لا تجعلني أحدق في مدي تأثير الهزيمة السياسية والعسكرية علي المستوي الإبداعي. أو ربما انني لا اريد ذلك. أو ربما ليس من الضروري أن تكون هناك هزيمة علي المستوي الإبداعي والشعري. والحقيقة أن القطع المونتاجي بين درويش وشخصية الأمريكي الأصلاني في موسيقانا يذكرنا بما قاله الشاعر الفلسطيني في فيلم سيمون بيتون الوثائقي: الأمريكي الأصلاني هو المحكمة المفتوحة دوماً لضمير الأبيض . وحقاً، كان الحوار الأحادي بين الأمريكان الأصلانيين والكاتب الصامت في مكتبة سراييفو شبيهاً بالمحاكمة التي، في الحقيقة، ليست هناك صعوبة كبيرة في إسقاطها علي الحالة الفلسطينية.

فلسطين غيابياً وحضورياً وفلسطينية درويش

ضمن أشياء أخري، ينبغي الإنتباه هنا إلي أنه في موسيقانا ، الذي يشكل السؤال الفلسطيني فيه جزءاً وليس كلاً ثيماتياً، تتحدث الينا فلسطين عبر الكاميرا مباشرة من خلال شخصية غير سينمائية، بل عبر شخصية فلسطينية شعرية حقيقية (من دون تفضيل) قادمة من لحم ودم وعظم وكلمات التجربة الفلسطينية، بينما في فيلم كوستا غافراس حنه ك ، الذي سبقت الإشارة إليه، والذي ثيمته الكاملة هي السؤال الفلسطيني، تتحدث فلسطين الينا نيابياً و غيابياً عبر شخصية المحامية الأمريكية التي تحتل عنوان الفيلم بالكامل لمجرد انها متعاطفة، لأسباب إنسانية أكثر منها سياسية، مع المأساة الفلسطينية، وكأن الفلسطينيين لا يستطيعون تمثيل أنفسهم. وشتّان، طبعاً، بين الحالين.

وسياقي للغاية أن أشير هنا إلي أنه، فيما يخص المراجعات التي كتبت عن موسيقانا في الصحافة الأمريكية، هناك إغفال عجيب للهوية السياسية والوطنية لمحمود درويش، إذ، مثلاً، يعرّفه كيفين توماس في مقال لوس أنجيليس تايمز الذي سبقت الإشارة إليه، وسكوت فوانداس، الناقد السينمائي في الصحيفة الأسبوعية لوس أنجيليس ويكلي في عدد الأخيرة للفترة من 3 إلي 9 كانون الاول (ديسمبر) 2004، بأنه ـ أي درويش ـ شاعر عربي . ومؤكد أن مؤلف سجِّل أنا عربي التي رددناها وغنيناها من الماء إلي الماء سيكون فخوراً بهذا النعت القومي (ضمن الحدود التي يتيحها الواقع علي الأقل!)؛ لكن، فيما يخص الإقتصاد السياسي لغايات الإقصاء علينا أن نتذكر إدوارد سعيد الذي أشار مبكراً إلي ان الإعلام الأمريكي يتجاهل فلسطينية الفلسطينيين ويجزي نفسه شر القتال والتاريخ بأن ينعتهم عرباً وذلك في تّبَنٍّ لموقف الليكود - من دون أن يعني هذا أن التجربة قد باحت بأن العمال أفضل بكثير -- حيث أعتاد شامير، مثلاً، علي وصف فلسطينيي الضفة والقطاع بأنهم غرباء أو أجانب مقيمون . لهذا يصير إلحاق محمود درويش بـ العروبة أكثر مما يُغفل فيه شأن فلسطينيته نوعاً من الإساءة المُضاعفة التي تتخذ في هذا الوقت بالذات طابعاً وموقفاً سياسياً صارخاً. وإلا لماذا يعرّف لنا الناقدان السينمائيان اللذان ذكرت ان خوان غويتسيلو (الناقم، في الحقيقة، علي إسبانيا) هو كاتب إسباني بدل أن يقولا لنا، ببساطة، أنه كاتب أوروبي خاصة وأن هذا هو زمن اليورو والسوق الأوروبية المشتركة والقارة الموحدة في مرحلة ما بعد انهيار جدار برلين، إلخ؟ لماذا يحق لغويتسيلو الإحتفاظ بمكان ولادته والانتساب إليه، بينما لا يحق ذلك لمحمود درويش؟
أما محاضرة غودار الروائية/التوثيقية عن الصورة والنص فيلقيها في منتصف الفيلم. وفي المحاضرة هذي يمسك غودار بصورة بالأبيض والأسود لمبان مدمرة ترينا اياها الكاميرا في لقطة مقربة جداً، طالباً من جمهوره أن يحزروا المدينة التي التقطت فيها الصورة، فتأتي من الجمهور إجابات جاهزة ومعلبة متأثرة بالتنميط الإعلامي من قبيل بيروت! ، سراييفو! ، غير أن غودار يصحح جمهوره قائلاً بهدوء: كلا، انها من ريتشموند، فرجينيا، في الولايات المتحدة وقد التقطت عام 1865 أثناء الحرب الأهلية الأمريكية (وطبعاً كان نصيب ريتشموند، فرجينيا حصة الأسد من عدد القتلي في الحرب تلك). بهذا لا يخلّص غوادر العنف من تهمة إلصاقه بشعوب وثقافات معينة صار العالم يردد بصورة ببغائية غبيّة انها حكر وخصيصة لتلك الثقافات فحسب، ولا يقول ان العنف مشكلة بشرية متأصلة فحسب، بل، في الحقيقة، يكشف عن العنف في الخلفية التاريخية والنفسية للولايات المتحدة التي صارت اليوم تقدم نفسها علي انها ملاك الطمأنينة والسلام من خلال عنف متطرف صارت تشنه عبر حروب عسكرية ودبلوماسية واقتصادية تشنها ذات اليمين وذات الشمال.

