وإذا الموؤودة سئلت...(15)/د. إلياس عطاالله

-

وإذا الموؤودة سئلت...(15)/د. إلياس عطاالله

فرمشيّة


 


عاد أحمد ابن الخمسطعشر-1- سنة إلى البيت، بعد الموعد الذي حدّدته أمّه، كعادة من هم في سنّه، وكعادة الأمّهات في تحديد المواعيد: "يمّا ما تتعوّق، روّح قبل الغياب".                                                    مع انفتاح الباب، سُمِع صوت بكائه مصحوبا بسيل من الشتائم والبرطمة والتهديد:


-       طيّب. أنا بفرجيه ابن الكلب.


-       مالك يا غضيب؟ مع مين عم تحكي؟


-       مع حالي.


انتظرته أمّه عند مطلع الدّرج، وصرخت حين رأت خطّا من الدّم يسيل قرب حاجبه:


-       حبيبي يمّه! وْقِعِتْ؟


-       أنا بفرجيه لرياض ابن الكلب، فشخني-2-.


-       ظلّك سايب، وهاي نتيجة السيابة والدّوارة مع رياض، أكيد الحقّ عليك، ومَهْمَنْ-3- حكيت، بدّك تكذب وتِمْعَطْ-4-، على كلّ حال، تعال أشوف الفشخ.


كان الجرح خارجيّا، يحتاج إلى التنظيف والتّطهير، ولا حاجة لاستدعاء الطبيب أو نقل أحمد إلى العيادة القريبة. بحثت الأمّ في الخزانة الصغيرة عن شيء من الدّواء أو القطن، فلم تجد شيئا.


-       استنّى، إسّا برجع أبوك، وألله بحلّها، اقعد احكيلي شو اللي صار.


-       تهاوشنا-5-. كنّا نمزح وقَلَبْها جدّ.


-       أكيد كنتو تمزحو مزحكو الجحّاشيّ، مية مرّة قلتلّك بلا مزح، وبعدين شو هالمزح اللي خلاّه يفشخك؟


-       ولا إشي، سبّيت إمّه.


-       ولا إشي! سبّ الإمّ صار مزح عندك، ولو سبّني شو بتعمل حضرتك؟


-       بدعس عَ رقبته. بكرا بكعشو-6-، وبشوف.


-       هذا إذا طْلِعِتْ بكرا برّية البيت، ولسانك الزّفر بدّو قطع. كثرة وَقْشَتَكْ-7- بدّا تخرب بيتنا. طيّب، فزّ تحمّم وحضّر دروسك.


-       يمّا بلاش تقولي لأبوي، وبَوِعْدِكْ مش راح أعيدها.


-       بعرف وعودك يمّا.


عاد الأب. والبيت هادئ على غير العادة، سأل أمّ أحمد:


-       من غير شرّ، وين لولاد؟


-       أحمد في الحمّام، وريم مريضة، عندها شويّة حمّ.


-       وشافها الدّكتور؟


-       عملتِلّها دور لبكرا، نَتْقَتْ-8- حبيبة قلبي، وبطنها بوجعها.


-       من إيش؟


-       لا، بسيطة، شي طبيعي.


-       حمّ، ونتقت، ودور عند الدّكتور، وشي طبيعي... مش فاهم!


-        شي طبيعي، بدهاش شرح، البنت بتكبر يا زلمي.


مرّت الدقائق طويلا، وأحمد أطال مكوثه في الحمّام، واستهجن الأب الأمر.


-       أحمد – قال بصوتٍ عالٍ- شو يابا؟ على علمي حمّامك كان بدّو جاهة-9-، شو هالنظافة النازلة عليك؟ خلّص، وتعال نتعشّى.


-       خلّصت يابا.


جلسوا إلى مائدة الطعام، ولم يفُهْ أحمد بكلمة. يمضغ، ويسترق النّظر إلى أبيه تارة، وإلى أمّه أخرى، وتيقّن من أنّ أمّه لم تحدّث أباه عمّا وقع له.


قالت الأمّ، وهي تضبّ الصحون هي وأحمد، الذي نزلت عليه النّخوة فجأة، عن المائدة:


-       الله يرضى عليك، ناقصنا شويّة غراض من الفرمشيّة.


-       يا مرة إسّا وصلت، وليش ما حكيتي من قبل؟


-       قلت بتتريّح شويّة، وبتوكل، وبعدين بتروح على راحتك.


