وإذا الموؤودة سئلت...(18)/د.إلياس عطا الله

-

وإذا الموؤودة سئلت...(18)/د.إلياس عطا الله

ما في الذّاكرة من الموؤودات... قبيل وأد الوالدة


 


 


 


هذه هي الحلقة قبل الأخيرة من زاوية " وإذا الموؤودة سئلت"، حيث سأتناول، بعد الانتهاء من مراسيم الدّفن، وقراءة الفاتحة وصلوات خميس الأموات، وبعد القعود حدادا أربعين يومًا، جوانب أخرى من لغتنا العربية وعلومها... لا أترك الموؤودات بفَرَحِ من أنْجَزَ، ولا بِتَرَحِ من دفَنَ، فالموضوعة تتطلّب ألفَ حلقة وحلقة... بل تتطلّب العمرَ كلّه، وما تبقّى من الموؤودات اللاتي يرزحْنَ تحت غبار ألسنتنا، أو في كروش معجماتنا، ستكون لهنّ محاولةُ إحياء في كتاب سيجمعهنّ- إن لم  أوأد- في وقت قريب، لا من باب النزول عند رغبة الأحبّة القرّاء فحسب، بل من باب الواجب تجاه من أخشى أن تلحق بهنّ والدتهنّ ستّ الحبايب... العربيّة.


ولأنّني اتّخذت قرارا كهذا، مزمعا على الرحيل عن هذه الموضوعة، سأعمل وفق حكمة أهلنا: يا رايح كثّر من القبايح/ الملايح، ولذا سنشرّق ونغرّب هذه المرّة بين مفردات قد يربط بينها رابط، ومفردات سيظهر إيرادها نوعًا من الحشو والإقحام، فتحمّلونا بالله عليكم، راجيا من بعض الإخوة من القرّاء ألاّ يبدوا إعجابهم بالزاوية في حضوري: " والله بتجنّن الحلقة الأخيرة... دايمًا أنا بقرا الْمُوأَدِه اللي في فصل المقال"... يقولها من يقولها، وأتحمّل المحبّة الممزوجة بعدم المعرفة غالبًا، إلا إن كان صاحبُ الإعجاب المتابعُ للزاوية مُدَلْقطًا في العلوم الإسلاميّة!! ولأنّني سمعتها من قارئ هذه شهادته وأكاديميّته، و"مسلم كمان" أشفقتُ على القرآن الكريم، وعلى معجز آياته، من عصر تخصخص فيه التّخصّص، أو تَعَمْعَمَ، في منأى عن عمامة علمائنا من شيوخ الدين الذين تتلمذنا على مصنّفاتهم، وغرفنا من بحر علومهم. وهكذا بجرّة غباء، تصبح الموؤودة التي سألتْ بأيّ ذنبٍ قُتِلَتْ، موأدة( موقدة) وقودها جهلٌ، تُشْوَى عليها اللحومُ، وأشوى أنا فيها أضلاعا أو شرائحَ أو فرضاتٍ مشكوكاتٍ مع بعض " قنانير" البصل... هذا هو العلم القاتل، أو العشق القاتل.


 


بين الْحِنْكَةِ والْحَنَكِ


 


من الحكمة أن تجمع لغتُنا، فصيحةً كانت أو محكيّة، بين الخبرة والعمر، ومن هنا أخذوا الحنكة منَ الحنَك، والخبرةُ لها علاقة بالحنك وبالأسنان، ونموّ هذه الأسنان، واكتمالها، وتساقطها من كبر، فمنذ أن تشقَّ السّنُّ الغضيبةُ اللثةَ، وتسمّى سنّ العقل أو سنّ الْحِلْمِ    ( أو ضرس العقل/ الحلم)، يشيرون تلميحا وتصريحا إلى أنّ صاحبها قد بَلَغَ وبدأ يعقل ما حوله، وتكتمل عدّةُ الأسنان، ويستقيم العقل... ونكبر متقدّمين في العمر، ويكون العقل كسنّ العقل أكثرَ ما يؤلم صاحبَه. ومن باب التعبير عن الخبرة والمعرفة والحنكة، يقولون: "فلان منيَّب"،وكأنّ الأنيابَ أو النّابين دليلٌ علميّ على الأمر، فإذا ما أرادَ أحدُهم أن يعبّر هو نفسُه عن خبرته بهذه الدّنيا وألاعيبها وخباياها، يسرع إلى إعطائك الدليلَ القاطع:    " يا زلمي كتّوا/ تقلّعوا سنانّا"، أو فاغرًا فمَه أمامك- نظيفا كان الفم أم غيرَ نظيف، ليست هذه قضيّة- مشيرًا إلى موطنٍ هجَرَهُ نابُهُ قائلا: " يا أخي، هَه، تقلعوا نيابنا"، فيقنعك، إمّا من منطقِ ما أتى به، أو هربًا منك من الحفرة التي انفغرت أمامك، فتكشّفت عمّا لم يتغزّل به الوأواءُ الدّمشقيُّ " يومٍ نوى عَ الرّحيل" مخبرًا محبوبته التي بكتْ من حزن لفراقه، قال:


