قضايا لغويّة (4)/ د.إلياس عطا الله

-

قضايا لغويّة (4)/ د.إلياس عطا الله

تَخْنِيثُ اللّغة، بين التّذكير والتّأنيث -4-


 


- ز -


لعلّه من المجدي أن نشير إلى أنّ قضيّة الجندر في اللّغة، من حيث التّأنيث والتّذكير، وما جُنسِنَ من الأسماء في منأى عنهما- وفقا للّغات المختلفة-، قضيّة موجودة في أصل الوضع لهذه اللّغات، وليس لها مهامّ مجتمعيّة نظاميّة، استعلائيّة أو دونيّة وضعت خصّيصا لخدمة البنى الاجتماعيّة الباترياركيّة والسّياديّة، وما ترتّب عنها من واقع، أو ممارسات، أو تشريعات أسّست لتفضيل جنس، أو هيمنته، وعليه، فإنّ إقحام اللّغات في هذا المجال، وكأنّها أداة وُلِدتْ مع سبق الإصرار لتكريس واقع الحال في المجتمعات الذكوريّة، كلّه تعسّف وقلبٌ لحقائق الأمور، فاللّغة لم تُسقِط على الواقع شيئا في هذا الوضع، بل إنّ انعدام المساواة هو الذي أسقط على اللّغة تبعاتِهِ، ووضعها في قفص الاتّهام، وقد أكون متجنّيا بعض الشّيء إن قلت إنّ الدّعوات التّغييريّة المفضية إلى اللاجندرة أو نزع الجنسنة، ستكون نوعا من العبث، حتى لو أفلحتْ جزئيّا في تغيير بعض المفردات، وفي إسقاط بعض الأسلوبيّات، لأنّ حقيقة الجنسنة التي يجب أن تعالج، هي ما يُعاش خارج إطار اللّغة، في شتّى أصعدة الحياة، وما التّركيز على اللّغات، إلا نوع من اللّعب في حافّة الطّريق، أو في هامش الأشياء، لا في الجوهر.


ولعلّه من المجدي أن أؤكّد على أنّ الجندرة في اللّغات، جاءت لبيان تركيبة هذه اللّغات، ثمّ قُعِّدتْ، لضمانة السّلامة القواعديّة، والسّلاسة الأسلوبيّة، ولم تكن يوما موظّفة عند السّلاطين والذّكوريّين والقامعين المستعلين أيّا كانت جنسيّتهم أو لغتهم، وأمامنا جملة لا حصر لها من الأسلوبيّات والنّصوص والمقولات، الموجّهة إلى الخليقة العاقلة جميعها وإن كُتِبت بأسلوب قواعديّ واحد يحمل ألفاظا مذكّرة لغويّا، فالتّذكير في اللّغة غير التّذكير في المجتمعات والعلائق التي تتّسم بها.


منذ النّصوص الدّينيّة الأولى التي بين أيدينا، والنّصوص الفلسفيّة الأولى التي نعرفها، بل منذ النّصوص الأولى المخطوطة التي وقفنا عليها في هذه اللّغة أو تلك، وجدنا اللّغات، أو غالبيّتها، تميّز لغويّا بين المذكّر والمؤنّث، وعاشت اللّغات على هذا وترسّخت في عقول أهلها وألسنتهم، ويكفي أن أعطي النّماذج التّالية، لشهرتها، للتّأكيد على الشّموليّة الجنسيّة للمفردات الذّكوريّة لغةً:


1-                     


نقرأ في العهد القديم، الوصايا العشر، التي نزلت لتكون أساسا من سلوكيّات أتباع اليهوديّة، والدّيانات الموحّدة بعدها، وكلّها، في النّصّ العبريّ، وفي النّصّ المترجم إلى العربيّة، مكتوبة بسمات هاتين اللّغتين، وكلّ النّهي والأمر اللّذين تبدأ بهما الوصايا خطابٌ بالمذكّر اللّغويّ، لا يقصد المذكّر الجندريّ البيولوجيّ العضويّ، بل إنّه من الخطل أن يكون ورود صيغ ذكوريّة محمولا على مخاطَبٍ رجلٍ أو ذكَرٍ؛ فلا تزنِ، ولا تقتلْ، ولا تسرقْ، ولا تحلفْ باسم الله بالباطل، وبقيّة اللاءات، وأكرمْ، وقدّسْ... هي نهيٌ وأمرٌ للبشريّة أو للجماعة المؤمنة، ولا نجرؤ على أن نتخيّل أنّ المذكّر اللّغويّ هو الذّكر فحسب، لأنّ النّصّ يعتمد على التّغليب المعمول به في العربيّة مثلا، ولا يعني أنّ الإناث في حِلٍّ من قضيّتَي النّهي والأمر، وليس من الأسلوبيّة ولا الجماليّة في شيء أن أقرأ الوصايا بالطّريقة المخترعة: لا تقتل/ي، لا تزن/ي، لا تسرق/ي، أكرم/ي أباكَِ وأمّكَِ... فلا علامة التّأنيث، ولا حركة التّأنيث ستجترحان معجزةَ المساواة ورفع الغبن الممارس، ولا إخال، بدونهما، أنّ أنثى ما، نظرت في الأمر وكأنّه خطاب ذكوريّ.


