وإذا الموؤودة سئلت...(10)/ د.إلياس عطا الله

-

وإذا الموؤودة سئلت...(10)/ د.إلياس عطا الله

وأيش طبخت اليوم؟


عن الثقافة والبصل


 


ولم أشكل التاء في "طبخت" بالكسر، درءا لما لا تحمد عاقبته لو رُميتُ بحمل الآراء المسبقة والأفكار المقولبة النمطيّة التنميطيّة المندرجة في باب التخلّف، والمتّكئة على تقسيمة وظيفيّة تميز المرأة من الرجل... وفي الوقت نفسه لن أفتح التاءَ ولن أضمّها، دفعا للمصيبة المترتّبة عن إهانة "الرجولة" التي ينزعها الطبخ... إذ إنّ اللاطبخ من شواهد وأدلّة الرجولة... أو على الأدقّ وظّف الطبخ لمأسسة التميز الجنوسيّ، فأهل الحلّ والربط من ذوي الصيت رجالٌ على الغالب، لا يُسَمَّوْنَ أو يوصفون بكلمات عربيّة مشتقّة من الطبخ، ففي الأمر إهانة وامتهان للمهنة، فهم شيفات بالأجنبيّ المشبرح-1-، واللفظ الأجنبي المشبرح يظلّ أرقى من العربيّ المفصّح في موضوعة الرجولة، وشيفات "بِشَهُّوا"، بعضهم متكرِّشٌ بحكم المهنة، أو دخل في مشروع سيببظّ -2- الكرشُ منه، لهم ساعات محدّدات علىشاشات التلفزة، وبعضهم مسقود-3-، يعلّمون، ويستلّون إجاباتهم من أكمامهم عن أسئلة ربّات البيوت غير الشيفات، ممّن يندرجن في الحاشية أو هامش الثقافة الطبيخيّة، ولكنهنّ العاملات في خليّة العسل الذي تفوح منه روائح الثوم والبصل. ولذا، ومن باب الستر ومشي الحيط الحيط تركتها بلا ضابط، وليقرأها كلّ كما شاء، وكما شاءت له تعريفاته الرجولية أو النسويّة، أو ثقافته الاجتماعيّة، وهذا، إن شئتم، نوع من التّقيّة العصريّة؛ موقف اللاموقف، وثقافة اللاشيء، أو لاشيئيّة الثقافة، والتي يحلو لبعضهم أن يسمّيها تسميات شتّى ليرقى بها وبنفسه، تفزّ أمامنا أحيانا تحت مظلّة الاستقلاليّة، وتنطّ حينا تحت كنف الحياد، ولا يعدم أهل هذه الثقافة القدرة على بهرجتها بمساحيق المصطلحات الفضفاضة المصحوبة بالجعجعة.


هل انتبهتم إلى أنّ الثقافة من أكثر المصطلحات استهلاكا؟ حتى باتت مسلّعة-4- كالخبز  واللبن، تدعمها الحكومات، بضاعة "مسبسدة" تنمو حولها الأحكام والأجسام التي تفوق بعددها البعوضَ الحائمَ فوق المستنقعات، والصّنّة-5-؛ فهنالك المثقّف واللامثقّف، وثمّة وزارات للثّقافة، وجمعيّاتٌ تقوم على الشّأن الثّقافيّ، والثّقافات لا تعدّ ولا تحصى... وأصدقكم القول إنّني لا أعرف معناها ولا مضامينها، وأرجو ألا أفاجئكم بجهلي!    


