وإذا الموؤودة سئلت...(13)/ د. إلياس عطاالله

-

وإذا الموؤودة سئلت...(13)/ د. إلياس عطاالله

الكتابةُ تحتَ القصف


سيرة ذاتيّة قصيرة جدّا جدّا


 


أطلّ عليكم من جديد، مقتحما هدأتَكم بعوالم الأدب، مخترعا جنسا أدبيّا جديدا؛ الزّمان: عشيّة عيد الصليب الغربيّ.


المكان: حيفا.


النشاط أو العقدة: عليّ أن أكتب زاويتي الأسبوعيّة لفصل المقال.


البطل: كلّ المؤمنين الباقين في هذا الوطن.


النّهاية: عند علاّم الغيب.


الله لا يحطّ أحدا مطرحي. أحاول أن ألملم نفسي، فأزرّ عينيّ-1- وأعصرُ جبينيَّ، علّني أفْلِحُ في الانقطاع عمّا يدور حولي. سدًى ما أحاول، مفرقعاتٌ وقذائفُ      تنقّزُني-2-... أتوقّف، معلّلا النّفس بأنهم سيتوقّفون، ويُخَيّلُ لي أنّ الصّمت قد ران، فأسرع إلى الحاسوب، وقبل أن أكتب حرفا، أجفلُ-3- من صَلْيَةٍ تأتيني من البلدة "التّحتا"، تتلوها ثانية من منطقة الكرمل، وثالثة من الهدار... وتوّقفت عن العدّ، وها أنا ملطوع  -4- أمام الحاسوب منذ الخامسة بعد الظهر، والساعة الآن التاسعة مساء، ولم أخطّ إلا ما قرأتم.


غلّقت الأبواب وغلّقت النّوافذ، ثمّ غلّقت الستائر، وقلت للشّهيّة التي ما خانتني يوما: هيتَ لكِ... ولم تكتمل صفنتي ولا مناجاتي، وكأنّ بغداد تحيّفت أو أحيَفَتْ-5-، هاربةً  من حيف إلى حيفا. " ما حلّ حيفٌ فيكِ يا حيفا" هكذا تعلّمنا كذبا في الابتدائيّة يوم تغنّى الشاعر بحيفا العبريّة المتعمشقة على أهداب الكرمل، المتعربشة على القباب القدسيّة من الشطّ حتى المحرقة... وظلّت معركة الصليب النّائي عن الوادي إبراقا يؤذن بإرعاد، والقصف يتطاير زخّات زخّات، إنّها معركة التحرير السنويّة قد عادت. قلت في سرّي: أرْجِئِ الكتابة! وكلمح البصر ارتأيت أن ألجأ إلى بيتي في كفر ياسيف، وضحكت من غبائي لمّا تذكّرت أنّ الاحتفالات هناك أكثر جدّيّة و" قدسيّة"، فالمؤمنون مدجّجون بالأسلحة الثقيلة، تدعمها مدفعيّة إخواننا البَوَاسنة.


وأرجأت الكتابة. حملت صليبي علىكتفيّ، وتمسمرتُ أمام المرناة لألعق جراحي ثانية، بانبعاج ريال مدريد ثلاثا.


أحبّ حيفا غير متبغددة، وأحب بغداد غير متحيّفة ولا حافية، وأحبّ الأعياد ينتشي لها الأطفال... ولكن، ويل لنا نحن الكبار، كم نفسد ونعربد ونصخب! ومواسم الصخب كثيرة... تتغيّر الأديان والطقس واحد... أفما لهذا الليل من آخر؟!


 


توزيعة رجّاليّة كلاسيكيّة


 


والرِّجّالي هذه، إبداعةٌ لأهلنا في محكيّتهم، صيغت على وزن الستّاتي، ثمّ تولّدت  الوَلاّدي والبَنَّاتي... وهي على الغالب، من مصطلحيّة الثياب بأنواعها، يوم كان هنالك تمييز بين الرِّجّالي والستّاتي، والوَلاّدي والبنّاتي، أمّا وقد ذابت الفروق أو كادت، على الأقل في هجمة الأنوثة على ممتلكات الذكورة، فلا بأس في أن أنقل هذه التوزيعة الرجّالية العربيّة الكلاسيكيّة، خاصّة بعد أن أفردتُ للنساء مساحات في هذه الزاوية، ومنهنّ من فرحن، ومنهنّ من غضبن، رغم وضوح موقفي في كلّ ما ذكرته.


تروي بعضُ كتب الأخبار واللغة، تقسيمة لصفات الذكر، منذ ولادته حتى لحظة ارتحاله، موزّعة حسب العقود، وفيها اختار المبدع السّمة الأكثر أهميّة لينسبها إلى العقد، قالوا، لا فضّ الله لهم فمًا:


 


" ابنُ عَشْرٍ لعّابٌ بالقُِلين-6-. وابنُ عشرينَ باغي نِسين-7-. ابنُ الثلاثينَ أسعى السّاعين-8-. ابنُ الأربعينَ أبطشُ الباطشين. ابنُ الخمسين ليثُ عِفِرّينَ-9-. ابنُ السّتّينَ مؤنسُ الجليسين. ابنُ السّبعينَ أحكمُ الحاكمين. ابنُ الثّمانينَ أسرعُ الحاسبين -10-.       ابنُ التّسعين واحدُ الأرْذَلِين-11-. وابنُ المئةِ لا إنسٌ ولا جِنِّين، وقال ابنُ الأعرابيّ: أضرَطُ ضَارِطين" . نقلٌ حرفيّ عن ابن سيدة: المخصّص: 1: 46.


