في ذكرى رحيله الـ37../ خالد الفقيه

-

في ذكرى رحيله الـ37../ خالد الفقيه
سبعة وثلاثون عاماً مرت على اغتيال الأديب الفلسطيني غسان كنفاني في قلب بيروت. سبعة وثلاثون عاماً مرت على اختلاط دم غسان بدم ولحم لميس ابنة شقيقته التي قضت معه في التفجير الذي استهدف سيارة الأديب الذي زاوج القلم بالبندقية. وجعل من مداد قلمه رغم المرض جسراً للتعريف بفلسطين وقضيتها.

يحسب لغسان أنه كان صاحب اليد الطولى في اكتشاف معجزة الابداع الكاريكاتيري ناجي العلي فكان اول من نشر رسماً لناجي في مجلة حركة القوميين العرب التي كان يرأس تحريرها في العام 1961 ولا عجب أن كانت اللوحة الأولى للعلي قد استوقفته فقرر نشرها، فاللوحة كانت عبارة عن خيمة وقد تحولت إلى بركان انفجرت منه يد مصممة على التحرير تنفض عار النكبة وتعري كل المتخاذلين وتؤكد أن المخيم هو مرجل الثورة ووقودها الذي لا ينقطع.

غسان مات ورحل بعد أن أرسى جدلية عمادها رفض الاعتراف بالنكبة والاحتلال والتصدي للتطبيع مع كيان غريب اغتصب الأرض وشوه التاريخ، فاطلق صرخته المدوية لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟؟؟ وشدد على مضيه في الدرب الصعب حتى يزرع في الأرض جنته أو أن يقضي دون ذلك وهو ما حدث.

ولد غسان في عكا عام 1936 على صوت هدير بحرها وبالقرب من سورها التي اندحرت على جدره قوات الغزاة. ووعى في طفولته ارهاصات النكبة الأولى فعايش احتكاكات العرب باليهود وشهد تكالب الإنجليز على الفلسطينيين ومنهم حتى من الدفاع عن انفسهم في حين أرخوا الحبل لليهود كي يتسلحوا ويحصنوا مستعمراتهم، وغضوا البصر عن ارهاب اؤلئك المستجلبين من شتى بقاع الأرض.

لم تصمد المدن والقرى الفلسطينية عام 1948 أمام الهجمات التي شنتها العصابات الصهيونية رغم استبسال المدافعين عنها وهو ما شهده الفتى اليافع فكانت النكبة واللجوء وكان غسان واحد من اولئك المهجرين المنفيين من وطنهم قسراً.

وفي الشتات سارع غسان لتأسيس تنظيم مسلح يأخذ على عاتقه جهد المقاومة لاستعادة فلسطين ومع انطلاق المد القومي وتأسيس حركة القوميين العرب انخرط غسان وتنظيمه في تشكيلات الحركة، واستلم فيها الملف الاعلامي فصار رئيساً لتحرير نشرة الحرية. وبعد ذلك بأعوام انبثقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من رحم حركة القوميين العرب واصبح غسان عضواً في مكتبها السياسي حتى استشهد وهو في قمة عطائه عام 1972 عن 36 عاما.

أبدع غسان في عمره القصير يمقاييس الزمن المديد بالعطاء عدداً من الروايات والدراسات البحثية إضافة إلى بعض اللوحات الفنية والمقاطع الشعرية فزاوج بين العمل السياسي المقاوم والحس الانساني المرهف، فكانت أولى قصصه القصيرة قد ولدت في الكويت وقد حملت عنوان القميص المسروق وعليها نال جائزة أدبية، رغم أن بوادر مرض السكري قد ظهرت عليه هناك، فلم يلتفت للمرض اللعين وواصل العطاء، فأخذ على عاتقه إيصال قضية شعبه للعالم عبر إعتصاره مداد قلمه في عصر كانت فيه وسائل الاعلام محدودة التأثير حيث كانت تقتصر على الشكل المكتوب وإلى حد ما المسموع.

