في رحيل إسماعيل شمّوط../ رشاد أبوشاور

-

في رحيل إسماعيل شمّوط../ رشاد أبوشاور
يوم 8 تمّوز، ونحن نمضي إلى مقبرة (سحّاب)، بجثمان فنّان الشعب والقضيّة إسماعيل شمّوط، حضر معنا غسان كنفاني، ففي هذا اليوم اغتال الصهاينة كاتبنا الكبير، وفي هذا الشهر رحل شهيداً عبد الرحيم محمود، واغتيل ناجي العلي، وغادرنا توفيق زيّاد بحادث طرق، بين القدس وأريحا و..ماذا أيضاً في تموّز هذا بقي مختزناً في الذاكرة المكتظّة؟! في 9 تمّوز سقطت مدينة (اللد) مسقط رأس إسماعيل شمّوط...

كلّما جلسنا مع إسماعيل شمّوط، كان يتوقّف عند ذكرياته كبائع حلاوة متجوّل، فبعد الرحيل من (اللد) إلى (رام الله) إلى (بيت لحم)، ف(الخليل)، ف(خان يونس) في قطاع غزّة، كان عليه أن يساعد الأسرة...

لم يكتب إسماعيل شمّوط مذكراته في كتاب مستقّل، ولكنه اختصرها في فصل غني مكثّف في كتاب (السيرة والمسيرة)، كما كتبت رفيقة رحلته الفنّانة الكبيرة تمام الأكحل فصلاً عن مدينتها(يافا)، وهجرتها مع أسرتها إلى لبنان، ومشوارها مع الفّن التشكيلي...

في طفولتنا المبكّرة الشقيّة، فتحنا عيوننا على لوحات إسماعيل شمّوط الأولى، على البدايات، بشخصيّاتها الذاهلة الملامح، والسؤال المتكرر في العيون: إلى أين؟

هذا السؤال طرحته، من بعد، أجيال فلسطينيّة على نفسها: إلى أين تمضي أيّها الفلسطيني؟ هل تنتهي إلى الذوبان، الاندثار، والنسيان؟!
كان هذا السؤال البسيط يضع الفلسطيني أمام خيار، كما هو سؤال (هملت): أن تكون أو لا تكون، هذا هو السؤال...

من هنا انطلق إسماعيل شموّط حاملاً رسالته، مدججاً بتجربة رهيبة، فهو عاش النكبة، والرحيل، والعطش، والجوع، والنوم في العراء وتحت الخيام...

في مخيم خان يونس اختار أن يبيع الحلاوة، يكتب في (السيرة والمسيرة): أحببت بيع تلك الحلوى، ولا أعلم سبب تعلّقي بها. ربّما كونها منحتني في صباي فرصة التجوال في (خان يونس)، وفي المناطق المجاورة لها..(ص 34)...

آنذاك عمل معلّماً متبرعاً، وحصل على الورق والألوان، وأخذ يرسم ليلاً على ضوء مصباح الكاز، وفي النهار كان يكتشف أنه وضع اللون الأصفر بدلاً من الأحمر، والأخضر بدلاً من الأزرق...

من قطاع غزة وبعد أن ادخر عشر جنيهات ركب القطار وغادر إلى القاهرة ليدرس فّن الرسم.
في القاهرة أقام معرضه الأوّل الذي افتتحه الرئيس جمال عبد الناصر.
وإلى القاهرة وفدت فتاة فلسطينية من لبنان، هي تمام الأكحل، مبعوثة من (جمعية المقاصد)، فتعارفا، وتحّابا، وامتزجت روحاهما في رحلة حياة وإبداع...

حلّق الفن التشكيلي الفلسطيني، بهما، وارتقى، بدأ من البسيط لوناً وتقنيةً، وبلغ مرحلة الأعمال الجدارية الملحميّة. تداخلا حياةً، وفنّاً، وبقيت لكل منهما شخصيته، وميزاته، وريشته، وألوانه...

في (الفاكهاني) ببيروت، افتتحت صالة (الكرامة) لتكون معرضاً دائماً لعرض الأعمال التشكيليّة. أراد إسماعيل وتمام أن يلونا أيّام الفاكهاني بالفن، وأن يخففا من وطء السلاح، وثقل الموت اليومي، ولكن الحرب وقعت عام82...