 


2-                     


في الموعظة الجبليّة للمسيح عليه الصّلاة والسّلام، والبادئة بـ" طوبى"، ما كانت الموعظة موجّهة إلى الرّجال دون النّساء، بل إلى الجماعة المؤمنة محبّة السّلام والإنصاف، المتّسمة بالمسكنة ونقاء القلب، المتعرّضة للإهانة والانتقاص، الحزينة... حتى لو وردت بنصّها الآراميّ أو اليونانيّ أو العربيّ بخطاب المذكّر، وحتى لو وُصِفَتْ هذه الجماعة المسالمة المؤمنة المضطهدة بـ " أبناء الله"، إذ لا يُعقل أنّ ابن مريم العذراء- الذي صعَقَ المجتمعَ الذّكوريّ " المنزّه عن الخطيئة" في عصره، وما زال يصعقهم حتّى اليوم، بمقولته التي اختزلت الغبن البشريّ، وساطَتْ ظهورَ" أنقياء" المجتمعات الذكوريّة: " من كان منكم بلا خطيئة فليرمِها بحجر"- وجّه صرخته إلى الرّجال حصريّا، وحسنا جاء الخطاب الذّكوريّ بـ        " منكم" و " يرمِها"، حتى لو كانت الإناث مشاركات خضوعا وتبعيّة أو قناعة في عمليّة الرّجم... هذا ضرب من التّذكير لن تطالب أيّ حركة نسويّة بتغيير شيء منه، وخاصّة خطابه الذّكوريّ، فهو سابق لهذه الحركات، صارخ في وجه الحربائيّة والهيمنة بما يؤسّس للمساواة بين البشر جميعا.


3-                     


 لم يُنزّل الله الوحيَ على نبيّه المصطفى عليه الصّلاة السّلام ليكون الإسلام دينا ذكوريّا مانعا الإناثَ من اعتناقه، رغم اعتماده الذّكورةَ خطابا، في نحو " يا أيّها الذين آمنوا"، منضافًا إليها كلّ ما جاء بصيغة المذكّر، إنّها اللّغة وسماتها، المنزّهة عن الجندرة الملتفَت إليها حديثا.


4-                     


ثمّة مقولات شهيرة، كتلك التي تتّكئ على فكر أرسطو، ومن جاء بعده من الفلاسفة العرب، حتى ابن خلدون في فكره المجتمعيّ: " الإنسان حيوان عاقل"، " الإنسان حيوان ناطق"، " الإنسان حيوان مدنيّ بالطّبع"، مقولات كهذه،  وردت بلغاتها الأصليّة بمفردات محايدة، فالنّصّ العربيّ حياديّ؛ لأنّ " الإنسان" يشمل المؤنّث والمذكّر، وكذا " الحيوان"، أمّا النّاطق/ العاقل/ مدنيّ بالطّبع،   فهي صفاتٌ/ نعوتٌ مذكّرةٌ صيغةً من باب التّطابق مع " الحيوان" المذكّرة  بالصّيغة لا بالدّلالة، و"الإنسانة"، و"الحيوانة" بعلامة التّأنيث، لا تعرفهما الفصاحة العربيّة، إذ لا حاجة لتأنيث ما هو جامع للجنسين. لم يكن في بال أرسطو ولا غيره حين وُضِعَت هذه الحدود إلا قضيّة تمييز الإنسان عن بقيّة المخلوقات والأشياء، ولم تشغل أرسطو وهو يستعمل الكلمة اليونانيّة الشّاملةánthrôpos" " ( άνθρωπος) والتي تعني: رجل/ امرأة، شخص، فرد، مخلوق، ذات، نفس من الخليقة البشريّة، بشر... غير هذه الحقيقة، لا كيف ستترجم إلى الإنجليزيّة:


"Man is a rational animal" أو


"human being/ person is a rational animal"


ولا كيف سيعبّر العرب عن هذه الفكرة؛ أسيقولون" الإنسان حيوان عاقل"، أم    " الشّخص حيوان عاقل"، ولم تشغله، ولم تشغل الفارابي وابن رشد وابن خلدون وأمثالهم قضيّة الجندر اللّغويّ، أو قضيّة الحركات النّسويّة، فالفكرة  في مثل هذه الحالة هي المبتدأ وهي المنتهى.