-       أصيلة.


-       ولو كان معي مصاري-10- كنت ريّحتك، وتناولت اللي ناقص.


-       ووين المصريّات-10- اللي أخذتيهن الصّبح؟


-       يعني وين؟ نزلت وتسوّقت، وما عاد معي ولا شيكل.


-       طيّب، وطلباتك؟


-       بدنا يُودْ وشويّة قطن، وكم حبّة لوجع البطن، وحبوب لتنزيل الحمّ.


-       وغيره؟


-       الله يرضى عليك، تنساش تجيب أقراص للقارص، ودهون للجروح، أكلنا الهسهس الليلة، والبنت جسمها فلّك-11-، ونازلة حكّ، بخاف يوزّم-12- محلّ القرصة.


-       هذا هو؟


-       وضبان أرطوبيدي لكندرة أحمد، قول للفرمشاني إنّه إجْرو فلات-13-،والنّمرة أربعة وأربعين.


سار أبو أحمد نحو الدّرج متّجها إلى الباب، وفي رأسه هذه الطلبات التي لا يربط بينها رابط، وانثنى ليسجّل ما طُلب، فأضافت الأم بهمس:


-       ما تنسى تجيب تَحْبُوشِتْ-14-، وملقط.


-       أولويز ولاّ أولدييز، ولاّ في اختراع جديد؟ وملقط إيش هذا اللي بدّك ايّاه؟


-       ملقط شعر للحواجب-15-. والتحبوشت، الجنس اللي بتلاقيه.


-       بجيب... وألله يجيبك يا طولة الروح.


 


1-            خَمِسْطَعْشَر: والطاء في الكلمة منقلبة عن تاء "خمسة"، وفي بعض لهجاتنا تلفظ التّاء كما هي، ولكنّنا في محكيّتنا ننقل التاء من العدد ونجعلها حرفّا أوّل في الكلمة التالية، نحو: سبعة أرغفة- سبع تُرُغفِه، خمسة أيّام- خمسْ تِيّام، أربعة آلاف- أربعْ تَلاف. والرّاء تثبت في عشر إذا تلاها معدود، وإن لم يتلُها فقد تسقط. أشير إلى أنّ الجمع اللفظيّ بين جزأي العدد المركّب ( من 13 حتى 19)، له رصيد في الفصيح من كلام العرب حين يكون المعدود مذكّرًا، أي حين ينتهي الجزء الأوّل من العدد بالتاء، تِسْعَةَ عَشَرَ كتابًا، فقد توالت خمس حركات: ... عَةَ عَشَرَ، والعرب يخفّفونَ ( أي يُسكِّنونَ) العين في عَشَرَ لقطع هذا التوالي الحركيّ، وحينها تصبح الكلمة مبدوءة بالسّاكن، والعرب لا تبدأ بالسّاكن، ولذا اتّصل الجزآن لفظا وكأنّهما كلمة واحدة تِسْعَتَعْشَرَ... ينظر: الفرّاء، معاني القرآن: 3: 213، في شرح سورة المُدَّثِّر.


2-             فشخ: فلانًا: شجّ رأسه، والعامّة تقلب الفعل الفصيح وهو خشَفَ: خشفتُ رأسَه بالحجر: فَضَخْتُهُ، شجَجْتُهُ.


3-            مَهْمَنْ: ويستعملها بعض أهلنا بدلا من مهما، وهي من مه ومن، وحتى في الفصحى تعطي مهما ومهمن دلالة واحدة، رغم الفرق بين ما ومن، وتعملان اسمين للشرط جازمين، ولقد وردت "مهمن" في أكثر من شاهد، ومنها قول حاتم الطائيّ:


أماويَّ مهمَنْ يستمعْ في صديقِهِ             أقاويلَ هذا النّاسِ، ماويَّ، يندمِ


4-             معط: بمعنى كذبَ ولفّق، والدّلالة مجازيّة مأخوذة من: معط بمعنى مدّ، والمشهور فيها بهذا المعنى مغط، ومن معط بمعنى نتف، فالمعطُ إذًا، لملمة أحداث متفرّقة ممعوطة من هنا وهناك وسكبها في خبر أو حديث.


5-            تهاوشنا: اشتبكنا وتدافعنا، وأصلها من "هوش"، يقالُ: تهوّشوا، هاشوا، هوّشوا: وقعوا في اختلاط واشتبكوا.