دمّر البناء الذي كانت فيه الصالة، فرأيته يخاطر بحياته لإنقاذ اللوحات، رغم إجراء عملية لقلبه في ألمانيا قبل وقت قصير، واحتمال أن تعود الطائرات وتقصف، أو انهيار البناية بالكامل.

في الفصل المختزل عن حياته، يروي حادثة وقوعه وشقيقه جمال في حقل ألغام، لولا أن رآهما رجل بدوي، فصاح بهما أن يتوقفا، وأخذ ينبههما إلى كيفية المشي في ذلك الحقل حتى نجيا!.

إسماعيل شمّوط مشى كشعبه في حقل الألغام، وخرج سالماً ليروي، ويرسم، وينشر ألوان فلسطين ببحرها الأزرق، وبرتقالها، ودم شهدائها، وبياض فساتين زفاف عرائسها المنتظرات بلهفة، أو المفجوعات برحيل الأحبّة.

يرحل إسماعيل شمّوط، والسؤال ما زال يلّح على الفلسطيني، وأطفال غزّة، أبناء من عاشوا النكبة، وأحفادهم، يذبحون (على الهواء مباشرةً) في زمن يتحكّم به وبأهله، مجرمون خارجون على كل النواميس، والأعراف، والقوانين...

رحل المؤسس، ومطوّر رحلة الفن التشكيلي الفلسطيني، وقد خلّد النكبة، والضياع، وانطلاقة المقاومة، والانتفاضة، والخروج من بيروت، والمذابح، و..الأمل، والحب، فمن لم ير لوحته (المعشوقة) كأنما لم يشاهد فنّاً يخلّد الحب، ملتقطاً لحظة صوفية لرجل وامرأةً يذوبان وجداً...

تلك اللوحة أهداني نسخةً منها، حملتها معي من بلد إلى بلد، وظللت دائماً أتأملها، متسائلاً: أي طاقة على الحّب امتلكها هذا الفلسطيني، ليخلّد باللون والحركة ما يعجزعن قوله أي كلام مهما كان بليغاً؟!

لقد أكمل إسماعيل شموّط رحلته، وأتّم عطاءه لوطنه، وشعبه، وقضيته، وأمّته، ثمّ مضّى...

هذا الفنان كشعبه، امتزج في فمه المّر بالحلو، و(الحلو) انتزعه من حقول الأشواك التي عبرها، ونقّل قدميه في حقل الألغام، فتجاوز المخاطر، ورسم، وكتب، وأبدع، وعاش...

يكتب إسماعيل شموّط في (السيرة والمسيرة) عن أبناء جيله الذين اندفعوا للعمل والمعرفة، ومن بعد مضوا إلى بلدان الخليج فعاشوا شظف العيش، وقسوة الحياة قبل زمن النفط والثروة، فعملّوا، وأسهموا في البناء...

لم يحجب إسماعيل شموط غيره، فهو عمل على تأسيس الاتحاد العام للتشكيليين الفلسطينيين، وضّم إليه كل الفنانين الفلسطينيين المشردين في العالم، وعرض لهم جميعا، ومكّن كثيرين منهم من اللقاء بأهلهم، وعرض أعمالهم لجمهورهم.

إسماعيل شمّوط المبدع الكبير عرف أهميّة العمل الجماعي، وحشد الطاقات، ولملمة أجزاء الفلسطيني المبعثرة لتنهض بكامل ملامحها، وروحها، وعطائها...

اختير إسماعيل شموط ليكون أول أمين عام لاتحاد التشكيليين العرب، تقديراً لفنّه، وحيوية دوره، وإسماعيل (العربي الفلسطيني)، أراد لفلسطين أن تكون حاضرةً في قلب أمّتها قضيةً وفنّاً، وقد كان له الدور الأبرز في تحقيق هذا الهدف العزيز، بجهوده الخارقة...

أوجعنا أننا دفناك هناك في الصحراء، جنوباً، بدلاً من أن نمضي بك (غرباً) باتجاه القدس، ولا عجب أيها الكبير، فنحن في زمن غابت عنه نداءات تحرير فلسطين، وحلّت بدلاً منها نداءات الحكّام العرب بتحرير الجندي الإسرائيلي..

ترى: كيف يمكن رسم هذا الانحطاط يا إسماعيل شمّوط؟!
لقد كسرت (الخيانة) قلبك..وهاهي تكسر قلب أمّة...

التعليقات