ماذا يستعير الروائي من حياته لأدبه،الأمكنة والأهل أولاً والباقي للكتاب..

ماذا يستعير الروائي من حياته لأدبه،الأمكنة والأهل أولاً والباقي للكتاب..
كيف يحضر الروائي وأهله وأمكنته في رواياته؟ كان هذا هو السؤال الذي طُرح في هذا التحقيق، ولكنه طُرح كمفتاح للحديث أكثر من كونه سؤالا قد يرد في مقابلات منفردة مع كل روائي وروائية على حدة.

كان في نيتي، بعد أن انتهيت من اللقاءات، أن أحرر المادة التي تجمعت لديّ، وأن أخضعها للتقطيع والمونتاج، بحيث أجعل القارئ يجول بين الإجابات والآراء والاعترافات التي قدمها كل واحد ممن شاركوا في الاستجابة لفكرة التحقيق. أي أن أقرب بين الهواجس المتشابهة والمتجاورة أصلاً، وأن أقدم بعضها وأؤخر بعضها، وأن أخلط بينها، متدخلا هنا وهناك، كما هو الحال في هذا النوع من التحقيقات الصحفية. ولكني تجاهلت نيتي واستعدادي لفعل ذلك حين عرفت أن المادة التي بين يدي تعادل فكرة الشهادة الشخصية. الى درجة أن حسن داوود، على سبيل المثال، كان يملي عليّ ما يقوله محدداً لي مكان كل فاصلة ونقطة ومتى أبدأ بسطر جديد!
ولذلك خطر لي أن من الأفضل ترك شهادات: حسن داوود وهدى بركات وجبور الدويهي وعلوية صبح ومحمد أبي سمرا وإيمان حميدان يونس، كما هي. فهي، في النهاية، تقدم صورة أو جانبا من المشغل الروائي الخاص بكل واحد منهم:

حسن داوود:

بشر أعرفهم في أمكنة لم يعيشوا فيها
أظنني اهتديت مؤخرا الى المجال الذي تجنح إليه ذاكرتي حين تعمل. خفت من ذلك إذ اعتقدت أن هذه المعرفة بعمل التذكر، أو بآليته، قد تشوش تعلقي به، هذا الذي وصفته يوما لصديق بقولي: إنني أعيش في الماضي بين أربع ساعات وست ساعات كل يوم، بل انني أجد أن الماضي هذا هو ثقبي أو نافذتي الذي أظل في حالة كامدة مقفلة حتى تتراءى صورة منه مثل ريح خفيفة عابرة، فأنفرج.

اهتديت الى أن ما أتذكره هو الأمكنة. احتاج الأمر، الى أن أحصّل هذه المعرفة، الى التفكير فيما يأتي من تلقائه الى الذاكرة. ليس ذلك وجوها لأشخاص ولا كلاما لهم، فمثلا حين رحت ألهو بلعبة العصا والعصفور في ضيعتنا مع رفيق لي رحت أتذكر المكان الذي كنا فيه بتفاصيله ربما، حيث كانت تطير بين أنحائه الخشبة الصغيرة التي نسميها عصفورا، فيما وجه سمير رفيقي يبدو كأنه غائب في المكان.
لا يخفى، منذ كتابي الأول <<بناية ماتيلد>> أنني استعدت في ذاكرتي البناية أولا ثم كان عليّ أن أعيد تمثيل حياة الأشخاص الذين عشت بينهم وبعضهم من أهلي. دائما أجدني أقف على مشهد ساكن غالبا، ولهذا تراني في كتابتي لا أستطيع إلا الامتثال لذلك فيبدو نصي واصفا راسما بسبب من الحركة الصامتة أو الغائبة للأمكنة، البشر حين يكونون هم موضوع التذكر يصنعون حركة ويقولون كلاما ويواجه بعضهم بعضا، أما الأمكنة فلا يزاحمها على سكينتها شيء أو أحد.
أهلي هم كائنات هذه الأمكنة، في رواية <<روض الحياة المحزون>> مثلا جعلت <<يعقوب>>، وهو لا بد من أقاربي، ممسكا بأحجار الرّبعة فيما هو يتسلقها. أنا، فيما تخيلته، أجد الربعة وحجارتها واضحة شديدة الوضوح فيما وجه يعقوب ويداه غائمتان كأنهما تظهران في عدسة مغبشة.

