محمد الماغوط: تجربة الحياة، تجربة الكتابة...

-

محمد الماغوط: تجربة الحياة، تجربة الكتابة...
عندما تناهى خبر وفاة الشاعر محمد الماغوظ الى علم الحاضرين في تلك الأمسية الشعرية الرائعة، التي كانت تقام بأحد فضاءات مدينة مكناس المغربية، اهتز كيان سعدي يوسف وبدا عليه الأسى، فاضطر الى السكوت للحظات. علم الحاضرون أن الموت أخرس سعدي وأن خيوط الكلام فلتت منه تحت وطأة النبأ.

هل كان كل ذلك حزن شاعر على شاعر؟ الواقع أن في الأمر أكثر من هذا، فالشاعران ولدا في نفس السنة، وخبرا السجون في وقت مبكر، وفي شعرهما خصائص مشتركة تتجاوز انتماءهما الى جيل واحد لتنسحب على تفاصيل مسار كل واحد منهما الشعري والحياتي....هكذا يمكن فهم الرجة التي قرأها من كان يستمع الى سعدي يوسف، وهو يتطلع الى ملامحه في تلك اللحظة الفارقة.

ولا شك في أن من تقفى رحلة الماغوط في الحياة والكتابة، سيصاب بنفس الخرس الذي ألم بسعدي وجمهوره، وهم يتلقون نبأ غياب أحد كبار فرسان الكلمة في الوطن العربي.

يعرف محمد الماغوط في تاريخ القصيدة العربية الحديثة كواحد من رواد قصيدة النثر الى جانب الشاعر أنسي الحاج. وقد أثار بهذا الجنوح المبكر الى ذلك النمط من الكتابة الشعرية استغراب زملائه الشعراء: فهو لم يكن يتقن لغة أجنبية كأنسي الحاج، ومن المؤكد أنه لم يكن يقرأ لبودلير أو رامبو، لأنه وقتها كان قد غادر السجن الذي دخله بسبب انتمائه السياسي، والذي بسببه جاء هاربا من سورية الى لبنان، ومع ذلك فانه اهتدى بفطرته الشعرية النفاذة الى قصيدة النثر.

لا شك أن في الأمر غرابة، ولذلك احتاج أدونيس وهو يقدم الماغوط الى جماعة مجلة شعر أن يسلك طريقة خاصة: قرأ على الجماعة بعض قصائد ما سيحمل عنوان حزن في ضوء القمر وتركهم يختلفون بحثا عن كاتب تلك القصائد. أغلبهم ـ حسب شهادة سنية صالح ـ ذهب بعيدا في تخمينه، معتقدا أنها لأحد الشعراء الغربيين...وكم كانت دهشة المجتمعين كبيرة عندما عرفوا أنها لشاب تجاوز العشرين بقليل أشعث أغبر...يخطو خطواته الأولى نحو الشعر.

هكذا دشن محمد الماغوط أول فتح شعري، عندما احتضنته حركة مجلة شعر وفتحت له صفحات مجلتها دون تردد... لأنها رأت فيه صوتا شعريا مغايرا. ما يدل على الاحتفاء الكبير الذي استقبل به من لدن الحركة أن المتابعات التي كانت تنشر لقصائده في التعقيب الذي كان يصدر في المجلة عن كل عدد، كانت متعددة ومختلفة، الى الحد الذي كان معه نشر قصيدة للماغوط يعتبر حدثا في حد ذاته. وعبر ذلك الاهتمام عن نفسه بشكل جلي عندما نشرت له دار مجلة شعر التي أسستها الحركة ديوانين هما حزن في ضوء القمر 1959 و غرفة بملايين الجدران 1960.

لم يحدث أن نشرت الدار ديوانين لشاعر واحد، الماغوط كان الاستثناء الوحيد...وبهذا يمكن القول ان الشاعر قد وجد انطلاقته الحقيقية مع شعر ، التي كانت ناديا ثقافيا وشعريا يمتد اشعاعه الى أوسع أرجاء البلاد العربية.

في بداية ستينيات القرن الماضي دب الخلاف بين أعضاء الحركة، حول مسائل تبدو في ظاهرها شعرية، ولكنها كانت في حقيقتها أكثر من ذلك، اختلفوا حول اللغة الشعرية والتعامل مع التراث ومسألة مرجعية القصيدة وغيرها من القضايا التي كانت في بداية النصف الثاني من القرن العشرين مثار سجال صاخب.

