نقادنا وفوضى النقد/ أحمد إغبارية

نقادنا وفوضى النقد/  أحمد إغبارية
كان الشاعر الفلسطيني الكبير، محمود درويش، أول من وضع اصبعه على الجرح عندما شخّص طبيعة الأزمة الحقيقية التي عانى منها الأدب المحلي (داخل الـ48) في الستينات، وشخّص كذلك طبيعة النقد العربي الذي تعاطى مع هذا الأدب. ففي مقاله المنشور في مجلة "الجديد" (عدد6، 1969)، وتحت عنوان "أنقذونا من هذا الحب القاسي"، توجّه درويش إلى النقاد في العالم العربي طالبًا الفصل بين عاطفتهم التي يكنونها للشعب الفلسطيني وبين تقييمهم للأدب الفلسطيني، على اعتبار أن الدراسات النقدية التي عُنيت بالأدب الفلسطيني كثيرًا ما كانت تمتزج بالعاطفة تجاه شعب راسف في القيود، وهو ما أدى إلى هبوط مكانة الأدب المحلي قياسًا إلى الأدب الذي يُكتب في العالم العربي، خاصة في ظل شيوع الاعتقاد أن الكتابة عن المأساة تنطوي على قدسية ضمنية تحميها من محكات النقد.

إذا كان هذا حال النقد العربي في معالجته للأدب المحلي، فإن حال النقد المحلي أسوأ بكثير. فمحليًا، وفي الفترة المعنية، هيمنت الثقافة الأيديولوجية وجعلت الأدب أداة طيعة في يد الحزب الشيوعي يستهلكه ويوظفه في الدعاية له والترويج لطروحاته. وبهذا المعنى لم تخرج غالبية الدراسات النقدية التي نشرت في صحافة الحزب الشيوعي عن هذه الرؤية الحزبية والأيديولوجية الدوغمائية.

يجد المتابع للأدب والنقد المحليين، في العقدين الأخيرين، أن كثيرًا من الظروف والعوامل قد تغيرت منذ أطلق درويش صرخته تلك، ففي حين كان النقد الأيديولوجي طاغيًا على الدراسات الأدبية النقدية في داخل الـ48 منذ الخمسينات، نجد أن رياحًا جديدة دخلت إلى المناخ الفكري والثقافي منذ أوائل التسعينات وحتى أيامنا، وكان لها دور فاعل في صياغة الحركة النقدية وفي إعادة ترتيب أوراقها.

بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، تحرّرت الثقافة المحلية من سطوة الأيديولوجيا التي كانت رابضة على صدرها وأصبحت في حل من الالتزامات الحزبية الفوقية، وشيئًا فشيئًا بدأت نزعات وتوجهات نقدية بديلة آتية من الغرب ومن مختلف التيارات والمناهج النقدية تشغل مكانها، بعضها كان بالنسبة للغرب في عداد الماضي الدفين الذي أدى الرسالة وبعضها كان في أوج توهجه الفكري وعطائه النقدي. ثم تزامنًا مع هذا، بدأت الصحافة الأدبية الحزبية بالنكوص لتحل مكانها الصحافة الأدبية الصالونية التي فتحت صفحاتها لكل تقليعة نقدية وافدة من الغرب.
والسؤال الذي نطرحه هنا: كيف تم استيعاب المناهج النقدية الغربية في نقدنا العربي والمحلي؟

يكثر الحديث في السنوات الأخيرة عن المناهج النقدية الغربية بوصفها أدوات لا مندوحة عنها في أي حركة ثقافية تتطلع إلى تقييم أدبها أو النهوض به. ويكاد كل ناقد قديم أو مستجد يلهج بأسماء كـ"البنيوية" أو "التفكيكية" باعتبارهما من الموضات النقدية الهامة التي اجتاحت أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين. بيد أن تداول هذه المصطلحات عربيًا ومحليًا ينمّ عن فهم مغلوط لها ولطريقة استخدامها ولآليات تطبيقها.

تبدأ المغالطة من مجرد الركون إلى الاعتقاد أن البنيوية والتفكيكية هما من المناهج النقدية الأدبية التي أنجبها الغرب، ثم تم استدخالهما إلى الثقافة العربية وإلى ثقافتنا المحلية كآليتين نقديتين معمول بهما عند عدد غير قليل من النقاد. والمغالطة بالنسبة للبنيوية أنها ليست منهجًا نقديًا أدبيًا حصريًا، بل ربما وُجدت البنيوية في النقد الأدبي على هامش البنيويات الأخرى التي جرى تطبيقها على مختلف المجالات العلمية والمعرفية: الدراسات الاجتماعية كما عند كلود ليفي شتراوس، قراءة ماركس من جديد (خاصة ماركس الشاب) كما عند ليو ألتوسير، قراءة بنية الثقافة الغربية وبنية تاريخها كما عند ميشيل فوكو، المبنى الفطري للغات عند نوعم تشومسكي، دراسة اللاشعور كما عند جاك لاكان والدراسات النقدية والسميولوجية عند رولان بارت.

وعليه، ليست البنيوية منهجًا أدبيًا فقط، لكنها تقترن وتتماهي في عقول جمهرة من النقاد العرب مع النقد الأدبي إلى درجة الاعتقاد أنها منهج محصور في النقد، وهم بذلك يقصون فروعًا رئيسة من البنيوية كان لها الدور الأفعل في مسيرة الفكر الأوروبي في النصف الثاني من القرن العشرين.
من هنا، حظيت البنيوية بحضور واسع في الدراسات النقدية العربية وغابت تمامًا عن المجالات المعرفية الأخرى، لسبب بسيط هو الجهل بها أولاً، والافتتان بالأدب وبالدراسات النقدية ثانيًا، وفي كلتا الحالتين لا نشفع لحركتنا الثقافية- العربية والمحلية- هذا القصور المعرفي الذي اختزل البنيوية بهذا الشكل المجحف.