 


- ح –


أقحِمَتْ كلمة man في جملة المفردات المنغِّصة، وهي بريئة أصلا من الجَنْسَنَة، فالكلمة، منذ أصولها الهندوأوروبيّة عَنَتِ الإنسانَ أو الشّخصَ، ولم تحمل الدّلالة الحصريّة لـ " رجل"، وما زالت الألمانيّة تحافظ عليها بالميم الصّغيرة لتعني الدّلالة الحياديّة المذكورة، ولتصنّفها في جملة الكنايات الذّاتيّة، في الوقت الذي عبّرت فيه عن الرّجُل بكلمة Mann بالميم الكبيرة وبنونين، وكان الأمر كذلك في الإنجليزيّة، وما زالت المعجمات الإنجليزيّة تذكر هذا المعنى الحياديّ. تعرّضت الكلمة للتّضييق الدّلاليّ لتعني "رجل" تتبعها دلالاتها العتيقة، ولعلّ المركّبات الّتي أقحِمَت فيها، ألبَسَتْها ثوب الذّكورة، أو أسيء فهمها فأُلْبسَت ثوبَ الذّكورة، ومن هذه التّركيبات:


Mankind, manpower, man made, chairman, fireman, policeman, foreman, mailman, congressman، وما إليها من مفردات رأت فيها الحركات النّسويّة أداة للهيمنة الجنسانيّة الذّكوريّة، ولم تلتفت هذه الحركات - وبحقّ- إلى علم التّأثيل/ علم أصول الكلمات، لأن ذكوريّة الأنظمة السّياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، كانت وراء هذا التّضييق الدّلاليّ المصوِّر للواقع الوظيفيّ الذي فصَّلَ أدوارَ لعبة الحياة والإنتاج بين الرّجل والمرأة، وجعل لكلٍّ اختصاصاتِه ومملكتَه ووظيفته- وهذا ما قامت الحركات النّسويّة ضدّه أصلا-، ولمّا تغيّرت المعطيات، وتداخلت القوى المُنتِجة، وما عاد هناك مكانٌ لتفصيل أو فصل أدوار الحياة- عدا الحَمْل، على ما أعلم، والله أعلم-، رأت هذه الحركات إزاحة كلمة man المُساء استعمالها وفهمها، وإحلال مفردات محايدة بدلا منها، فصارت التّراكيب المذكورة كالتّالي:


Humankind/ … race/ humanity, labor power, hand made/ manufactured, chair/ chair person, fire fighter, police officer, supervisor, mail carrier, member of congress.


وانضمّت إلى قائمة المغضوب عليهنّ من المفردات والتّراكيب، كلمة master ومركّباتها، لأنّها تؤسّس للذّكورة وتتغنّى بها في نحو:


master full, master copy, masterpiece, master key، ففيها جميعا استعلاء واكتمال واقتدار وأصالة، مستمَدّة من ذكوريّة الكلمة الأولى؛ فالتّركيب الأوّل يعني: الشّيء أو الإنسان المحكَم، أو الإنسان المتّسم بالمهارة، والثّاني: النّسخة الأصليّة، والثّالث: المنتَج الأحسن والأبدع، والرّابع: مفتاح كلّ الأقفال والأبواب.


ولم يكن بالعسير على المختصّين بالإنجليزيّة إيجاد البدائل لهذه التّراكيب، ولم تبق من المنغّصات أمام الحركة النّسويّة إلا ضمائر الغيبة في حالة إفرادها وفي كلّ استعمالاتها، وأبدع المختصّون والمختصّات أكثر من أسلوب يضمن الحياديّة، منها:


- اللّجوء إلى الصِّيَغ الجمعيّة، فضمائر الجمع غير مُجَنْسِنَة.


- اللّجوء إلى مفردات حياديّة نحو:one, someone, anyone, everyone, person, anybody... وما إليها.


- ضمّ he و she في s/he.


- حذف هذين الضّميرين وملحقاتهما مطلقا.


- اللّجوء إلى المفردات المتوازية، فحيث يُذكر المذكّر يُذكر المؤنّث.


هذا ما كان من شأن الإنجليزيّة... فهل تستقيم هذه الحلول في العربيّة؟


وهل اللّغة أصلا هي ميدان المطلب النّسويّ لإزالة الغبن اللاحق بالأنثى؟


 


- يتبع في الحلقة الخامسة الأخيرة- 

التعليقات