وجاءت بعد ذلك رائعته الأدبية عائد إلى حيفا التي صور فيها رحلة اللجوء والتشبث بحق العودة وأرفدها لاحقاً برواية أرض البرتقال الحزين التي تحكي رحلة عائلته عن عكا، ومن روائع الاديب الشهيد موت سرير رقم 12 وكذلك رجال في الشمس التي صرخ فيها صرخته المشهورة لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟؟؟ والتي عالج فيها رحلة اللاجئين للعمل في الكويت من خلال مهربين. وأكمل غسان الرواية بقصة رجال في الشمس.

مات غسان وبعض من ابداعاته لم يكتمل رغم أنها نشرت بعض صورها كما حدث مع كتابه عن الرجال والبنادق. ولغسان دراسة تعد الأولى والأكثر عمقاً والتي حملت عنوان في الأدب الصهيوني إلى جانب كتابه شعراء الأرض المحتلة. رأس كذلك تحرير مجلة الهدف لسان حال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

ومن إرث غسان الذي لازال يتداول حتى اليوم عدد من القصص والمسرحيات منها الباب وعالم ليس لنا وما تبقى لكم وأم سعد والشيء الأخر وبرقوق نيسان والعاشق، الأعمى والأطرش والقنديل الصغير.

ضاق الاحتلال ذرعاً بغسان فدبر الموساد له عملية اغتيال بتفخيخ سيارته الخاصة في بيروت مما أدى لاستشهاده مع ابنة أخته لميس في صباح الثامن من تموز عام 1972.

ذهب غسان وبقي أرثه من بعده مواد تثقيفية لأجيال الفلسطينيين والعرب ممن يرفضون التنازل عن حق العودة ويتصدون للتطبيع الثقافي والاعلامي مع عدو اغتصب فلسطين.

واليوم وبعد مضي 37 عاماً على رحيله انقلبت الموازين وبات يوصف من يتمسكون بنهجه المقاوم لكل أشكال التطبيع بالقناصة، فتحت شعارات الثقافة والفن وفي عصر استحال الهزيمة وتجميلها في بقايا وطن تنشط حركة تطبيعية لو كان غسان حياً يرزق ربما لقتلته وهو يرى أصحاب القلم والفن والشعر والأدب يتسابقون للتعاطي مع المحتل ويقبلون على أنفسهم مسرحية الإذلال على حواجز ومعابر يسيطر عليها المحتل تحت حجة انهم ما قبلوا بذلك إلا وفاءً لأقلامهم وضمائرهم.

غسان.. الأمر وصل أبعد من ذلك فالخجل من هذه المعاصي تراجع وفتحت أبواب عالمنا العربي المتهالك أمام مثقفي المحتل ليجولوا ويصولوا في عواصم العرب وبعضهم مغرق في تطرفه وصهيونيته المقيتة، وبعضهم صار يحمل جنسية وطن لطالما حلمت بأن تزين بها جيب قميصك المسروق.

واليوم من حقنا أن نسأل ماذا لوكان غسان حياً يرزق ولم يترجل عن حصانه بعد؟ ماذا كان ليقول في وصف فتح الابواب على مصارعها أمام الصهاينة وأمام منح مثقفين ومحللين وسياسيين إسرائيليين ليجولوا عالمنا العربي؟ ماذا كان سيقول وهو يرى قيادات صهيونية ولغت في الدم الفلسطيني واللبناني والعربي وقد استطاعت الولوج إلى ذاكرتنا العربية لتمسح أرث الماضي الحاضر من خلال فضائياتنا لمخاطبة أكثر من 300 مليون عربي أو يزيد تحت مسمى الرأي والرأي الأخر وحرية تعدد وجهات النظر؟

بحق إنها مرحلة إنقلاب المعايير وانفلات الثوابت. فنم غسان قرير العين فكما قال الإمام علي: لا تستوحشوا طريق الحق لقلة السائرين فيه.

التعليقات