وإذا الموؤودة سئلت... (3) / د. الياس عطالله

-

وإذا الموؤودة سئلت... (3) / د. الياس عطالله
هذا ما يقوله «النّقّادُ» من أهلنا في وصف جهد لا فائدة منه، أو في التظاهر الصاخب عبثا، أو في من يمارس عملا لا ثمر فيه؛ ضجيج فارغ عاقر، أو إبراقٌ وإرعادٌ بلا مطر...

ولا يختلف قول أهلنا هذا عن المقولة الفصيحة التي أرسلها أبو العلاء المعرّي، كما يروي ابن خلّكان في وفيات الأعيان، واصفا شعر ابن هانئ الأندلسي، بعد أن شبّه بعضهم شعره بشعر المتنبي عملاق الشعر العربي، وأستاذ المعريّ الأثير، قال: « ما أشبّهه إلا برحى تطحن قرونا»، ولا يختلف هذا عن مثلنا الفصيح:» أسمع جعجعة ولا أرى طحنا»... كما أوردَتْه خوابي أدبِنا المعتَّقِ على لسان الأصمعيّ.

وأترك قضيّة الموازنة بين هذه الأقوال للقارئ، لأعود إلى «الفاروعة» وهي الفأس الكبيرة التي يُحتطَبُ بها، ولقد ولّدها أهلنا دون استئذان من الخليل أو ابن منظور، أو أيّ من مجامع اللغة العربيّة، معتمدين على الجذر الفصيح «فرع» متعدّد الدّلالات، ومنها الفرع الّذي هو الغصن من الشجر، ومنها فَرَعَ وافْتَرَعَ بمعنى شقّ وفضّ وفرّقَ، ومنه خصّوا النكاح الأوّل المصحوب بفضّ البكارة بالافتراع. وللفاروعة هذه أخوات فصيحات، تعنينا منها اثنتان؛ الكَِرزِنُ ( بفتح الكاف وكسرها وكسر الزاي) وهو الفأس الكبيرة ذات الرأس الواحد، وهو المِطرقةُ أيضا، والفِطّيس، وهو الفأس الضّخمة أو المطرقة العظيمة... ولست بصدد التعقيد في المفردات، إذ إنّني أوردت هاتين اللفظتين عمدا؛ أوَلا تُغْنِينا الكَِرزِنُ هذه عن مثيلتها العبريّة المندلقة من ألسننا « גרזן "؟ وما بالُنا نستعمل الـ " פטיש " بيُسر وغنجٍ، ونرى غرابة وفظاظةً في الفِطِّيس العربيّة ذات الحسب والنسب؟!

ونكمل رحلتنا النَّوَرِيَّة باحثين عن هذه الأمّة التي وصفتها المصادر بالتّرحال والتّشرّد، وألصقت بها كلّ قبيح، شأنها شأن المستضعفين في الأرض، حتى إنّ صاحب محيط المحيط اجتهد في جعل اسمهم مشتقّا من عبادتهم للنار! ونحار في أصلهم وتسمياتهم، فمنهم من يجعلهم والزطّ شيئا واحدا- ولا أعرف علّة تاريخيّة أو دلاليّة لهذا الربط-، وفي مصر يسمونهم «الغوازي»، ومنّا من يستعمل كلمة الغجر بمعنى النّوَر، ( ولا علاقة لهذه التسمية بالغجر من أعراب منطقة الحولة)، ويسمّيهم «المتحضّرون» gipsies / gypsies قائلين في معاجمهم إنّهم قوم من المنطقة بين الهند والعراق، موصوفون بالترحال والتشرّد، ويكثرون الآن في أوروبا الشرقيّة وغيرها.

