في نقد النوسطالجيا: الخطاب../ د.عبد الله البياري*

-

في نقد النوسطالجيا: الخطاب../ د.عبد الله البياري*
لسنا أفضل من رسولنا الكريم الذي حاصره الكفار لثلاثة سنوات، ليحاصروننا عشر سنوات "
"لسنا عبده أصنام، فالحجر لدينا لا قيمة له، وكما احترق منبر صلاح الدين واستبدلناه، فإذا سقط الأقصى فنحن قادرون على بناء غيره"..

كانت تلك العبارات الصادرة عن أحد أهم رموز الإسلام السياسي المعاصر، والذين يتصفون –كما يقال- بالاعتدال أو الوسطية، الأمين العام للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الدكتور محمد سليم العوا.

وجب علي قبل البدء في مقالي ههنا والذي سيتناول مظاهر النوسطالجيا في الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر، أن أنوه القارئ قبل أن تأخذه حمية الدفاع عن السيد العوا وما يمثله، أنني في هذا المقال وبالرغم من كمية الثقوب التي قدمها السيد العوا في كتبه وبالذات كتابه: في النظام السياسي للدولة الإسلامية و الذي تناول إجابة مقننة لـ(كيف؟؟) وليس إجابة حضارية لـ(لماذا؟؟)، إلا أنني لا ولن أتحرك في إطار ذلك المنتج المخدر إنما نقاشي هو عن مظاهر الخطاب، بما يمثله ذلك الخطاب من أداة تشكيل معرفة و من ثم سيطرة.

مقالي ههنا يتناول تعاقبيا وباختصار مظاهر النوسطالجيا والخدر في الخطاب، بعد تفكيكه وتحليله، واستعراض المنهج الاستقرائي التاريخي الذي يعبر عنه ويخدمه ذاك الخطاب، وأثره بالتراكم على الخريطة الإدراكية الجمعية للشعوب العربية من ناحية وتلك لـ(الآخر) أيا كان، وتأثير ذلك لدى أي تفاعل حضاري، وسياسي وتاريخي وحتى اجتماعي.

إن أول ما يمكن للمراقب للساحة السياسية والاجتماعية في بلادنا لدى تحليل الخطاب السياسي، ولا أستثني من ذلك الخطاب العبارتين السابقتين، غياب العامل الزمني، بغض النظر عن مضمون الفكرة المنقولة من خلال ذلك الخطاب.

فمثلا عبارة كتلك الأولى من العبارات المشار إليها أعلاه تقارب ما بين وضعين مقاربة أقل ما يمكن وصفها مقاربة جوفاء، توظف خطابا عاطفيا يزيد الخدر العام، ويجعله من فعل لطبع، بحسب قاعدة بالدوين في الطبيعة، وذلك باستخدام العاطفة الأكثر حساسية على مدى التاريخ و الحضارة الإنسانية وهي الدين. فالزمن لدى الحالتين المعبر عنهما في العبارة الأولى معطل ومهمش بالدرجة التي تسلب تلك المقاربة كل أساسيات الصحة و القوامة و المنطق.
فعهد الرسول الكريم قد ولى و انتهى، وكذلك عصر المعجزات، وليس منا مبشرون بالجنة، وليس كل ضحايا الحصار هم من المهاجرين أو الأنصار أو غيرهم ممن آمن مع الرسول الكريم، كما أن الجيش الإسرائيلي ليس بكفار قريش، على الأقل بمنطق علاقته مع الإمبريالية الأمريكية.

إن تلك المقاربة، وعلاقتها المعطلة مع العامل الزمني، هي مقياس للكثير من الظواهر الخطابية، والتي وإن كانت صوتية، إلا أن لها تأثيرا لا يمكن تجاهله تراكميا، وذلك بزيادة حس التباكي على الماضي، وتعميق الحس الكاذب بالبراءة والشهادة والحق المطلق من السماء.
ولتحليل الصور الواردة في مقاربات مثل المقاربات السابقة، وجب علي الانطلاق لذلك من نقطتين أو محورين:

المحور الأول: الأنا و الذات:

