مروان مخول شاعر مختلف حاورته: رماح مفيد

مروان مخول شاعر مختلف  
حاورته: رماح مفيد
نستطيع أن نقول عن مروان مخول: إنه شاعر قلق بشكل أنيق، راهن عليه الكثيرون ومن بينهم الشاعر محمود درويش. ففي قصائده تلمس الصراع بين الشاعر الأممي والشاعر الذي ينتمي إلى فئة تحاول المحافظة على تأكيد قوميتها، يكسر قواعد الشعر، لا عن ضعف، بل عن وعي وعن تجربة حذرة.
ولد مروان مخول في بلدة البقيعة الجليلية، هو ابن 29 عامًاً، أمّا عمره الشعري فهو 10 أعوام على الأكثر، رصيده من دواوين الشعر "صفر"! في حين أن نتاجه الشعري القليل يَعِد بولادة شاعر مميز واستثنائي، ليس من السهل إقناعه بأن قصائده صارت كفيلة للخروج إلى النور في ديوان يمثل نضوجه الشعري.
عندما كنت أعدّ هذا الحوار معه شعرت بصدق ما قاله عنه محمود درويش، حيث إن وجوده على الساحة الشعرية بات حقاً يتهدد مصير الشعراء المتوسطين، هكذا كما رأيناه فهو يهتم بقارئه، ويعمل على توثيق علاقته به، ولكن لن تُفاجأ أبداً حين يثور مروان على متتبّعيه، ليصغي إلى الشاعر المسكون في داخله من خلال قصائد ذاتية جدًا.

هذا الطفل المشاكس الذي أهمل المدرسة ولعب في شوارع البلدة وحيدًاً، وعايش آلام أخوته الذين يعانون من إعاقة جسدية، كَبُرَ ولدًا مشاغبًا في ظروف استثنائية ثمَّ ثار على ضياعهِ ليصبح اليوم مهندساً ناجحًا وشاعرًا مختلف.

ما الأثر الذي تركته هذه الطفولة المرّة فيك؟

لقد بلغت الرّشد متأخرًا، بل ناقصًا من كل شيء عدا ثقافة الشارع ومَيل إلى سطحيات الأمور. لم أقرأ شيئاً مما وَجَبَ عليّ في المدرسة، كنت أعرف من الحياة ما تعرفه دجاجة عن جمهوريّة أفلاطون وجنون فردريك نيتشه. أبي كان مشغولاً عنّي بمساعدة النّاس بتطرّف، كرد فعل عكسي لِحَظّه السيء من الحياة وأخوة معوّقين. أمّي لبنانية، كانت تجهل لغة المؤسسات الإسرائيلية ولا تستطيع مجرّد التحدّث إلى موظّف في وزارة الداخليّة!

باعتبارك شاعرًا فلسطينياً يعتز بهويته ويعالج في قصائده تناقضات الحياة في الداخل، كيف تنظر إذًا إلى ترجمة قصائدك إلى اللغة العبرية تحديدًا؟

لست عدوًا لِلّغة العبريّة واليهود، إنّما عدوّي هوَ ذلك السطحي الذي لا ينتَبِه في المعنى إلى الفرق بينَ العبريّة كلُغة واليهوديّة كنهج حياة من جهة وبينَ الصهيونيّة العالميّة كَوباء شبيه بالإيدز من جهة أخرى، إذ إنَّ المجتمع البشري لم يوفّر مضادًا لقمعهما بعد. أمّا بخصوص ترجَمة قصائدي إلى العبريّة فهذهِ نقطه أستطيع بواسطتها الكَشف عن حقيقة أنَّ الوعي الثقافي لدى المتلقّي العِبري وتهافته الأكيد على جديد الشعراء والأدباء أكبر بكثير منه لدى الوسط العربي، والذي يتقوقع في مضارب بني هلال حتى الآن رافِضًا بذلك تذوّق الشعر العربي الحديث إلاّ في حالة يكون خلالها الشاعر ابن مرحلة سياسيّة هامّة أو طارِحًا لموضوع مُحرّم اجتماعيًا وسوقي على صعيد الجرأة.