اللقطة واللقطة العكسية: سؤال السينما والتاريخ

وإذا كان مجنون ليلي الفرنسي، لوي أراغوان، الذي نعرفه نحن قراء العربية عبر قصائده التي كتبها عن محبوبته إلزا قد عرّف السينما في مقالة شهيرة بأنها غودار ، فإن هذا في موسيقانا يعرِّف السينما بطريقة مربكة ومركّبة وجديدة، حيث يقول، في محاضرته، أن المبدأ القواعدي الأساس للسينما هو تقنية اللقطة واللقطة العكسية (champ contre champ). ولإيضاح الأمر يرينا غودار إعادة انتاجين فوتوغرافيين للقطتين مأخوذتين من أحد أفلام هاوارد هوكس - لقطة ولقطة عكسية. لكن غودار لا يتوقف عند هذا الحد التقني بل يتجاوزه إلي سؤال أخلاقي سبقت الإشارة إلي موقف غودار منه وذلك حين يسقط مفهومه السينمائي هذا علي التاريخ، إذ يمسك صورة فوتوغرافية شهيرة لوصول اليهود إلي فلسطين عبر البحر في 1948، وبعدها يمسك بصورة أخري نري فيها خروج الفلسطينيين من فلسطين. هاتان الصورتان التقطتا في نفس اللحظة من التاريخ، وهذا يتصادي مع ما قاله درويش سابقاً في الفيلم من أن للحقيقة وجهين ، ذلك ان هاتين الصورتين، بالنسبة لغودار، لا تعنيان الشيء نفسه، حيث يقول معلقاً علي الصورة الأولي بأنها اللقطة (أو، فلنقل، درويشياً، أحد وجهي الحقيقة) حيث وصل اليهود عبر البحر إلي أرض فلسطين، بينما يري غودار ان الصورة الثانية هي اللقطة العكسية (أو، فلنقل، درويشياً أيضاً، الوجه الثاني للحقيقة)، أي خروج الفلسطينيين من أرض فلسطين. هذه هي السينما، وهذا هو التاريخ، حيث يصير المنتصرون مادة للسينما الروائية، بينما يصبح المنهزمون مادة للسينما الوثائقية كما يقول غودار. أتذكر هنا ما كان يقوله ادوارد سعيد بأنه حتي الآن ليس هناك فيلم روائي كبير واحد عن المسألة الفلسطينية (فلنقل، علي شاكلة أوكسيدوس أو الظل العملاق ). وأود أن أضيف، في هذا السياق، انه حين يتعلق الأمر بالسينما الوثائقية، فحدّث ولا حرج عن الوفرة.

