وإذا الموؤودة سئلت...(16)/ د. إلياس عطاالله

-

وإذا الموؤودة سئلت...(16)/ د. إلياس عطاالله
.

ما تردّدت- وأنا مزمع على الكتابة- بقدر ما أًصابني هذه المرّة، رغم بساطة المضمون واللغة معا، والقصّة وما فيها أنّني خفت من " أغانينا " الواردة في العنوان، بتركيبها الإضافيّ جرّاء هذه الـ " نا" المتمترسة الراسخة التي قد يحتجّ أبناء الجيل الصاعد الواعد على وقاحتي في لَمِّ شملهم تحت مظلّتها، ومن " أغاني"، التي قد لا تقول شيئا، أو قد تُنزع منها سمةُ الغناء في عصر الحسناوات خَلقًا أو ترقيعا، حتى راودتني نفسي للحظة بالفرح من كشف " عظيم" بأنّني أكتب فعلا عن موؤودات حقيقيّات : الأغنية والمفردة. فليفرح أبناء جيلي والمقاربون منه، وذوّاقو الغناء القديم، وليعذرني بقيّة المنفتحين على الغناء التكنولوجي الفضائيّاتيّ.


 


1- بالتّبرِ لَمْ بِعْتُكُمْ، بِالتّبْنِ بِعْتُونِي


 


هذا ما يشدو به محمّد عبد الوهّاب في موّالٍ قديم، والوعاء العامّيّ الذي يحضن وجدانيّة الكاتب والمطرب، رائع، ولكنّه عاميّ! ولو كان من مستوى لغويّ آخر، لوجدتَ أهلَ البلاغة يتهافتون عليه شارحين جماليّةَ التّجنيسِ النّاقصِ الماسِّ للطّباق بين التّبر والتّبن، ولوجدتَ أهلَ المعاني يصولون ويجولون في الحديث عن جدليّة التّبن والتّبر، والصّداقة، والحبّ أحاديّ الفاعل، أو أحاديِّ المُصاب... ولأنّني لست لاعبا في ملعبهم الآن، أكتفي بالإشارة إلى هذه الـ" لَمْ" السّابقة للفعل الماضي، وعهدُنا بها حرفَ نفيٍ جازمًا يسبق المضارع ويعيّنه للمضيّ، أي ينقل معناه من الحاضر إلى الماضي.


كانت "لم" هذه شائعة الاستعمال في عامّيّاتنا مع الفعل الماضي، وخاصّة في العامّيّة المصريّة، وليس موّال عبد الوهّاب نموذجا وحيدا في الغناء العامّيّ المصريّ القديم الذي يجمع بين لم والفعل الماضي، ففي الكثير من الطقاطيق والمواويل نصادف هذا التزاوج، ومنه طقطوقة لمنيرة المهديّة:


أسمر ملك روحي       ياحبيبي تعال بالعجل


( دور)


مسافر على فين وواخد مهجتي ويّاك


لو كنت تعلم بحالي لاخدتني ويّاك


شعبان ورمضان وشهر العيد لم شفناك


والله إن سَلَتَكْ عيوني أنا قلبي لم يسلاك


وفي طقطوقة للشيخ سيّد درويش يقول:


بطّلوا ده واسمعوا ده            دا اللي شاب تقلان عليّا


( أدوار)


ليه بتتقل ليه يا شايبْ          وانتَ لكْ في الحبِّ نايِبْ


كان زمان تعشق وتبلف        وعهود الحبّ تخلف


والزّمان لم عاد بينصف         برضه شاب وتقلان عليّا


ولأنّني لا أطمح إلى الخوض في الغناء والموسيقا، أشير إلى أنّ "لَمْ" الرّاسخة في الجوازم، غير المنفكّة عن المضارع في قواعد الفصيحة، عدّها بعضهم حرفا للنفي مطلقا، أي أجاز دخولها على الفعل الماضي، وقد تكون الظاهرة لهجاتيّة قديمة، وعليه رأينا المراديّ في كتاب الجنى الدّاني في حروف المعاني يذكر في باب لم: "... وذهب قومٌ، ومنهم الجَزوليّ إلى أنّها تدخل على ماضي اللفظِ، فتصرف لفظه إلى المبهم، دون معناه، ونسبه إلى سيبويه...".


ومهما يكن من أمر، فإنّني أنصح القراء بعدم فكِّ الارتباط بين لم والمضارع، آخذين بالحسبان متانة علاقة محكيّاتنا ببعض اللهجات وببعض اجتهادات كبار النّحويّين.


 


 


 


 


2- على قدِّ الشّوق اللي في عيوني


 


وهي إحدى أغاني عبد الحليم حافظ الخالدة، إذ إنّها تأشيرة عبور للأصوات الجديدة في إطلالاتها الأولى على جمهور الفضائيّات وروّاد الحفلات، وذلك في فترة ما قبل الأوتونوميا أو النّجوميّة... يظهرون بطلّتهم الغربيّة المشفوعة بالزّي الأمريكيّ الشّوارعي، أو بقدودهنّ الميّاسة المغناج، ويتغنَّوْن أو يتغنّيْن بهذه الأغنية، ويستيقظ الْمَيْتُلْحَيُّ عبد الحليم حافظ، فيثيرون الجمهور ويرسّخون حضورهم بعدها بـ: أسمر يا اسمراني، أو أهواك... أو بأغنية لليلى مراد ( أطلب عينيّ، أو، ليه خلّيتني أحبّك، أو أنا قلبي دليلي، مثلا)، أو لأسمهان     ( ليالي الأنس، أو، يا حبيبي تعال الحقني شوف اللي جرى لي...)، وما إن " تلحق" وتتعاطف معهم/ معهنّ وتحبّ أصواتهم/ نّ، يطلعون عليك، ليُطلعوا روحك بفيديو كليب من إبداعهم وبَصْمَتِهم.