وبين لهو وجلبة في العقد الأوّل، ولَغْوٍ وجلبة من نوع آخر في العقدين الأخيرين، ينقضي العمر. وإن كنت سألقي إضاءات على اللغة، فإنّني أترك لعلماء المجتمعيّة أن يخلصوا إلى ما يريدون من هذه السّمات الأساسيّة لكلّ عقد وعقد، فلعلّهم يخرجون بنظريّة عن بِنية المجتمع العربيّ، وعن مواصفات الرّجولة من التّقميط-12- حتّى التّقميط-13-.


معذرة إن كنت أسأت، فأنا ابن بيئتي، ولم أقوَ على الخروج من جلدي، والمفرقعات التي سمّمت بدني، كان لا بدّ أن تنعكس هنا بمفرقعات من نوع آخر.


 


1.   زرّ عينيه: ضيّقهما، والكلمة من فصيح العربيّة.


2.   نقزَ الظبيُ: وثب صُعُدًا. ومن المجاز تحميلها معنى الانتفاض في المكان.


3.   جَفَلَ: ومن معانيها: طرد. مضى. طيّر. شرد. ذهبَ. نفَّر. أزعج، واستعمالنا لها إذًا، فصيح.


4.   لطَِع: ضرب بالعصا. ضرب مؤخّرَ الإنسان برِجله. والملطوع على هذا هو المضروب الّذي لا يستطيع حراكا.


5.  تحيّفتْ وأحْيَفَتْ: دخلَتْ إلى حيفا، أو تشبّهت بحيفا. كتبتُهما قياسا على المأثور عن العرب تعبيرًا عن الدخول في الزّمان والمكان، في نحو قولهم: أصْبَحَ، أمْسَى، أظْهَرَ... وتَيَمَّنُوا: اتّجهوا إلى اليمن أو دخلوها. أنْجَدُوا: ذهبوا إلى نجد. تبغددوا: دخلوا إلى بغدادَ، أو تصرّفوا كأهلها- يوم كانت بغداد على حيلها-.


6.   ومفردها قُلَةٌ، والمقلاةُ والقُلة: عُودانِ يلعب بهما الأطفال: فالعُودُ الذي يُضرب به هو المِقلاة، والقُلَة الخشبةُ الصغيرةُ التي تُنْصَبُ وتُضرَبُ. والقَلْوُ: أن ترميَ القلةَ في الجوّ، ثمّ تضربها بمقلاةٍ - خشبة بقدر ذراع-، فإذا وقعتِ القلةُ على الأرض، تضربها بالمقلاة على أحد طرفيها لترتفع، فتضربها بالمقلاة ثانيةً لتعلو في الجوّ... وهكذا. والقلة هذه تجمع على قلين، ملحقةً بجمع المذكّر السالم، كما تجمع سنة على سنين ومئة على مئين، وفئة على فئين...


7.   النسين: النّساء، جمع امرأة، أو هي جمع الجمع للنساء، ومن حيث الصرف لا تختلف عمّا ورد في البند السّابق.


8.   السّاعي: الباحثُ عن العمل. الخارجُ إلى العمل. وسعى سَعْيًا، لا تقال إلاّ في الجادّ الخيّر، أما سَعَى سِعَايَةً، فلا تقال إلا في النّميمة والسّوء والإفساد، أمّا الْمُسَاعاةُ، فقد جعلوها خاصّة بالزّنا والقيادة.


9.   ليثُ عِفِرِّين: الأسد، وسمّي بهذا نسبة إلى مكان يسمّى "عفرّون" أو "عفرّين"، أو لأنّه يعفّر فريسته بالتراب. وإلى الثانية أميل، حيث ورد في أشعارهم اسم المكان: عَثَّر: وذلك عند أكثر من شاعر، وأشهرهم زهير بن أبي سلمى الّذي قال في مدح هرِم بن سنان:


قدْ جعلَ المبتغونَ الخيرَ في هَرِمِ              والسّائلـونَ إلى أبـوابِهِ طُـرُقا


مَنْ يلقَ يومًا على عِلاّتِهِ هرِمًا              يلقَ السّماحةَ مـنه والنَّدى خُلِقا


ليثٌ بِعَثَّرَ يصطادُ الرجالَ إذا               ما اللّيثُ كذّبَ عن أقرانِهِ صدَقا


...


ولم أقف على مصدر يحدّد مكان عَثَّرَ هذه، إلاّ قول بعضهم: عَثْر- بسكون الثاء- بلدٌ باليمن، أمّا عفرّين وعفرّون فاكتفوا بالقول:  اسم موضع.


10.                    لا أظنّ أنّ المقصود هنا هو الدّراية بعلم الحساب، ولذا أميل إلى أنّها تعنى الظنّ ومحاسبة النّفس.


11.                    الأرذل: الدّون من الناس.  ومنه ما جاء في القرآن الكريم: ( قالوا أنؤمن لك واتّبعك الأرذلون) ( الشعراء: 111)، وقوله تعالى: " ومنكم من يُرَدُّ إلى أرذلِ العمرِ...) ( النّحل: 70)، قيل: هو الذي يخرف من الكبر حتّى لا يعقل. وفي الحديث الشّريف: "وأعوذُ بك من أن أرَدَّ إلى أرذلِ العمر"، أي آخره في حال الكبر والعجز.


12.                    التَّقميط: لفُّ الطّفل الوليد بالقِماط، أي شدّ ساقيه ويديه إلى جسده. والتّقميط أيضا هو الجماع.


13.                    التّقميط: في عامّيتنا، تترادف مع الضّراط الّذي وسم به ابن المئة.


 

التعليقات