قامت وزارة الثقافة الإسرائيلية من مدة قصيرة بتوزيع جوائز الإبداع على بعض الأدباء والشعراء من الداخل، بعضهم قبلها وبعضهم رفضها معتبراً أنها خيانة لآيديلوجيته، ما هو موقفك من هذه القضية تحديدًاً؟

الجهة الدّاعمة للجائزة ليست وجهة المشكلة، بل على العكس، إذ يجب على الأدباء أن يحاولوا نَيل حقوقهم قسرًا، وبنفس الحجم الذي يدفعون فيه ثمن انتمائهم لدولة تميزهم عن سواهم عنصريًا. إنَّ مشكلة الجائزة هي المعايير الأدبيّة المتوسّطة، وبالتالي وبدون تعميم، لا مفر من أن المتوسطين في الأغلب هم من يقترح أدبهم لنيل هذه الجائزة.

إلى أي مدى أنت مقتنع أن التواصل الأدبي قادر على إيصالنا إلى واقع أفضل أو إلى سلام؟

ليس من واجب الأدب أن يسهم في دفع عمليّة السّلام، بل على الكاتب أن يحاول التعبير عن نفسه، إذ بدوره سيقدّم وُجهَةً ثقافيةً مناقشة للآخر، فيستطيع وعن غير قصد أن يُسهم في دفع عمليّة السلام. المهم ألا يُهادن هذا الكاتب متلقّيه العبري أو غيره. بل على العكس إذ يجب عليه عرض عضلات فكريّة جميلة ومستفزّة في آنٍ واحد، فيشدّ المتلقّي أو القارئ إلى الموضوعية إزاء فنيّة النص الأدبي من جهة والاختلاف فكريًا من جهة أخرى كإستراتيجية لاختراق مدروس.

مع كل التناقضات التي نلاحظها على الصعيد العام دون أن نحدّد ثغرة ما، هل يسير الأدباء الشباب في الطريق الصحيح على اعتبار أنهم ورثة توفيق زياد وغسان كنفاني ودرويش؟

يجب على الشاعر ألا يسير في الطريق الصحيح إذا أراد الوصول! فالطريق المُتوقّع سلفًا هو التقليديّة بعينها، يجب على الشاعر ألا يَجِب عليه شيء، أي أن الاختلاف والتغيّر الدائم هو سبيل التجديد الوحيد، إذ كُلّما قلَّ اهتمام الشاعر أو تأليهه لشاعر سبقه نجح في الاستقلال وبرزَ شعريًا بدون شك. أنا شخصيًا أستطيع القول إن الشعراء السابقين قد أدهشوني ولكن هذهِ الدهشة ذاهبة في طريق الفتورْ إذا صحَّ التقييمْ.

لا يزال الجدل قائماً بين أنصار قصيدة النثر والشعر الموزون، لكننا لا نلمس هذا الجدل لدى جيل الشباب الأخير بقوّة، كيف تنظر أنت إلى هذه الظاهرة؟

ستثبت قصيدة النثر حضورها كما أثبتت قصيدة التفعيلة حضورها في ساحة عمود الشعر العربي، ولكن يجب إثبات هذا الحضور من نقطة ثابتة ومدعومة بحجة جمالية وثقافية، إذ إن على الشاعر أن يُتقن أساليب الشعر كافة لكي يستطيع الاختيار من باب القوة لا من باب الملاذ والقصور عن كتابة قصيدة الوزن.

لا ننكر أن القضية الفلسطينية حاضره في شعرك تماماً. مروان مخول الذي لا يزال يناجي حيفا كيف ينظر إليها على رغم من التغيرات في التركيبة الاجتماعية والتناقضات التي حصلت لها؟ ألا يؤثر ذلك في علاقتك بها؟
تَشوّه حيفا وعكّا واللد اجتماعيًا هو الأرض الخصبة المناسبة لزراعة الإبداعْ، لا من أجل النوستالجيا بل لسببين مقنعين بنظري، الأول؛ اختلاف المضمون الذي قد تغيّر، والثاني قضية تغيرات نفسية لدى المبدع، إذ إن المكان المُحطّم إجمالاً قد يأخذكَ إلى تأمّل أعلى في المكان قبل عمليّة التحطيم، أي أنَّ حيفا 2008 مفهومة لي ولغيري أكثر من تلك عام 1917
أمّا بما يتعلّق بحيفا وسواها من الحاضرات في شعري، فهي على ما أعتقد مطروحة بشكل حياتي معاصر أقرب إلى اليومي الحالي من تلك التي تزدحم في الشعر الرومانسي والتقليدي، فأنا لا أتغنّى بكرمِلها الأخضر بل ربما بمقهىً صغير في الشارِعِ المؤدّي إلى جبل الكرمل الكلاسيكي ذاته.