أذكر أن أحد الروائيين البريطانيين، وهو وليم بويد، كان يصنف الروائيين بين قسم يتذكر وقسم يؤلف. أجدني من المتذكرين على الرغم من إدراكي بأن صفحة التذكر عليها أن تتحرك ليحصل ما أسماه الصديق عباس بيضون مرة، في كلامه على رواية <<بناية ماتيلد>>، <<تخييل الذاكرة>>.
القلم يصير حبره سائلا سلسا حين أصل في الكتابة الى تدوين ما أتذكره كأنني لم أمرّن عقلي كفاية ليؤلف أو ليصنع فكرة، أو كأنني أشعر بسعادة التذكر وأحب أن أنقله الى سواي.
الكثيرون من أهلي وممن عاشوا بينهم موجودون فيما كتبت. في مرات أفكر أنني بالغت بالاستغراق فيهم، لكن أعود فأفكر أن الذهاب في الحياة بتفاصيلها شيء يستحق أن يكتب، أضف الى ذلك أنني فيما كنت أستعيدهم في الكتابة كنت أكتب عن قرى ومدن وعوالم كاملة يتنقلون بينها. ثم انني، وذلك لا يخفى عليك، أبدو كما لو أنني صنعت ماضيّ، بالكتابة، كما أحب. ربما لم يبد أنني كنت أمينا الى الأشخاص ولا بمشاعري حيالهم فها هو أحد أعمامي الذي لم أتعلق بمودته يوما، أجدني وقد جعلته شخصية محبوبة من القراء. كما أنني، فيما يتعلق بأشخاص آخرين، أخذتهم في رحلات الى أمكنة لم يذهبوا إليها أصلا ولم يعرفوها فبدوا سعداء هناك، وبدوا غريبين في ذلك الزواج المفاجئ الذي مزجت فيه بين الأمكنة وبشر يصعب تخيلهم مقيمين أو نازلين فيها.
الآن فرغت من كتابة رواية عن أمي وأهلها وحيّها، طبعا في مدينتها الصغيرة. ليست هي أمي التي عرفتها دائمة خصوصا أنني كتبت صفحات طويلة عن طفولتها معتمدا على حادثتين قصيرتين حدثتا لها قبل أن تتزوج أبي.

هدى بركات:
أشخاص لم أعرفهم لكنهم يشبهونني
الكتابة عملية غير متعمدة. هناك كمية من الارتجاج والغبش بين ما تقتطعه من الواقع وما تؤلفه. ليست هناك حدود واضحة، على سبيل المثال، بين المكان الواقعي ومكان الكتابة، ولكن هناك أمكنة تحضر كما هي في الرواية.
عندما أعود الى رواياتي أستنتج أن هناك أمكنة تشبه المحطات التي يتكرر رجوعها الى الكتابة من دون أن تكون مدخلا للتذكر، في الحقيقة تكرار حضور هذه الأمكنة، التي هي ليست أمكنة كاملة بل أجزاء من أمكنة، لا أعرف بالضبط ما هي وظيفته داخل تركيبة السرد، إذا أردنا أن نميز بين أسلوبين روائيين مختلفين الأول يعتمد على الذاكرة لإعادة تأليفها والثاني يؤلف من ذاكرة عمياء، سنقع على أسلوبين لوظيفة المكان أو العامل الشخصي. لو أخذت مثلا كتابة ككتابة حسن داوود وكتابتي أنا سنجد طبيعتين مختلفتين لعمل الذاكرة، وحتى ان الروائي نفسه يمكن أن يتفاجأ عندما يطرأ عليه مكان ما ويتخذ موقعا له في السرد لأنه لا يكون قد افترض لهذا المكان أية أهمية في حياته. في رواية <<حارث المياه>> عادت إليّ شقة صغيرة في بناية كانت تسكن فيها عمتي، لم تكن أبدا على بالي ولم أكن أتوقع أن أتذكرها، ولكنها دخلت الرواية بكل تفاصيلها، حتى بألوان البلاط في أرضيتها ولكن حتى الآن لا أعرف لماذا تذكرتها.
رواية التأليف تدعي دائما أنها لا تتكئ على الذاكرة لكنها في النهاية موزاييك من العناصر الصغيرة التي تطرأ على الكتابة اعتباطيا وبدون برمجة لتشكل أقساما أو أجزاءً ل<<البازل>>. الإبداع في النهاية لا يتحمل التحليل النفسي الذي قد يدرس أسباب احتلال هذه الجزئيات لمواقعها في المشهد العام، أو لماذا هي تتكرر.