إن اختصار قضية الصراع –وغيرها- أو الحصار في عنصر قيمي متضاد من خير و شر، إيمان وكفر، وما يستتبع ذلك من قيم مطلقة، تمليها تصاوير -إن جاز التعبير- تنال من شخص رسولنا الكريم، يجعل الاعتراف بالـ(ذات) أمام الـ(أنا) في هذا الحدث السياسي أو غيره هو اعتراف بالخيرية و الصلاح المطلقين، وما يستلزم ذلك تعطيل العقل النقدي وتحديد الخطأ أو/و المخطئ. إن ذلك الاختصار إنما يعمل على تغييب العقل البراغماتي الذي يحدد المسؤوليات والواجبات تجاه الصراع، وأثر ذلك في غياب النقد الذاتي، من ذلك مثلا النفي عن حركة حماس خطأ الدخول للمعترك السياسي على رأس ظاهرة ديمقراطية نادرة الحدوث في المنطقة، اعترافا من الحركة بأبجديات اللعبة السياسية التي بنيت أولا وأخيرا على بنود اتفاقية أوسلو والتي رفضتها الحركة مسبقا، وكذا رفضها الكثير من عقلاء وأمناء القضية لما كانت تمثله من سقطة. ومن ذلك أيضا ما تمثله تلك المقاربة من الدعوة للاستكانة و السلبية والتصابر –إن صح القول- حتى بعد افتراض وجود القدرة على الاعتراف بالخطأ، كل ذلك في انتظار الأمر الإلهي بالهجرة للحبشة أو غيرها.

إن حالة النوسطالجيا المخدرة التي يعمقها ذلك الخطاب المغلف بالعاطفة، في ظل تدني مستوى الثقافة والوعي والمعرفة بالعموم والمتنامية في الوطن العربي، ساهمت بشكل كبير في تعطيل الفكر السياسي الإسلامي ومواكبته للعصر وديناميكيته، كمحتوى تراكمي، وأداة تحليلية، لما في ذلك لعزل لمبدأ الخطأ لزاما منطقيا لقاعدة الحق الإلهي المطلق، فالفكر حينها كأداة لا يخطئ، وبالتالي فالفكر كمحتوى ثابت ثبوت الجماد على الصحة، ويمكن رؤية ذلك على الكثير من مظاهر الفكر السياسي الإسلامي والتي توقف الخطاب لدى توصيفها بقدسية الزمن القديم كوثيقة المدينة المنورة ومبدأ الشورى، وكلاهما إعجاز لا يتعدى ظروف الزمان و المكان الخاص بهما.

إن عقلية "القص و اللصق" الخطابية لنموذج السلف، تتحمل نصيب الأسد من حالة النوسطالجيا التي يعاني منها الفكر الإسلامي في وقتنا المعاصر على الصعيد السياسي و الحضاري وحتى المعرفي كما سيأتي تباعا، كما أنها تفسر تضييق مساحة الحكم الأخلاقي والمنطقي وكذلك المعرفي على الأمور بحكم تقسيم العقول بمنحى رأسي، في استغلال أيديولوجي سلطوي لقاعدة: اسألوا أهل العلم، والتي سرعان ما حولت المعرفة و العلم استحواذا رأسيا-هرميا، مصدرا للكثير من ديباجات الرقابة والسطوة التي تطورت لسرطانات التكفير تحت مسمى الدين وحمايته، جاعلا من العلم والفكر والثقافة حقلا رأسيا يتقاسمه السادة و العبيد.

المحور الثاني: الأنا و الآخر:

ولأن السياسة – وإن كانت على عكس أماني البعض الأيديولوجية – لا تدور في فلك الـ(أنا) فقط، كان هناك الآخر أيا كان، أقلية في وطن أو مدافع عن نفس الوطن أو حتى من سكان هذا التجمع الإنساني. ولأن السياسة تشمل من ضمن ما تشمل بناء صورة للـ(آخر) ولعلاقة الـ(أنا) به، كان وضع صورة له على أدق ما يمكن وبتثبيت الزمان والمكان والعلاقة الرباعية الأطراف: (الأنا- الآخر- الزمان- المكان) هو سر للعملية السياسية الناجحة، بعيدا عن أطر العاطفة المجندة.

لذا كان استخدام ثنائيات مثل: (الخير - الشر:و(إما - أو (في الخطاب، يؤدي لإنتاج صورة ليست واضحة المعالم، لما تعتمده من الإطلاق عنصرا بنائيا في الحكم، مما نشهده من صعوبة تقبل ذلك الآخر صاحب الموقف المحبذ سياسيا، متى كان خارجا من ذلك الشر المطلق أو المادية المطلقة (مثال ذلك التعامل مع كتاب ومفكرين يهود مثل نورمن فنكلستين أو نعوم تشومسكي وغيرهم)، كما كان هو نفس السبب الذي يجعل الحكم الموضوعي والأخلاقي على أفعال أي آخر محبذ أيديولوجيا موضع شك ومزايدة وبحث عن مبررات، كما هي علاقة الكثيرين منهم مع الإرث الجرائمي الهتلري النازي، وهو ما يفسر حالة الترادف الخطابي بين لفظ مثل: عنترية و هتلرية، وأخيرا وليس آخرا المحاولة الدائمة لاختصار الفكر السياسي الليبرالي المعاصر في رمزين اثنين لا ثالث لهما هما الأفغاني و محمد عبده في حين أن الاثنين عملا على إخضاع الإصلاح الديني للظرفية السياسية أو العكس من إخضاع السياسة للظرفية الدينية مما أفقد الدين محتواه الروحاني وتحول لتجربة سلطوية.