تُظهر الأفلامُ المصريّةُ النَّوَر رُحَّلا يستوطنون أراضي الآخرين - دون علاقة بالاستيطان العبريّ-، يتحدّثون العربيّة المصريّة- رغم أنّ لهم لغتهم الخاصّة-، لا يحبّون العمل، يتفنّنون في السّرقة وخفّة اليد والبهلوانيّة، تحترف نساؤهنّ الضرب بالودع( خرز أو حجارة مستديرة، أو قطع من خزف أو عظام، تستعمل تعويذة لدفع عين الحسود أيضا، وقد يجعلونها قلادة للعنق) ولا يرتادون المدارس، ويكثرون في الموالد. واسمهم الغربيّ مشتق من اسم مصر Egypt والتي يُظنُّ أنّ أصلهم منها، وما زال «قبط» مصر يحافظون على اسم بلدهم في اسمهم. أمّا قول أهلنا في شتم فلان بأنه نُورِي أنْدَبُورِي، فيعني أنّه متشرّد حقير لا أصل له ولا فصل، وإن كانت «النّوري» من المستعصيات أصلا ووطنا، فإنّ الأندبوري فارسيّة خالصة من حيث الولادة والدلالة.
ونعتذر من العذول والعديل، ومن صاحب الأغنية.

يستبدّ الغضب بالواحد منا إن نُعِتَ بشيء له علاقة بالحيوانيّة، ولله فينا وفي لغتنا شؤون، نستكينُ ونقبل بكلّ المودّة هذه الحيوانيّةَ المتبوعة بكلمة "ناطق"، وتُزلزَل الأرضُ إن وُصفنا بالحيوان دون هذا النّعت، مع أنّنا والحيوانَ، وأجلّ الله أقداركم جميعا، من مخلوقات الله، وما سمّينا بهذه التّسمية إلا من الحياة التي فينا، وإن كانت كلمة الحيوان قد تعرّضت للانحطاط الدّلاليّ، فإنّنا فعلنا هذا بأيدينا وأقلامنا، أما الله جلّت قدرته، فقد رَقِيَ بالحيوان ليجعل هذا المصدر خاصّا بالحياة العليا:" وإنّ الدّار الآخرة لهي الحيَوَانُ لو كانوا يعلمون" ( العنكبوت: 64)، وأبقى لنا مصطلح الحياة لوصف رحلتنا العسيرة في الدنيا... ونترك المصدر لنبقى مع اسم الذات أو "اسم الجثّة" بمصطلح النّحويّين القدماء، والإحساس بالإهانة وغيابها قضيّة مزاجيّة، فلننظر إلى هذه الحيوانيّة المرضيّ عنها، والأمور عندنا رهن بالمزاجيّة أو بالسّياق، أو على الأدقّ بالمعرفة أو عدمها:

إذا كان الرّجُلان متزوّجين من أختين فهما عديلان، ومن باب التوسّع عدايل، وأصلها من العَدْلِ والعِدْل والعَديل، وكلّها بمعنى المثيل والمكافئ، وعديلُكَ من يعادلك وزْنًا ومقدارا وقيمة، وكان سيبويه قد جعل العديل للمكافئ من الناس، والعَِدل للمكافئ من المتاع. والعَِدل، كما يعرف أهلنا، ومن بقيَ فلاّحا منّا، هو نصف الحمل الّذي يكون على جانبي الدّابة، كالحمار مثلا، وفي العدلين توضع الأمتعة أو الموادّ بشكل متكافئ للتّوازن، ومنه سمّى أهلنا هذين الكيسين المتكافئين "عديلة". جعلنا زوج الأخت عديلا، وقبلنا، رغم اشتقاقها من معجميّة الحمير والبغال، ولم نكتفِ بهذا، إذ أضفنا وصفا آخر للعديل وهو: "شقّة الخرج"، وبلعنا هذه أيضا دون اعتراض، والخُرج من الأوعية، لفظ عربيّ يعني الوعاء، ويعرّفه المعجميّون بأنّه جوالق ذو أوْنَين ( الأوْن: العدل والخرج أو جانبا الخرج يُجعَلُ فيهما الزّاد)... وثانية نستعير من أوعية الدّوابّ ما نصف به بعضًا من أقرب العلاقات بين الناس، ونقبل بكلّ الرّضا والتّرحاب. ولا يقف اقتراضُنا الحيوانيّ عند هذه العلاقة الإنسانيّة فحسب، بل يتعدّاه إلى ما هو أهمّ، فحقيقة أن تكون عديلا أو شقة خرج تفترض أن تكون متزوّجا، وهذه كما لا يخفى عنكم مأخوذة من الزّوج، فهل من حيوانيّة في هذه الزّوج؟