وفي انتقال إلي موضوع آخر أثناء القاء المحاضرة، يسأل أحد الطلبة غودار عما إذا كان يعتقد أن كاميرا الفيديو الرقمية في وسعها أن تخدم السينما. هنا، تركز الكاميرا السينمائية (35 ملم) التي تلتقط المشهد علي وجه غودار في لقطة مقربة لدقيقة كاملة، بطيئة وثقيلة لا يجيب فيها غودار عن السؤال الا بالصمت قبل أن تنتهي اللقطة. لكن علينا أن نفهم سكوت غودار بأنه علامة موافقة ليس فقط لأن هناك مشاهد عدة في الفيلم ملتقطة بكاميرا الفيديو الرقمية، بل كذلك لأن غودار كان قد تحمس كثيراً في السبعينات لتقنية الفيديو ومحتملها الديمقراطي في إنهاء نخبوية السينما الإنتاجية والعرْضية، وهو حماس شاركه فيه كثير من مخرجي العالم الثالث الكبار وعلي رأسهم السنغالي جبريل ديوب مامبيتي. وللأمانة، استطراداً، إن كان هذا الرأي قد شكّل معضلة جمالية وفلسفية للكثيرين في الثمانينات، فإن الأمر لم يعد ـ أو لا ينبغي أن يكون ـ كذلك الآن بسبب من تقدم التقنيات وزوال الحواجز الذين لم يعودا يتيحان للحنين ما هو أكثر من وقوف سريع علي الأطلال (وعنوان أحد الأنثولوجيات الهامة التي يتم تداولها وتدريسها الآن في الأكاديميا الغربية الناطقة بالإنكليزية مؤشر علي هذا: نهاية السينما بالصورة التي عرفناها بها ).

وبعد انتهاء المؤتمر يعود الجميع من حيث أتوا بمن فيهم غودار الذي يتلقي، في نهاية القسم الثاني من الفيلم، مكالمة هاتفية تقول له، وتقول لنا نحن المشاهدين في نفس الوقت، أن أولغا، التي كانت قد أجرت الحوار مع محمود درويش، قد قامت بعملية في القدس (والعمليات الإنتحارية، أو الاستشهادية، يقوم بها الفلسطينيون عادة!)، حيث أن أولغا احتجزت رهائن في دار سينما (لماذا دار سينما تحديداً بدلاً من حافلة أو مقهي أو سوق خضار يا غودار؟!)، وسألت جمهور مواطنيها ان كان فيهم من هو مستعد للموت معها من أجل السلام (ومحتجزو الرهائن لا يتركون خيارات كثيرة لأسراهم عادة!) فانسحب أفراد الجمهور جميعاً، حيث يبدو ان ليس فيهم شخص واحد متحمس للسلام، وتركوها وحيدة تماماً وهدفاً سهلاً للقتل من قِبل فريق الإقتحام. لكن اتضح بعد قتلها ان حقيبتها كانت مليئة بالكتب وليس المتفجرات!

هكذا، إذاً، ينتهي القسم الثاني ويبدأ القسم الثالث والأخير من موسيقانا ، أي الجنّة، حيث نري أن أولغا قد وصلت الآن إلي الجنة بعد أن قتلت (أستشهدت؟). لكن الفردوس هذا لا يحرسه القديس بيتر كما في المقولة المسيحية القديمة، بل هو نعيم مقسّم إلي أجزاء ومقاطعات مسيجة يحرسها جنود المارينز الأمريكان المسلحون بمدافع رشاشة!
ولا أظن أن الأمر يحتاج إلي أي تعليق!


عبد الله حبيب
"القدس العربي"

التعليقات