كان محمد الماغوط سباقا الى الانسحاب من حركة مجلة شعر . وانحاز الى خصمها العنيد مجلة الآداب البيروتية. لم تكن مجلة سهيل ادريس تمثل تيارا فكريا أو حركة شعرية تحظى بتوجه عام، كما كانت عليه مجلة يوسف الخال، ومع ذلك فانها كانت تجمع القوميين العرب بكل أطيافهم، عروبيين وماركسيين ووجوديين. لذلك عندما اختار صاحب غرفة بملايين الجدران مجلة الآداب منبرا للتعبير عن انشقاقه عن شعر ، وانسحابه من حركتها، فانه كان يريد الافصاح عن موقف منحاز الى القضايا العربية، والى هموم الانسان العربي. وهذا ما يفسر ما يشبه النقد الذاتي الذي أعلنه بتواضع شديد، حين كتب وهو يتحدث عن الفترة التي قضاها في شعر : لم أكن سوى كاتب قطع نثرية بسيطة، سميت شاعرا وشاعرا حديثا على غرارهم دون ارادتي .

وبخروج محمد الماغوط من حركة مجلة شعر ، يكون قد استنفذ محطة في مسيرته الابداعية، ودخل محطة أخرى ركن فيها الى الصمت طيلة عقد من الزمن. ولن يظهر له عمل شعري جديد الا سنة 1970 حين أصدر ديوان الفرح ليس مهنتي عن منشورات اتحاد كتاب العرب.

الديوان الذي جاء بعد عشر سنوات من الانصات للذات وللآخر، شكل انعطافة في القصيدة لدى الماغوط، ذلك أن آثار هزيمة 1967 بدت مخيمة على شعره، ومن ثم اختفاء النزعة التأملية في القصيدة وحضور قسوة اليومي بسخرية لاذعة وجارحة أحيانا.

وتحت وطأة الهزيمة رأى الماغوط أن التعبير بشكل كتابي واحد لا يفي بالحاجة، فعاود كتابة المسرحية التي جربها لأول مرة سنة 1960 حين أصدر العصفور الأحدب وكتب نصين مسرحيين هما ضيعة تشرين و شقائق النعمان في بداية السبعينيات. ثم أتبعهما برواية الأرجوحة التي كان قد وضع مسودتها الأولي سنة 1963.

وتوالت الأعمال الدرامية لدى محمد الماغوط فكتب عدة نصوص مسرحية، بعضها طبع ولم يعرض، وبعضها الآخر وجد طريقه الى الخشبة ولم يصدر في كتاب. وهكذا ألف مسرحية الغريبة 1976، و كأسك ياوطن في نفس السنة، و خارج السرب 1979.

في هذه الفترة التي انقطع فيها الماغوط عن كتابة الشعر، أو عن نشره على الأقل، اهتم بالدراما التلفزيونية فألف للتلفزيون السوري ثلاثة مسلسلات لاقت اهتماما كبيرا من جمهور المشاهدين، وهي على التوالي حكايا الليل و وين الغلط و وادي المسك . وضمن هذا الاهتمام أيضا كتب السيناريو لفيلمين سينمائيين معروفين هما الحدود و التقرير .

وقد اشتغل محمد الماغوط بالعمل الصحافي فاشتهر بأعمدته النارية ومقالاته التي جمع بعضها في كتابه المثير سأخون وطني .

ويبدو أنه في السنوات الأخيرة لم يعد يؤمن بالمسافة بين الأنواع الأدبية بقدر ايمانه بالكتابة كنوع جامع لا يعرف الحدود، وهذا ما يفسر اصداره كتابا يتضمن نصوصا متفاوتة ومختلفة تحت عنوان سياف الزهور الذي ضمنه كذلك بعض قصائده حديثة العهد.

وبهذا يكون محمد الماغوط قد توقف عن كتابة الشعر فترة ثانية امتدت من 1970 تاريخ صدور ديوانه الفرح ليس مهنتي الى 1989 حين عاود نشر قصائده في المجلات والملاحق الثقافية، وهي القصائد التي أثبت بعضها في كتابه الأخير سياف الزهور السالف الذكر.

حياة محمد الماغوط الأدبية اذن حياة مضطربة تشهد على اضطراب حياته، فهو ينتقل من نوع أدبي الى آخر بسهولة متناهية، ويتوقف عن الكتابة فترات قد تطول أو تقصر. وكل هذا يشي بأننا أمام شخصية فريدة، لا تتمرد على الآخر فقط وانما تتمرد على نفسها.

فقد انضم ذات يوم الي الحزب السوري القومي الاجتماعي، وبسبب هذا زج به في السجن، ثم ما لبث أن قدم تفسيرا لهذا الانتماء يكاد يكون عبثيا، ومفاده أنه كان يسكن قرب مقر الحزب القومي الاجتماعي السوري، وشعر بالبرد فبحث عن بناية بها مدفأة، وبما أن مقر ذلك الحزب يتوفر على ما يقيه من البرد فقد دخله...وبقية الحكاية معروفة، اذ بمجرد مغادرته السجن سيهرب الى بيروت ملتحقا بركب الهاربين: أدونيس ويوسف الخال وآخرين...