 


وأمطرَتْ لؤلؤًا من نرجسٍ وسقَتْ     وَرْدًا وعضّتْ على العُنّابِ بالْبَرَدِ 


 


وتعبير أهلنا عن الخبرة بالنّاب ومشتقّاته، يعتمد على الفصاحة العربية، وعلى تضلّعٍ من علوم الأعضاء والنّفس والمجتمعيّة، فعربيّتنا الفصيحة وصفت ذا الخبرة بأنّه " مُضَرَّس"، وهي مشتقّة من الضّرس، ويقولون: فلان مضرّس، أو ضرّسته الحروبُ أو الأمور: أي أحكمَتْه فجعلته مجرّبًا عارفًا، وقد نسمعها من أهلنا أيضا، شأنها شأن المنيَّب، ويقولون في فصحانا، وبالدّلالة نفسها: " مُنَجَّذٌ" المشتقّة من النّاجذين أو النّواجذ، والنّاجذُ هو النّابُ، أو هو الضّرسُ الصغيرُ الواقع بينَ النّابِ وسائر الأضراس، أو هو أقصى الأضراس أي ما نسمّيه ضرسَ العقل- على خلافٍ بين المعجمات العربيّة- فالمنجَِّذ عندهم المجرّب المحنّك العارف بالأمور.


وربط الحنك والتجربة بالأسنان بأنواعها، خاصّة النّاب وما يليه، متعلّق أيضا بالوظيفة الطعاميّة، فهذه الأسنان هي التي تقطّع وتمزّق وتطحن، شأنها شأن الدّنيا في علاقتها بمن فيها من الأحياء وغير الأحياء... وكلّما عجزنا، تمثّل ذلك بقلّة أسناننا وتساقطها- ولا شأن لنا هنا بأطبّاء الأسنان وما يزرعون-، والنّاب أكثرُ هذه الأسنان خطرًا، لأنّهُ الممزِّق


العاضُّ المقطِّع، وتحضرني، بسياق أو دون سياق، إجابة الهجَّاءِ المزمنِ، جرير، لابنه يوم سأله: " يا أبتِ أنتَ أشعرُ أم الأخطلُ"؟ فقال: " يا بُنَيَّ! أدركْتُ الأخطلَ وله نابٌ واحدٌ، ولو أدركتُه ولهُ نابٌ أخرُ لأكلني به".


أمّا " هَهْ" المشيرة إلى موطن النّاب المهجور، فهي هنا اسم إشارة، أو كلمة تنبيه وتحذير، والتحذير أصحّ وأفصحُ، ونحن نستعملها كثيرًا خاتمين بها جملنا من أمثال: دير بالك هَه، تنساشْ هَه، اسحَكْ/ اصحك هَه... وما إليها ممّا يندرج في هذه الأسلوبيّة، وقد نمدّها واضعين ألفا بين الهاءين" هاه"  ولا بأس في أن نستعملها في الفصيح وللدّلالة التحذيريّة نفسها، إلا إذا كنّا فوق فصاحة فصحاء العرب. أوردت معجماتنا اللفظة بالشكلين جاعلة " هَه" تذكّرا وتحذيرًا، وجاعلة " هاه" تحمل وعيدًا... أمّا أنا فسأقول " ها" و"هاه"، فصيحتين أيضا، بدلا من " آه"، مثقلةً بالتّوجّع من حالنا وحال العربيّة بيننا.


 


سَفَقُهْ كَفّ ثَوَلُهُ


 


ولا جناح عليكَ إن عوّضتَ بدلا من "سفق" أفعالا أخرى من معجم الضّرب العربيّ، ولك أيضا أن تغيّر في آثار عدوان هذه الكفّ، فتقول مثلا: " جابله الدَّوَرْ"  وما شابهها ممّا تجود به كفُّك وقريحتك. ومهما يكن من أمر ثراء العربيّة الضّربيّ، فـ " ثَوَل" هذه التي يستعملها أهلنا، مرقّقين الثاء تاءً أحيانًا " تَوَلُه"، كلمة من أصل فصيح " ثول"، يستعملونها على " التصحيح"، أي دون إجراء الإعلال، فالثولُ: الجنونُ والحمقُ، والأثولُ الأحمقُ، ويقولون: ثالَ فلانٌ يثولُ، أي فقدَ حكمتَه وقدرتَه العقليّة، ناهيك عن أنّ الثّولَ تحمل دلالةَ استرخاءِ الأعضاء في الحيوان، كما أضاف سيبويه وابن سيده، وكما أوردتِ المعجمات، ومنهم من جعل الاسترخاءَ التواءً في العنق. أعرفتم الآن الشحناتِ الدّلايّةَ التي تحملها "ثول" من هذه الكفِّ التي أطارتِ العقلَ ولوتِ العنقَ وجابت الدّوَر... ما أفصح عاميّتنا! وما أجهلنا! وأنا... أوّل الجَهَلة.


 


ولنا بإذنه لقاءات.


 

التعليقات