مثلما تكلمت عن الأمكنة أستطيع أن أتكلم عن موقع الأشخاص في الرواية. الجزء الأكبر من تركيب الشخصية الروائية، مهما ابتعدت ظاهريا عن الذات، فإنها نابعة من الداخل. من الهواجس، من التصورات والاستيهامات، من قلق ما أو من ذكريات غير واضحة تعود الى الروائي. أنا شخصيا لا أشغل بالي في البحث عن أصولها الواقعية. الشخصيات التي لها مرجع واقعي في رواياتي هم غالبا أشخاص ليست لهم أي أهمية روائية. أغلب شخصياتي مركبة. شخصية <<حنون>> في <<حارث المياه>> شخص حقيقي وكان صديقا لعماتي وهو يحضر في الرواية بحجمه في الواقع. ولكني غيّرت حقيقته الواقعية. بعكس الشخصيات الرئيسية التي تمثل أشخاصا لم أعرفهم أبدا. ولكنهم في الوقت نفسه يشبهونني، رغم أنهم قد يكونون رجالا ومن طوائف وشرائح اجتماعية مختلفة. لقد حزنت كثيرا بعد فترة من انتهائي من رواية <<أهل الهوى>>، حزنت على حالي كيف خرجت من أحشائي شخصية حزينة وسوداء وعنيفة مثل بطلها.

في <<حارث المياه>> كان لديّ إحساس أن وسط البلد، الذي لم أعشه، لا أستطيع كتابته بشكل نوستالجي أو حنيني، ولكن الفراغ الذي انخلق في الحرب الأهلية كان يشكل لي قلقا وسؤالا مستمرا: ماذا يحدث هناك؟ كنت أشعر بأن وسط بيروت كالجلطة في جسد ما، ان الدم متخثر هناك بحيث يمنع على الأقل المرور من بيتي الى بيت أهلي. كان الفراغ يستدعيني للتفكير كما أن الفراغ نفسه لا تقبله الطبيعة عادة، ربما إقامتي في باريس حرضتني لتوديع هذا المكان، لأنني بكل الاحتمالات المقبلة كنت أعرف أن بيروت لن تعود بيروت، لا تلك التي عرفتها ولا تلك التي لم يتح لي التعرف إليها. عندما كتبت عن وسط بيروت كان ذلك ذريعة لأقول إن هذا المكان ليس موجودا ولن يوجد ذات يوم.

جبور الدويهي:
أنا الأقل حضوراً في رواياتي
حضور الامكنة والشخصيات ليس اختياريا او اراديا بل هو موجود في اساس المجيء الى الكتابة. لم تكن لديّ، في الاساس، رغبة في ان اكتب بشكل مستقل عن هذا، أنا استغرب ان يكون الروائي قادرا على الكتابة بعيداً عن اهله وأمكنته وحياته. أنا احسد من يستطيع الكتابة خارج هذا الموضوعات. لذلك يقال عن الروائيين العرب انهم ما زالوا يكتبون رواية غنائية وذاتية ولا يستطيعون كتابة رواية موضوعية.

عندما اكتب رواية او قصة اكتب انطلاقا من ثالوث المكان والاهل والسيرة، وهذا ظاهر بشكل مفضوح في كل رواياتي وعنوان كتابي <<الموت بين الاهل نعاس>> شهادة دامغة على تورطي في ذلك. في الوقت نفسه يطرح هذا كله جدوى او منفعة اهلك وحياتك وأمكنتك اذا لم تستطع ان تكتبها بشكل جيد. في بداياتي كتبت، بالفرنسية، عن موضوعات مرتبطة بأمكنة وشخصيات قريبة مني. وكنت اتساءل ما نفع كل ذلك. هل يمكن تسويق الاهل والحياة الشخصية في امكنة بعيدة، هذا كان الاختبار الذي جعلني اؤمن بأهمية اخراج ما اعيشه الى العلن وان يكون ذلك مهما للقارئ.