إذا كانت مشكلة البنيوية في ثقافتنا العربية والمحلية هي انحسارها في الدراسات النقدية الأدبية، فإن مشكلة التفكيكية أكبر من ذلك، إذ يكاد النقد المحلي يجمع على أن التفكيكية منهج نقدي يمكن تطبيقه على الأدب شأنه في ذلك شأن البنيوية. بيد أن الأمور بخلاف ذلك، فالتفكيكية هي فلسفة وليست منهجًا، وجاك دريدا (أبرز أعلام التفكيكية) هو فيلسوف وليس ناقدًا أدبيًا، وهو في غير تصريح له يؤكد على حقيقة أن التفكيكية فلسفة هدفت إلى تقويض أركان الميتافيزيقا التقليدية التي قامت على تكريس ثنائيات من قبيل: الجوهر والعرض، المركز والهامش، الثابت والمتغير، اليقين والشك، الوجود والغياب.. وأدت- بدعوى العقلانية- إلى إيثار الأول (في كل ثنائية) على الثاني، وأفضت بالتالي إلى تمركز الحضارة الغربية حول ذاتها وحول مفاهيم قامت هي باختلاقها. هدف دريدا إذن هو تفكيك هذه الميتافيزيقا وتفكيك مفاهيم التمركز التي أدخلت الغرب في متاهات من العظمة والأنفة لقرون طويلة.

لم يكن دريدا ناقدًا أدبيًا، بيد أن بعضًا من أفكاره صادفت هوى عند جماعة من النقاد الأمريكيين يعملون في جامعة ييل ممن استعان بالتفكيكية في معالجاتهم للنصوص الأدبية، لا سيما ما يتعلق بمسألة القراءة، وهي مسألة يمنحها دريدا اهتمامًا خاصًا، من باب أن الفلسفة الغربية التي يبغي تفكيكها مصبوبة في قوالب نصية لا يتمّ التواصل معها إلا من خلال القراءة. بيد أن القراءة التي يرمي إليها دريدا هي قراءة مغايرة، قراءة بوسعها كشف المختلف والمغيّب والمهمّش والمستور. هذه التقنية القرائية تطوّرت عند جماعة ييل فنقلتها إلى عالم الأدب وإلى قراءة النصوص الأدبية. وفي نقدنا العربي لا يعرفون من التفكيكية إلا صورتها الأخيرة هذه كما تبلورت عند جماعة ييل، وحتى إن عرفوها في صورتها تلك فبشكل مبتور ومحوّر في غالب الأحيان. ولهذا فإن التواصل العربي مع التفكيكية على هذا النحو جعلها مشوّهة وغريبة عن مزاج القارئ العربي، لا لقصور في التفكيكية وفي فاعليتها النقدية والفكرية، بل لقصور عند من يدّعي امتلاك التفكيكية وإتقانه لممارستها، وإن كنت أستثنى بعضًا من المفكرين العرب ممن مارس التفكيكية فكريًا دون أن يزجّ بها في حقول النقد.

إذا كان هذا حال البنيوية والتفكيكية عربيًا فما هو حالها محليًا؟
تقتات الثقافة العربية من الترجمات العربية- المباشرة وغير المباشرة- لأمّهات الكتب في البنيوية والتفكيكية، أما الثقافة المحلية فتقتات من فتات الترجمات العربية التي تصل إلينا بين الحين والآخر. من هنا، فإن الناقد المحلي لا يعرف البنيوية أو التفكيكية من منابعها الأولى وبلغاتها التي كتبت فيها، وإن عرفها فعبر ترجمات أو أشتات من الترجمات تخطئ المرامي في كثير من الأحيان، ذلك أن اللغة العربية لم تحدَّث كفاية لاستيعاب أفكار وفلسفات حداثية، لا لعجز في العربية وإنما لعجز في القيّمين عليها. فضلاً عن كل ذلك، تشكو ثقافة الناقد المحلي من الانغلاق حول قراءات ومطالعات تقليدية في الأدب والنقد، دون أن يتعداها إلى حقول معرفية أخرى من شأنها إغناء شخصيته النقدية، مثل دراسة الفلسفة التي كانت ولا تزال الأرومة التي ينحدر منها كل مذهب نقدي جديد.

إذا كانت البنيوية منهجًا والتفكيكية فلسفة فهذا يضع كثير من الروابط الساذجة التي يرتئيها البعض بينهما موضع شك، إذ يذهب كثير من النقاد والمنظرين العرب بعفوية ونزق إلى اعتبار الثانية (التفكيكية) هدمًا للأولى (البنيوية)، وعلى الغالب يأتي ذلك من مجرد الربط بين معنيين متناقضين. بيد أن التدقيق يظهر أن التناقض هو في المستوى اللغوي لا في المستوى المفهومي أو الاصطلاحي على ما بيّنا. والمغالطة الأخيرة التي تنجم عن هذا الفهم الخاطئ للفلسفة التفكيكية هي اعتبارها منهجًا وهي ليست كذلك، بل إن أكثر ما حاول دريدا التهرب منه هو الوقوع في مصيدة المنهج، لسبب بسيط هو أن المنهج معناه القولبة والتأطير والتوضيح ووضع الروابط المنطقية، وهي مواصفات مناقضة لروح هذه الفلسفة التي سعت لتفكيك كل ما هوعقلاني ومنطقي.

التعليقات