منذ سنين وأنا أستجدي جوابا من أدعياء الثّقافة وأوصيائها، ولا أجد ما يزيح عن عيني غشاوة، أو ما فيه متكة-6-. أعود إلى المراجع اللغويّة علّ بني ثقيف وحجّاجَهُم المعلّمَ ينتشلونني من سقطتي ولو بإضاءة تنير الطريق، أو برشفة تبلّ الرّيق، فلا أجد إلا جمودا معجميّا محايدا ينشّف الريق، مصابا بالتكرار والشحّ، وكأنّه تتلمذ على بخلاء الجاحظ، فمنذ الخليل حتى المعجمات المعاصرة، لا تخرج الثّقافة عن الحذق والمهارة والفطنة وسرعة التعلّم، وأتجاوز عمدا ما لهذه الكلمة من علاقة بالرِّماح والقتل... ويضيف شيوخنا أنّ الثّقافة قد تُستعمل بمعنى الإدراك تجوّزا. لو أخذنا بما جاء به أصحاب المعاجم، لكان كلّ من حذق في الحدادة أو النجارة مثقّفا، ولكان رونالدو أو رونالدينيو لمهارتهم في كرة القدم مثقفَيْنِ، أو فلنخترع ثقافات أصيلة: مثقّف طبيخ، مثقّف نجارة، مثقّف حدادة، مثقّف كرة قدم، مثقّف خياطة، مثقف لماظة، مثقّف طقّ حنك... وأكملوا، بعدد المهن والعلوم والعبثيّات، ما شئتم.


تعرفون وأعرف أنّ الأمور ليست كذا، فالدلالة قد توسّعت، وتوسّعها هذا هو الّذي ما زلت أبحث عنه، ولقد وجدت من الأيسر لي أن أحدّد غير المثقّف، وما تبقّى سيندرج في جملة المثقفين لا محالة، ومؤخرا، قرأت لسعاد جبر ( موقع عرب 48) عن ثقافة الصمت، وعن أنواع من الثقافات وأصناف من المثقّفين، فهنالك" لوحة ثقافيّة في عالمنا العربيّ"، فيها تشكيلة من "المثقفين"، من مثقفي الشاشات والكامرات الذين لا يفقهون في الثقافة، وفيها " مثقفو الماضي الذين لا يفهمون لغة الواقع"، وإلى يمينهم، أو تحتهم، أو في مكان ما، مثقفو السلطة، وآخرون ثَقِفُوا بيعَ القِيَمِ، وفيها أيضا المثقّفون الحقيقيّون المتنفسّون أو المختنقون في " مستنقع القهر العربيّ"... لوحة تشكيليّة رائعة، تزاوجت فيها الكلاسيكيّة والواقعيّة والسرياليّة والتكعيبيّة، وأضيفوا من هذه "الإيّات" المصدريّة الصناعيّة ما شئتم.


لو أضفت إلى هذه الأنماط من الثقافة المعطوبة، أو "المعطبنة"، بلغة أهلنا، مثقّفين أكثر إيلاما على الصعيد الفرديّ، وأقلّ أذى على الصعيد الجمعيّ، آنيّا، لتوسّعت اللوحة الثقافية الممسوخة، لتحضن مثقّفي الأغلفة، ومثقفي العناوين الرئيسة في الصحف والمجلات ذات الأسماء الطنّانة كالهيرالد تريبيون، والنيويورك تايمز، والإيكونومست، والناشينال جيئوغرافيك، وهآرتس، والجيروسالم بوست، والليموند...، ومثقّفي الأسماء، ومثقفي الصفحات... لوضحت الصورة بعض الشيء، فكثيرا ما يفزرنا-7-، ويطلع على أعصابنا-8-، أولئك الذين يحفظون أسماء بعض الكتب أو المراجع أو الروايات، فإن ودِدْتَ أن تتحدّث في المضامين، وجدت أنّ حذقهم ما تجاوز الغلاف، وبعضهم أخبث ثقافة، وأكثرعطبا، فقد عرف محتويات الكتاب أو بعضها عبر دراسة متأنّية للفهرس، وأتمّ واجباته الثقافيّة الْمُعِينةَ في حلقات اللَّغْوِ والثرثرة، يعرضها على أضرابه من المعطوبين، ويتيه اختيالا وطاووسيّة، وبعضهم، وهم ثالثة الأثافي، كما يقال في فصحانا، يحترف حفظ الأسماء، أو نتفا من جمل أو مقولات، يدأب على حفظ الصفحة التي وردت فيها، مثبتا وسع ثقافته أو عمقها بتحديد السطر، ويوسّع ثقافته أكثر بحفظ سنة الصدور، واسم دار النشر، وما عليك إلا أن تسأله، وهو لا ينتظر سؤالك غالبا، لأنّه سيُسيل عليك ثقافته كرجة ميّ-9-.