في ما كتبته كنت دائما مضطرا لمعرفة ورؤية المكان الذي اكتب عنه. اذا لم احدد المكان لا استطيع الكتابة عنه. أنا اكتب عن بيت او غرفة او مكان أليف ومعروف. اعتقد ان هذا يعكس نمط حياتنا وعلاقاتنا، بدون مكان معروف مني شخصيا لا استطيع الكتابة. يجب ان اعرفه حتى لو كتبت شيئا لا يحدد بدقة المكان الذي اكتب عنه، يجب ان اعرف اجزاء منه على الاقل. رواية <<عين وردة>> مثلا، انجزتها بعد ان حددت البيت الذي تدور فيه الرواية، في <<ريا النهر>> هناك بيت ومطعم ونهر، وهي اماكن وتضاريس ملموسة وأعرفها وعشت فيها او زرتها على الاقل. وغالبا ما يتبلور المكان في عملي قبل الشخصيات.
الاهل موجودون ولكن حضورهم انتقائي ومختزل وخاضع لمونتاج، فقد تتواجد صفات منهم في بعض الشخصيات، أنا لم اخذ شخصية كاملة من اهلي بل استثمرت اهلي حين كانت تفرض عليّ الرواية ان اكتب عن اشخاص شبيهين بهم.
أنا الاقل حضورا في كتابتي. حياتي بأفعالها وتفاصيلها الملموسة من النادر ان تظهر في الرواية. لديّ، طبعا، اجزاء او نتف من حياتي تدخل احيانا الى الرواية لانني في النهاية مؤلف فيها ولا بد ان يظهر فيها شيء من ذاتي.
المكان والاهل وأنا، اضع الثلاثة بهذا الترتيب بادئاً بالاكثر حضورا في ما اكتبه ومنهيا بالاقل ظهورا.
الآن اكتب رواية احاول ان اتحرر فيها من هاجس المكان ولا ادري هل سأنجح ام لا؟!.

علوية صبح:
مريم ليست أنا
من الصعب عليّ، وعلى الكاتب عموما، تحديد مرجعية النص الروائي بشكل دقيق، لان الكتابة ليست نقلا حرفيا او واقعية تصويرية للحياة الشخصية والعائلية. قد يكون العمل سيرة ويكون جميلا، لكن بالنسبة اليّ، حتى الآن لم اكتب سيرة ذاتية كما تصوّر بعض النقاد في روايتي <<مريم الحكايا>>. لكن، في المقابل، اعتقد ان الكاتب يكتب نفسه بمعنى ما، اي يكتب تصوّره ورؤيته للشخصيات او للعالم الذي يكتبه. انه يكتب نفسه من دون ان يكون ذلك سيرة.

الروائي يشكل عالما من الصعب الفصل فيه بين ما هو واقعي وما هو متخيل، لانه يكتب عادة ما يعرفه او ما تراه عيناه لكنه يكتب ايضا ما يريد ان يستكشفه وما لا يعرفه. لذلك قد يبدأ مما هو واقعي في نقطة ما او مكان ما او شخصية ما او تجربة ما او حادثة او احيانا مجرد عبارة، لكنه ينطلق منها ليبني عالما آخر يبدأ، بالنسبة اليّ، بشكل ضبابي غير واضح المعالم ثم يتبلور تدريجيا. وأحيانا ابدأ من شخصية غائمة بلا ملامح واقعية ولكنها تلح عليّ كحاجة للكتابة لكني اكون لا اعرف ماذا سأكتب، ثم رويدا رويدا يصير لها ملامح ورائحة وعالم، وتصير قريبة الى درجة تسكنني كليا، ثم تبدأ بالتبلور على الاوراق.