وعزز الماغوط صفوف حركة مجلة شعر ولكن التحاقه بها وحضوره اجتماعاتها، له عنده تفسير لا يقل عبثية: انه يدخل بيت يوسف الخال، مقر الاجتماع، لأن زوجة الخال كانت تهيئ طعام الأسبوع على الطريقة الأمريكية، وبالتالي فان الماغوط كان يجد ما يأكله هناك.

وكتب قصيدة النثر التي كان أحد رائديها الي جانب أنسي الحاج، ولكنه في لحظة ما تنكر لها، ونفى عن نفسه أن يكون شاعرا.

لعل هذه التناقضات التي صاحبت حياة الماغوط هي ما جعلت منه مبدعا حقيقا، مخلصا لتجربته الحياتية: ولقد بدت تلك التجربة مؤسسة علي صدمة وجودية رافقته في جميع مراحل حياته. فقد انتقل من بلدته السلمية التي ظل يحن اليها:
أرسل لي قرميدة حمراء من سطوحنا
وخصلة من شعر أمي
مع أقراط أختي الصغيرة
وأرسل لي نقوداً يا أبي لأشتري محبرة
وفتاة ألهث في حضنها كالطفل
(حزن في ضوء القمر)
عاد الى دمشق ليدرس الزراعة، ثم فجأة وجد نفسه في السجن، بمحض الصدفة، الشيء الذي سيخلق بينه وبين دمشق المدينة علاقة خاصة جعلته يمدحها حينا ويهجوها أحيانا، لأنها تحتضن الطبقة الوسطى التي كان الماغوط يرى فيها عدوا للتغيير:

نهر صغير من الطبقة المتوسطة
أتي على كل شيء في حقبة واحدة
أروع مطر في التاريخ
أجمل سحب الشرق العالية
بددها علي الغرغرة وغسل الموتي.. ( الفرح ليس مهنتي ).
المسافة بين البادية والمدينة هنا لا تقاس بنمط الحياة ولا بمظاهر الحضارة، بل تقاس باختلاف في الشخصية وطريقة التفكير. ومن ثمة فان الانشداد المستمر الذي ظل الماغوط يشعر به الى البادية طبع كتاباته بميزتين قلما يتوفران لشاعر حديث، وهما صدق التجربة والعفوية في التعبير عنها.

ولذلك فان الشاعر ظل متصالحا مع نفسه حتى النخاع، وكان يعرف بصراحته التي تصل الى حد الوقاحة أحيانا، وربما هذا ما جعل نزار قباني يقول فيه شهادة لم يقلها في أحد: أنت، يا محمد، أصدقنا..أصدق شعراء جيلنا. حلمي أن أكتب بالرؤى وبالنفس البريء، البعيد النظر الذي كنت تكتب به في الخمسينات. كان حزنك وتشاؤمك أصيلين.. وكان تفاؤلنا وانبهارنا بالعالم خادعاً .

صدق التجربة جعل محمد الماغوط مرتبطا بالواقع، وقد يكون هذا سببا اضافيا في انسحابه المبكر من حركة مجلة شعر التي كان منظروها يعتقدون أن الشعر ينبثق من التجربة الفردية. وهذا ما جعل شعره يتسم بلغة حادة تنفذ الى أعماق الواقع لا لتقرأه بل لتعريه. لذلك يقول عنه غسان كنفاني ان للماغوط كلمات مسلحة بالمخالب والأضراس. ومع ذلك، فانها قادرة على تحقيق ايقاع عذب ومدهش، وأحياناً مفاجئ. كأن يتحول صليل السلاسل الى عزف منفرد أمام عينيك ذاتهما في لحظة واحدة . الاحساس بالفاجعة جعل القلق ملازما لشعر الماغوط، ولكنه قلق وجودي يسهم في بناء الرؤيا الشعرية، التي تأتي على المسافة بين الحاضر والمستقبل. وهي رؤيا لا تقوم على العرفان بقدر ما تتأسس على حدس يلامس الواقع مجسدا بين فكي قصيدة.

وربما شكل هذا البعد حافزا على عدم اهتمام الماغوط بالتنظير الشعري، على الرغم من أن أقرانه من رواد الحداثة حرصوا على المزاوجة بين التنظير والابداع. وهذا ما قد يجيب على تساؤل سلمي الخضراء الجيوسي حين تتحدث عنه فتقول: انه كتب الحداثة أكثر من الشعراء الآخرين الذين نظّروا بها. هذا الرجل لم أستطع أن أحل اشكاليته في قدرته على امتصاص الحداثة فهو ليس حداثياً، بمعني الحياة الخارجية، وهو لا يتقن لغة أجنبية، وعندما كتب هذا الشعر لم يكن يعرف الشعر الغربي . بهذا المعني يصبح محمد الماغوط كما قالت عنه زوجته الشاعرة سنية صالح، التي اكتوى بنار غيابها ذات مرة: انه من أبرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل.. وقد لعبت بدائيته دوراً هاماً في خلق هذا النوع من الشعر.. .

د.حسن مخافي
كاتب من المغرب
عن "القدس العربي"

التعليقات