6-            كعش: بمعنى أمسك وقبض على، وفصيحه قَعَشَ، وقلب القافِ عينا مأنوسٌ في الفصيحة وفي اللّهجات.


7-            وَقَشَة: الصّوت والحركة، ومنها وصفنا لفلان بأنه وقِش أو كثير وقشة، والكلمة فصيحة.


8-             نتق: أفرغَ ما في معدته، والنّتقُ عامّة يعني الاقتلاعَ والنّفضَ، أو تحريكَ الشيء لسفكِ ورميِ أو قذف ما فيه. ويستعمل أهلنا مفردات أخرى كثيرة لهذه الدّلالة، منها: استفرغ. راجع. قذف. تقيّأ. أمّا قاءَ فليست، على فصاحتها، من استعمال أهلنا.


9-            جاهة: من الجاه، وهو مقلوب وجه، ويعنون بها من له مكانة ومرتبة عالية من عِلْيَةِ القوم.


10-      مصاري، مصريّات: بمعنى المال المتداول. وأصلها من عملة مصريّة، شاع استعمالها منذ مطلع القرن الثامن عشر- أو قبل ذلك-، ثمّ صارت اسما للمال مطلقا، وتجمع جمعا صحيحا على مصريّات، وجمعا غير قياسيّ على مصاري. ولا أعرف علّة لما ذهب إليه أنيس فريحة في معجم الألفاظ العاميّة حين قال إنّ إبراهيم باشا قد أدخلها، دون أن يحدّد من هو إبراهيم باشا هذا، فإن كان يقصد ابن محمّد علي باشا، فالمصريّات سابقة له كعملة في الشام، ويدلّ على هذا ذِكرُها في كتاب يوميّات شاميّة لابن كِنان، وفي كتاب حوادث دمشق اليوميّة للبديري الحلاّق، وفي الأوّل تأريخ للشام من سنة1111هـ، الموافقة لسنة 1699م.، وفي الثاني تأريخ لها من سنة 1154=1741. ويظهر من قائمة الأسعار الواردة في الكتاب الثاني، أنّ قيمة المصريّة كانت زهيدة. وممّا يلفت النظر في الكتاب الأول، منع التدخين في الأماكن العامّة، يقول ابن كنان: " التّدخين ممنوع: وفي يوم الجمعة العاشر، نادى الباشا على التّتِن لا يشربوه في الأسواق"... هذا قبل أن تفطن الدّول المتحضّرة للأمر بزهاء ثلاثة قرون!


11-      فلّك: فَلَكَ وفَلَّكَ: استدار وانتفخ قليلا. استعمال أهلنا فصيح. والكلمة مأخوذة من: فلّكتِ الفتاة، أي استدار ثديُها، وهي مرحلة ما قبل النّهود. ومن الأصل نفسه: الفَلَكُ، وهو مدار النّجوم.


12-      وزّم: أي انتفخ وامتلأ، والفعل فصيح، ويعني اكتناز اللحم، واشتداد العضل. وربطها مع "أزم" مقبول صرفًا ودلالة.


13-      فْلاتْ: flat foot، ويقابلها بالعربيّة: القَدَمُ الفطحاء، وهي القدم المنبطحة على الأرض ببطنها، لا أخمَصَ فيها.


14-      تَحْبُوشِتْ: תחבושת، ويقابلها بالعربيّة: الوَفِيعَةُ، الثَّمَلَةُ، الرَّبَذَةُ، الفِرامةُ، المَفارمُ... وكلّها تعني خرقةَ الحيضِ، وآنَ لنا أن نحييَ كلماتنا المماتة هذه، فكلّها أيسر وأخفّ من هذا الدّخيل العبريّ.


15-      ملقط حواجب: وهو ما يُنتَفُ به شعر الحاجبين، وعربيُّهُ الفصيح: المِنْتَاُشُ، أمّا ما يُنْزَع به الشّوك فهو: المِنْتَاخُ. أمّا المِلقط فكلمة عامّة، وفي عربيّتنا غنًى لا نتصوّره، فهنالك أسماء للأشياء بتفاصيلها... أمّا في عربيّة الجنوب في اليمن، فقد جعلوا انتزاع الشعر: النَّتْك، أذكرُها، وأترًُكُ أمرَ تصريفها وما يُشتَقُّ منها، راجيا السّتر لي ولكم.


 

التعليقات