لطالما كان التواصل بين شعراء فلسطينيين من الـ48 وبين العالم العربي صعبًاً، إذ لم تشهد الساحة الثقافية مؤخرًا أي نشاطات ملموس، أستطيع أن أجزم ربما على أن هذا التواصل معدوم، أين المشكلة في رأيك؟

لا تقتصر المشكلة على الأدب والفن فقط، إنّما على شتّى نواحي الحياة، إذ إن أموراً كثيرة تساهم في عملية العزلة، خذي مثلاً في الحصار الجغرافي وعدم الاختلاط بالعالم العربي من جرّاء عملية عدم التطبيع الذي يمارسها هذا المجتمع الواسع علينا، دون التفريق بين الكيان الصهيوني المجرم من جهة وبين الأقليّة العربية الحيّة في الداخل الفلسطيني من جهة أخرى، تكمن العزلة في المرحلة الراهنة إذ تنشغل هذه المرحلة بفن الاستعراض الهزيل، والذي يشكّل حربًا ثقافيةً يشنها الاستعمار والإمبريالية تمهيدًا بلا شك إلى شنق الانتماء العربي وإقصائه عن ضرورة الانتماء لمكان وتاريخ مشترك، وبالتالي تَسهل عمليّة تقسيم الأمّة إلى أمم مشوّهة. تقف هذه الأسباب من جهّة ويقف التراجع الأدبي المحلّي من جرّاء ممارسة الحياة بلغة رسميّة غير لغة الأمّ وبذلك تُقتل التلقائية في النصوص الأدبية ويسيطر بالتالي التيار غير المعاصر من الكتّاب على ساحة الانتشار.

هل يشغل القارئ حيزاً لديك أثناء كتابة القصيدة؟

لا أعير انتباهي لأحد عند الكتابة، وخاصّةً تلك الشريحة الواسعة من القرّاء الذين يريدون أن أكتب لهم شعارات عن قضيّة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينيّة تحديدًا، أو يريدونني أن أكتب عن مضارِب ليلى وعام الفيل، مما لا يناسب هموم العصر، هذا عدا أني أكتب من حاجةٍ إلى شيء خفيّ لا أكثر.

الألم أبٌ شرعيٌ للإبداع، من يقرأ بعض نصوصك يشعر وكأن الهم الوطني يغلب على شعرك، لكن الواقع يدفعنا لنسأل ما هي هموم مروان الإنسان؟

أنا شخص عادي، همومي لا تختلف عن هموم أحد، ربّما تجاوبي شعريًا يجعل سؤالك شرعيًا لكن بلا جواب.

لماذا لم تعد مبهورًا بقصائدك المنشورة؟ وأين تعتقد أنك أخطأت خلال مسيرتك الشعرية؟

لم أعد معجب بقصائدي السابقة، ربما لأنني بحاجة إلى تقدّم مستمر، إذ إنّ الرِضا عند المبدع نوع من أنواع الانتحار الباكر. لا أشعر أنني أخطأت في هذه المسيرة القصيرة قدر ما أشعر أنني أخطأت حينَ لم أفرح لضجري الناضج من نصوص قديمة أقرأها، إن الكاتب الذي يكتشف أخطاءه ليس ذاته من ارتكبها، بمعنى آخر هذا الشخص ذاته ولكنه كَبُرَ ليرى نفسه من فوق وأوضح.