هذا هو التناذر الثقافيّ، أو المتلازمة الثقافيّة-10-... والتسرير، لوجه الله والوطن.


 


وأعود إلى الطبخة قبل أن تكون قد شاطت-11-، فقد نسيت بعد أن شرّقت وغرّبت، أنّ المطلوب هو تحويس-12- الملوخيّة والبصلات، لا حرقها... وبعدها لا بدّ "حتاكل صوابعك وراها"... لطعمها الزكيّ، أو... من ندم... وكانت الثانية من نصيبي، فبقيت مع بصلي الذي شاط، ومع ثقافتي الشيطانيّة... ولم أهتد بعد إلى معناها.


 


-1- يحمّل أهلنا الكلمة معنى المبين المفصح، وأحيانا دلالة الكلام المسفّ الّذي لا يقال عادة، هو حديث حرّ "على المكشوف". الكلمة غير واردة في معاجمنا الفصيحة، ولعلّ أهلنا أخذوها من شرّح، بفك الإدغام في الراء، وإحلال الباء بديلا للراء الأولى، وهذا النهج له في الفصيح نظائر عديدة.


-2- يلفظها أهلنا بقلب الظاء زايا مفخّمة. الكلمة فصيحة: بظّ فلان وأبظّ: سمن.


-3- بمعنى الهزيل النحيف. من الأثل الفصيح: سقَدَ فرسه وأسقده: جعله ضامرا.


-4- التسليع: التعامل مع الأشياء كالسلعة.


-5- الصنّة: الصُّنان والصُّنّة ذفر الإبط، والذّفر النتن وحدّة الرائحة، والصنّة هنا الماء ذو الرائحة النتنة، وليس بالضرورة أن تكون مأخوذة عن الماء الآسن. والذفر هذه، والتي قد ترِدُ بالدّال في الفصيحة، نكثر من استعمالها في محكيّتنا بقلب الذّال زايا، فنقول : زفر بالمعنى نفسه.


-6- المتكة: نستعملها بفتح الميم والتاء، وكسر الكاف، ونعني بها الفائدة والحلاوة والمتعة، ونحن بهذا نتّكئ على دلالتها الأصليّة، مظهرين ثقافة جنسيّة واسعة- نوع إضافي للثقافة، وأدع لكم التقرير في كونها معطوبة أو سويّة-، فالمُتْكة مرتبطة بعضوي الذكورة والأنوثة، وهي عرق باطن الذَّكَر عند الرجل، وبظر المرأة.


-7- الفعل فصيح، ودلالته العاميّة والفصيحة واحدة.


-8- نوع جديد من العبرنة الغازية، ترجمة حرفيّة لـ: עולה על העצבים.


-9- أي يذكر ما حفظ بسرعة وبشكل متدفّق كالماء. لم تورد المعجمات القديمة كرج يكرج بالمعنى الشائع عندنا: تدحرج، تدفّق، قال المادّة غيبا وبسرعة، أورد صاحب محيط المحيط كرج بمعنى تدحرج، مشيرا إلى كونها من كلام العامّة.


-10- التّناذر والمتلازمة هما المصطلحان العلميّان المقابلان للإنجليزيّ syndrome، وللعبريّ: תסמונת.


-11- التحويس: قلي الخضار أو اللحمة مع شي من الزيت لمدّة قصيرة. والكلمة فصيحة أصلا ودلالة، رغم تعرّضها للتوسيع الدّلالي: حاس حيسًا: خلطَ. الحيسُ: تمرٌ يخلَطُ بسمنٍ وأقِطٍ ويعجن.


 

التعليقات