ما علينا! ونعود إلى لغتنا، فـ القدّ الواردة في الأغنية فصيحة بمعنى القَدْر، ولا غبار عليها، فأحْيوها بحقّ هذا الشهر الفضيل!


 


3- كان يوم حبّك أجمل صدفة


 


وظلت " صدفة" هذه من المحرّمات السّاقطات المنزوعات من ثياب الفصاحة... والسبب؟ لم تُسمَع عن أعرابيّ فصيح في عصور الاحتجاج، أي عصور الفصاحة، ولذا ترفّعَ عنها أصحاب المعجمات، ولم تدخل إلاّ في معجم عبد الحليم حافظ، وبعض الكتّاب المعاصرين، وأكاد أكون متيقّنا من أنّهم لو عرفوا أنها غير فصيحة لوأدوها ولفظوها من كتاباتهم، وحسنا يفعل الجهل أحيانًا! فإلحاحهم عل استعمالها، أي استمراريّة جهلهم، وضع مجمع اللغة العربيّة في القاهرة تحت الأمر الواقع بضغط من الرّأي العام-  والمجامع هي الأجسام العربيّة الوحيدة التي تحسب للرأي العام حسابا-، فأجازها فصيحة، ورخّص باستعمالها إلى جانب أختها "مصادفة"، وذلك في دورته الخامسة والأربعين سنة 1979م.، مظهرًا رحابةَ صدر في جعلها اسمًا للمصدر، أو في جعلها مصدرًا  مبتدعًا للفعل صَدِفَ... وثانية، ليت المجمع أنموذج للأجسام العربيّة... فقد قبل القرار بالإجماع.


 


4- هوَّ صحيح الهوى غلاّب 


في محكيّاتنا سيادة لضمير المفرد الغائب "هو" بتشديد الواو وفتحها أو كسرها: هُوَّ- هُوِّ، أو جعلها ساكنة: هُوْ، خلافا لصيغتها الفصيحة المحرّكة فيها الواو بالفتحة: هُوَ.        وهُوَّ على الغالب ليست شاميّة فلسطينيّة، إذ إنّنا نميل إلى كسر الواو المشدّدة أو إلى التسكين، أما في مصر فللواو المشدّد المفتوحة سيادة، وما أوردناه في " هو" ينسحب على "هي"... فهل لما يتردّد علىألسنة العامّة من الأشكال الثلاثة رصيدٌ في الفصيح أو في اللهجات العربيّة المأثورة؟


تسكين الواو مطّرد قياسا في حالة الوقف، وفي بعض اللهجات تسكّن الواو في " هو" والياء في " هي" دون وقف، وقد يكون ذلك من ضرائر الشعر، ولكنّ ضرائر الشعر ترخيصاتٌ فوق لهجاتيّة وفوق قبليّة، ولذا لا نميل إلى إقحام ما رُخِّصَ للشعراء هنا، وتسكينهما فاشٍ في لغة قيسٍ وأسدٍ، ومنه قول الشاعر  ( من الطّويل):


وركضتُ لولا هُوْ لقيتَ الذي لقُوا            فأصبحتَ قد جاوزتَ قومًا أعاديا


والبيت منسوب لعَبيد بن الأبرص.


وقول أحدهم ( من الخفيف):


إنّ سلمى هيَ الّتي لو تراءَت           حبّذا هِيْ من خُلّةٍ لو تُحابي


أمّا تشديد الواو بالفتح فشائع في لغة همدان، كما قال أحدهم ( من الطويل):


وإنّ لساني شهدةٌ يشتَفى بها            وهُوَّ على مَنْ صبَّه الله علقمُ


وكذلك، يورِدون شاهدا على تشديد الياء، غيرَ منسوب ( من البسيط):


والنّفسُ إذا دُعِيَتْ بالعُنفِ آبيةٌ         وهِيَّ ما أمِرَتْ باللُّطفِ تأتمِرِ


فإن كنّا وجدنا شفيعًا في الفصيح، وفي لهجات العرب للتسكين وللتشديد مع الفتح، فإنّ لهجتنا المشدِّدة للواو والياء مع الكسرة، هي استمرار لمحبّتنا لظاهرة الكسر، الذي نميل إليه بديلا عن السّكون والضّمّ والفتح، الأمر الذي يدحض مقولة الفصحاء حول كون الكسرة أثقل الحركات، فلوكانت ثقيلة فعلا لكنّا تجنّبناها في محكيّتنا.


 


 ولنا مع مفردات أخرى من أغانينا لقاء. ولي إلى واضعي برامج التّدريس ونصوصها اقتراح: ما رأيكم أن نعلّم العربيّة عبر الغناء الرائج، تاركينَ الشّواهد جانبا، ولو من باب التجربة، فاتحين مجالا، حتى لـ " نصوص" هيفاء وهبي ونانسي عجرم وصويحباتهما... لن نخسر من التجربة شيئا.


 

التعليقات