لقد اعتليت سلم الشهرة سريعًا وربما عُرّفت كشاعر وطني يساهم في كل مناسبة وطنية كبيرة، لكن للشهرة مساوئها كما لها فوائدها فما رأيك؟

لم أكن على صواب حين اندفعت وراء قبول دعوات لمسارح ومنصات عديدة، ومن الخطأ الشديد أن الأمر كان قد أغراني حينها. كان من واجبي السليم ألا أنجرف لأنحرف في هاوية مُمتعة مرحليًا! كنت أتمنّى أن أنمو بشكل طبيعي أكثر، كنت أريد ما أنا عليهِ الآن؛ منعزل ومنفرد ومتفرّغ كليًا للنص المكتوب لتوه فقط، ومن أجل أن أكون أكثر نقاءً وشخصيًا في نتاجي، إنَّ ولادتي السريعة استفزّت شريحة من بعض الكتّاب المحليين، هذا الأمر جعلني على مَحَك قاسٍ، فجعلَ نصوصي أكثر عُرضة للتأويل المجاني، هذا عدا تفسير شخصيتي في مقاهي "ثقافية" ساذجة أو تشريحي فنيًا إلى حد دراسة نوع أسناني ورقم الحذاء الذي لم أشتره بعد! سأستغلّ سؤالك لكي أؤكّد على وجود ذباب في الغرفة الثقافية ليس ساماً بالضرورة ولكنه مزعج، هناك أشباه كتّاب يلاحقونني إلى حد يكاد يكون جنائياً، أعدهم أن أحبهم بالقوّة فأنتقم لأستمرّ.

أنت قومي أم أممي؟

لست قوميًا أبدًا، ولا أرى قضيّة شعبي من منظور فلسطيني، بل من تعاطفي الإنساني الذي لا يقبل هذا الإجرام "الطبيعي" الذي تقلّد فيه إسرائيل تاريخ البشرية الدّموي القذر منذ الخطيئة الأولى وحتى الآن! أنا لا أميّز نفسي بشيء، لكل محتل حُجّة وضحية مناسبة، أنتمي إلى فئة المقاومين والمعترفين بذنبهم على حد منطقي، وأشكرك على السؤال الذي يفسح لي بأن أناشد الحركات الدينيّة السياسية في بلدي باستعجال الأنبياء للعودة حالاً، كَون هذا العصر أصبح نووياً وبحاجةً للعناية الإلهية أكثر من عصر سيوف قريش وجيوش هيرودوس. أنتمي إلى كردي مثقّف وقد قَرأَ آرثور رامبو أكثر من جَهَلة في قريتي في الجليل، للمناسبة وعلى ذكر المثقّفين أنا معجب بالذي اخترعَ إسرائيل، إذ استطاع أن يشغل الأمة العربية بهذا الاحتلال لتنسى الأمّة دورها في الخروج من تخلّفها المدقع ومن حكّامها الباقين على العهد والكرسي أبدًا! مشكلتي مع التعصّب بكل أشكاله.

"لفلسطين شعراء شباب، أحدهم قلق ويعجبني، أسمه مروان مخول" هذا ما قاله محمود درويش للكثيرين، مما يدفعني لأن أسألك عن علاقتك بدرويش الإنسان والشاعر؟

درويش صديق، على رغم من فارق السّن. لقد تعرّفت إليه منذ ست سنوات، هو من كسر لي قواعد لعبة الشعر ثمَّ ساعدني على بنائها من جديد، لا أذكر قصيدة لي لم يقل فيها رأيًا وملاحظات خاصّة. درويش أهم دمعة ذرفت في العالم العربي. منذ الليلة التي توفي فيها آثرت عدم الظهور لأكثر من أسبوع وسبب. لم أنشر كلمة واحدة عنه في الصحف لغاية الآن، فلم أستغل موته لأنني أحبه فعلاً، درويش خسارة العالم في الأقل!

• مقتطف من رثاء درويش لمروان مخول:


اصعدْ سَماءكَ وارمِ لي حبلاً، أُعلّقُ ما كَتَبتَ مِن الملاحمِ
كي تَمُدَّ الفوقَ بالمغزى.. وكي يتنوّرَ الشيطانُ
علَّ إلهكَ الفرحانَ يغفرُ ما لآدمَ من ذُنوبٍ، لا تَخُصُّكْ.


البريد الالكتروني لمروان مخول

mr_makhoul@yahoo.com

• عن صحيفة العرب اون لاين- لندن


.

التعليقات