من المحورين الأول و الثاني نرى أن حالة الإطلاق والاستحواذ والثبات، المغلفة بالعاطفة الدينية المتوقفة الزمن، إنما هي عامل معطل للمعيارية في الحكم، تلك المعيارية الضرورية لقيام العقل البراغماتي الضروري واللازم لدى التعاطي مع معطيات السياسة والمجتمع بالنقد والتساؤل ضمن تفاصيلها الآنية والمكانية.

إن القطع بثبوت الخير و الشر بالتوازي مع الـ(نحن) والـ(هم)، ومع تخطي تلك الثبوتية حدود الوطن والقطر والقومية، يجعل حرية التعبير وهي القضية الديموقراطية الأم، والتي تتأتى شرطا أساسيا وأوليا وسابقا للنهضة، محصورة في إسقاطها للـ(أنا) والـ(آخر)، وبالتوازي مع: (كلمة حق) يواجهها (إفساد في الأرض)، لتصبح حينها حرية التعبير هي مظهر استحواذي يبرر نظم الرقابة باسم السماء، وما تمتلئ به هكذا بروتوكولات من صور للعنف ليس التكفير فيها سوى وسيلة من الوسائل لضمان السيطرة بالخطاب العاطفي الأيديولوجي، وكذلك الصمت أمام مظاهر العنف. وهنا أتذكر الخطاب الخجول الذي قدمه الأمين العام للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين والذي تناول رواية نجيب محفوظ (أولاد حارتنا) ذلك الخطاب الذي كان الأجدر بالأمين أن يحفظ ماء الوجه عن أن يدعي موضوعية وحيادية لا يملكها من يصدر ديباجات الحق السمائي المطلق وصادرات خيال السلطة.
إن تاريخنا الاجتماعي و السياسي كحضارة إسلامية يتميز بتداخل الظرفية الزمانية والمكانية وتفاعلهما بشكل مميز، إلا أن عملية عزل الزمان في الخطاب السياسي لدى استقراء التاريخ السياسي، جعل الارتباط بين الخطاب والمكان أكبر بكثير من ذلك مع الاثنين معا: الزمان و المكان.

جعل ذلك الاستقراء التاريخي –باعتبار أهمية الخطاب وحيويته كوسيلة سلطة ومعرفة مؤثرة سياسيا - جمعيا وليس خطابا مجردا- هو استقراء للمكان، فأصبح التاريخ هو تاريخ الكوفة والبصرة والقاهرة والقيروان ودمشق وبغداد والأندلس في رمزية للدول الإسلامية، مما حول التاريخ الإسلامي حضاريا إلى أرخبيل سلطوي، أي إلى تاريخ مجموعة من الجزر المنفصل زمانيا كانفصالها مكانيا، أي أن منتج استقراء هذا التاريخ السياسي بخطاب عاطفي يرتبط بالمكان، جعل الوعي التاريخي السياسي وعيا ( تراكميا) وليس وعيا (تعاقبيا)، بما يستلزمه الأخير من الاعتراف بحضور الآخر وتأثيره في الزمان و المكان.

إن هذا النوع من الخطاب ألغى الترابط المنطقي والتراتبي بين كل جزيرة وجزيرة في التاريخ السياسي معتمدا على عاطفية نوسطالجية تقيس الحضارة بامتدادها السلطوي، لذا نجد دوما عبارة: (لقد وصلنا للأندلس)، مغفلين كيف وصلنا للأندلس. والأدهى والأكثر دعرا كيف خرجنا من الأندلس.

في حين أن الدورة التعاقبية لأي حضارة هي انعكاس للرابط بين الزمان و المكان بما يحمله ذلك من تفاعلات اجتماعية و سياسية واقتصادية وحضارية، بما ضمن للدين الإسلامي كعقلية حضارية وليست سلطوية حضورها الذي شهده التاريخ، ويتجنى عليه البعض بصادرات النوسطالجيا والمزايدات على العنصر الحضاري واختصاره في العنصر السلطوي متغنين بمظاهر السلطة المتجبرة من مركزية وحكم الفرد الواحد وتصنيف للولاية بحسب الجنس أو طريقة العبادة، متجاهلين عناصر الزمان و المكان، ولا أستثني من ذلك الأندلس كمشهد غنائي للسلطة وليس للحضارة مسقطين الكثير من أساسيات المعرفة والتاريخ بدفن الرأس.

التعليقات