كلمة زوج ( تعني المفرد والمثنّى- هو زوج وهي زوج، وهما زوج وهما زوجان. الفرد الّذي له قرين، ويصفعنا ابن سيده بـِ: زوجا نعالٍ... لا يقال للواحد من الطير زوج... بل يقال للذكر فرد وللأنثى فردة...)، وبكل البساطة والتّسامح تساوينا مع زوج النِّعال والطّيور، وصار الواحد منّا فردا أو فردة، وحمدنا من لا يحمد على مكروه سواه، وزوج التي نقلبها إلى "جوز"، ليست عربيّة خالصة، فهي من السّاميّ المشترك المأخوذ من أثل هندوأوروبيّ قديم وهو jug بمعنى النِّير الذي يربط الثّورين عند الحراثة، انتقل إلى اليونانيّة ( زيوغون) بمعنى زوج ،وكذلك ( زيوغاس) بمعنى الحرّاث، و(زيوغلا) أي النير، العبوديّة، الزواج، الثوران، ومنها اشتقّوا أفعالا تحمل الدلالة نفسها الدائرة في مجال الحراثة وربط الثّورين بالنّير أو جعلهما فدَانًا/ فدَّانا واحدا، واستعيرت الكلمة في العربية، والعبرية זוג، وحافظت اللغات القديمة والحديثة على الدلالة الأصليّة مع انحراف دلاليّ، ففي اللاتينيّة قالوا jugum، واستعملوا في الانجليزيّة السابقة( البادئة ): zyg- zygo لتعطي معنى النّير، والاقتران، والزوجيّ من الأشياء، وفي اللغة نفسها قالوا yoke ومعناها النّير أو الثّوران يربط النّيرُ بينهما، أو رباط الزّواج، حتّى قالوا للقرين yokefellow، وهذه مأخوذة من الإنجليزيّة الوسيطة yok، المأخوذة من الإنجليزيّة القديمة geoc، المأخوذة من اللاتينية، ولعلّ هذه نقلٌ عن yuga السانسكريتيّة.

بهذه البساطة اللغويّة تمّ قراننا لنصبح زوجين مرتبطين مربوطين، كالثّورين يربط النّير بينهما أثناء الحرث، أوَرَأيتم هذا القرانَ المسبغة عليه القدسيّة والمأخوذ من كوننا ثيرانا؟ لا بأس "بثوريّتنا" في هذا السّياق، بل إنّنا نحتفي بها بالعسل والطبول والزّمور، وندعو الأهل والأصدقاء والمعارف، ونقبل التهاني، ونرقص ونثمل، لنقضي بقيّة الحياة، كلانا، نحرث ونشقى كالثيران، وفي أعناقنا ألف نير، وعلى مناكبنا ألف فدّان... فلنفرح بهذه الحيوانيّة، فكلّنا في نهاية المطاف من خلق الله... ومن نَسْجِ الثّورين الزّوجين. أكتب هذا، دون غضب أو إحساس بالمهانة، فهذه هي اللغة، وهذه هي الحقيقة، فعلا ومجازا. ومن وجد منكم مهانة، فليعطّل الحياة، وليُنحِّ عنه الزّوج والنّير والثّور وأوعية الحمير من عدل وخرج... لا أظنّ أحدا فاعلا هذا، فهذه " الحيوانيّة" فرحُ وترحُ حياتنا، وسرّ استمراريّتنا.

التعليقات