بعض شخصيات <<مريم الحكايا>> توحي بأنها واقعية، وأظن ان السبب هو ميلي الى ما هو حقيقي ومقنع في تخيل الشخصيات. الواقع يحتاج الى خيال كثيف من اجل مجاراته. الكتابة هي نتاج واقع وعيش وأبحاث وتجربة شخصية وأمكنة ومرئيات ومسموعات والتقاط تفاصيل المعيش وإعادة صياغته. هاجس يكمن في جعل المتخيل يشبه الواقع. لكي يكون عمل ما واقعيا بفنية عالية يحتاج الى متخيل بفنية عالية، مرجعية اعمالي هي الحياة والواقع، هي روائح وطعوم وحواس ولغات وأجساد... الخ. أنا اعطي الشخصيات من ذاتها وهي تزودني بمشاعرها. عليّ ان اعيش احساس الشخصية وأتعمق فيها لأستطيع الكتابة عنها.
هذا يعني انني لا استطيع الكتابة بمعزل عن الامكنة التي عشت فيها، وعن حياتي الشخصية وعائلتي وتجربتي الذاتية، فهي تشكل الذاكرة الشخصية والمجتمعية بالنسبة اليّ، الابطال تكون مرجعيتهم واقعية او متخيلة ولكن كتابتهم لا تكون حرفية تماما. هناك حيوات تضاف إليها تنشأ اثناء الكتابة، قد تأتي هذه الاضافات من مخزون الذاكرة والعيش ولكنني اتعمد كتابتها.

<<مريم>> مثلا ليست انا. الكثيرون فكروا انها انا.
البيوت التي كتبت عنها هي بيتي وبيت اهلي وبيوت اناس دخلت إليها، كان همي ان آخذ من البيوت ما يخدم شخصياتي ومن دون ان ادرك ذلك احيانا.
القارئ تربى على فكرة ان الرجل يكتب ويعبر عن المجتمع بينما المرأة لا تكتب سوى عن نفسها، وهو لا يريد ان يصدق ولا يريدها ان تكتب عن شيء آخر. والواقع ان المرأة يمكنها التعبير عن نفسها وعن المجتمع في الوقت نفسه، اي تكون الشخصية لها مرجعية عامة.
أنا لا اخجل من الكتابة عن نفسي والتجربة الشخصية ليست انتقاصا من فنية العمل. <<مريم الحكايا>> كانت تقاطعات لحيوات وذاكرات مختلفة، ولهذا ليس في الرواية شخصية واقعية صافية ومجردة جاءت من الواقع الى الورق.

<<مريم>>، في الحقيقة، هي نقيضي، ولكن الرواية تطرح، عبر لعبة المرايا، أن كلنا يمكن ان نكون مريم، وهنا لا يهم من تكون مريم. القراء قد يعنيهم ان يعثروا عن ما هو شخصي ولكن ما يعنيني هو التجربة التي تنقلها مريم. أنا ارى نفسي في <<ابتسام>> و<<ياسمين>> و<<ابو يوسف>> و<<أم مريم>>. فهؤلاء ذاكرتي وذاكرة جيل كامل، مريم اجبرتني احيانا ان اكونها لانها كانت مقنعة وأظن ان قارئات كثيرات احسسن بذلك، وهنا تكمن قوة مريم كشخصية.
مريم هي مزيج من نساء كثيرات عشن تجارب جسدية في الحرب، كان هناك جيل كامل من هؤلاء النسوة، مريم قد تكون خلاصة لهن. فهي انهزمت جسدياً.
أخيراً، الواقع لا يكون حقيقيا اذا خلق من المتخيل فقط، والمتخيل لا يكون حقيقيا اذا خلق من الواقع فقط، حتى الحقيقي نفسه ليس معطى ابديا وليس بديهية مطلقة، قد يكون الواقع مجرد وهم.
محمد أبي سمرا:

حضور الواقع في الرواية سؤال بلا معنى
لديّ انطباع ان الاسئلة التي تتناول صلة الرواية بالواقع او بسيرة الكاتب مصدرها الاساسي هو عدم فهم الرواية. معظم الاسئلة النقدية والمقابلات غالبا ما تدور حول مقدار وجود الواقع الحي والمعيش في الرواية. كأن هذا السؤال يفترض امرين اما انه يستغرب وجود الواقع الحي في الرواية ولا يصدقه، واما افتراض ان الكتابة هي انشاء تزييني للحياة وليس الحياة، اي هي كذب الحياة، مثلما نفكر ان السينما هي مجرد تسلية، او قد يفترض هذا السؤال ان الرواية مطابقة تماما للواقع. ونصير نسأل معقول ان البطل الفلاني يفعل ذلك، نعتبر ذلك فضيحة اجتماعية للكاتب ولشخصياته!!.

هاتان النظرتان يغيب عنهما حقيقة ان الكتابة الروائية هي احتمال من احتمالات الواقع، قد يحدث وقد لا يحدث، اما كم هي نسبة الواقع في شخصيات الرواية فهو سؤال بلا معنى. وفي الوقت نفسه اقول ان كل شخصية كتبتها في رواياتي هي أنا ولا علاقة لي بها في آن واحد، حتى لو كانت هذه الشخصية طفلاً او امرأة او كهلاً، اما الامكنة فحين كنت اكتب رواية <<سكان الصور>> كنت اتردد على المكان المرجعي لها وهو الحي الذي عشت فيه حتى العام 1975. وكلما كنت ازور المكان كنت استغرب واكتشف انه ليس المكان الذي اكتبه في الرواية، رغم تأكدي التام من انه هو المكان المقصود، ولكني لم اكن اجد اي صلة فعلية بين ما أراه الآن وبين ما استمد منه كمخيلة مكانية، بل اكثر من ذلك. عندما كنت ازور هذا المكان ربما كنت احاول استعادته كما عرفته في الماضي ولم اكن انجح تماما. لان الخمسة عشر عاما التي قضيتها فيه هي آلاف الايام التي تشكل طبقات مكدسة فوق بعضها من الحياة. ولهذا لا استطيع رؤية تلك الطبقات كلها في لحظة الزيارة. انه زمن لا نستطيع رؤية بصماته على المكان. شخصية مثل <<زلفا الخوري>> في <<سكان الصور>> لا تشبه ابداً المرأة اياها التي كنت اعرفها في الحي. لأنني ككاتب اضفت على شخصيتها جملة عناصر وتغيرات يصعب احصاؤها مثلما يصعب احصاء التغيرات التي اضيفت اليّ منذ ان كنت طفلا. ولكن اذا سألتني عنها سأقول انني اعرف عنها اشياء كثيرة ولكني لم استعمل سوى جزء بسيط من معرفتي بها اثناء كتابتها. ما استعملته هو عدم فهمي لها وأنا طفل وغربتها عني. حينها كانت غريبة ولكن حين كتبتها صرت اعرفها اكثر مما تعرف هي نفسها. قال لي صاحب الدكان الموجود في الرواية ان <<زلفا>> اليوم تبني بناية في الحي وروى لي بعض مشاهداته عنها، ولم يكن لديّ اي فضول لاراها لاني كنت متأكدا انها لا تمت بأي صلة لا لزلفا طفولتي ولا زلفا الرواية.
في رواية <<الرجل السابق>> كان الراوي شخصا اعرفه، والحي الذي عاش فيه لم أره مطلقا ولكننا زرناه معا بعدما تحول الى موقف سيارات. بنيت الحي بحسب ذاكرته هو. وعندما قرأ الرواية قال لي: لم اكن اعرف انني هكذا، وهذه الأم التي في الرواية ليست أمي. أنا كنت رأيت أمه مرة واحدة كانت كافية لأكتب ما كتبته.

في رواية <<بولبين وأطيافها>> يمكنني القول ان شخصية الابن هي أنا والجد هو جدي والأم هي أمي. هناك بالتأكيد حوادث موجودة في الرواية حصلت في الواقع. ولكن كل حادثة تحصل في الواقع يمكن ان تروى بعدد الاشخاص الذين يبادرون الى روايتها، حتى الشخصيات في الرواية يمكن ان تروى عنهم روايات لا تحصى، هم في الرواية كائنات مصنوعة من الكلمات بينما في الحياة هم مصنوعون من مادة ملموسة.
إيمان حميدان يونس:

الرواية تتحايل على هوية الأشخاص والأمكنة
اجد السؤال مثيراً اكثر لو طرح على الشكل التالي: كيف تتحايل اثناء رسم شخصيات رواياتك الطالعة من تاريخك وحياتك وتجاربك ومعارفك؟ كيف تتحايل وتلعب بها وتحورها كي لا تنكشف الهوية الحقيقية لأصحابها.
بالطبع لا بد ان يكون ما اكتبه طالعا من حياتي ولا اقصد حياتي بمعناها الضيق. الامر يتعدى ذلك ليشمل قراءاتي وأفكاري ومشاهداتي ومن القصص التي اسمعها وأقرأها، ومن تجارب غيري التي كنت شاهدة فيها، على الاقل، او جارة، او حتى عدوة.

أكتب شخصيات علقت في رأسي منذ الصغر والشباب، شخصيات ألبسها عادات جديدة وأحملها على قول اشياء لم تقلها في الواقع ابداً. الشخصيات الواقعية ما هي إلا مادة اساسية اعيد تدويرها والخروج معها بشخصيات اخرى. أنا ككاتبة اعلم وحدي فقط كم بقيت تلك الشخصيات تشبه اناس الواقع الذي اعيشه وأختبره. هذه لعبتي المسلية التي لا اجد ضيرا من الاحتفاظ بها كسر صغير. احيانا لا اجد الجرأة على الكشف عن هويات الاشخاص الحقيقيين الذين استوحيت منهم رسم شخصياتي ولا اعتقد ان الجرأة مطلوبة في هذه النقطة بالتحديد، لأن ما اقوم بكتابته أدب وليس تأريخا لحياة شخص او سيرة له. انها لعبة مثيرة ان اصنع شخصيات روائية طالعة من شخصيات اخرى او بالاحرى من مواد اوليةاضيف اليها كثير من الخيال، بحيث تغدو <<كولاج>> لشخصيات لا تحصى احيانا. الا ان شخصياتي لها مصداقيتها وعالمها الذي يشبه عالمنا، وهي قد تشبه اي شخص اعرفه. رسم الشخصية يشبه في مراحله الاولى تحضير <<الكروكي>> الذي يقوم به اي رسام.

في روايتي <<باء مثل بيت مثل بيروت>> هناك <<العمة كاميليا>> وهي تشبه الى حد بعيد <<العمة شمس>> في رواية <<توت بري>> الا انني لا اعتقد ان القراء او النقاد استطاعوا التقاط هذا الشبه. الشخصيتان طالعتان من شخصية واحدة في الواقع. شخصية بقيت أراها واستمع الى احاديثها حتى سنواتي العشرين. هي بعيدة وليست قريبة لي الا ان حياتي تقاطعت مع حياتها بفعل زياراتها المتكررة الى بيتنا والعلاقة المتينة التي كانت تربطها بقريب لي. لم احب تلك المرأة الا بعد اعادة رسمها من جديد. اكتشفت حينها كم كانت تراهن على الحب، وكم كانت ضعيفة.

الشخصيات متناقضة وأعتقد ان ما يجمعها هو أنا، او بالاحرى حبي لها، ولا اعتقد ان من السهل عليّ ان اكتب ببراعة عن شخصية ما دون حب حتى لاكثرها ابتعادا في صفاتها الروائية عن الحب. بهذا المعنى يبدو لي ان تلك الشخصيات، التي اعرفها في الواقع والتي ربما لم احب بعضها يوما، ستجد حظا كبيرا اثناء الكتابة كي انظر إليها بطريقة اكثر إنسانية، كي اكتشف معاناتها ومحاولاتها للنجاة. هذا غالبا ما يدفعني الى ان اتعرف اليها ثانية، الى ان احبها من جديد. ان ذلك العمل، وأقصد إعادة رسم شخصية اخذتها من الواقع، هو ايضا تمرين لي ككاتبة وكإنسانة على ان اقبل ضعف البشر وأتصالح مع ميولهم ورغباتهم حتى الاكثرها غرابة، بحيث أراها كجزء من طبيعتهم ومن اختلافهم عن الاخرين. ما اقوم به هو اخراج ما عنته لي تلك الشخصيات، وليس ما هي عليه بالضبط. انه تمرين دائم، بل حتى انه علاج لي.

أما المكان فهو ربما، الاكثر حضورا في كتابتي، وغالبا ما اجده اهم من الشخصيات البشرية. بيت جدي وبيت اهلي لعبا دورا كبيرا في رسم امكنة وفضاءات روايتي. بيت الراوية في <<توت بري>> هو بيت جدي قبل ان تجتاحه الحضارة، حضارة الالمنيوم والباطون، وقبل ان يتحول الى بيوت وشقق مع الزمن ومع ازدياد عدد الورثة. استطيع ان اقول الكلام نفسه عن الروائح والالوان الطاغية ايضا في عملي. حضورها الطاغي بالطبع يقول احيانا ما لا تستطيع الشخصيات التعبير عنه. انها الروائح والالوان التي هي اول ما ابحث عنها كلما زرت اماكن لي صلة وثيقة بها. الروائح، كما الاشخاص، هي جزء من إلفة الأمكنة ومن معرفتنا العميقة بها.

التعليقات