يا اللّه..! غسان كنفاني .. ويصغرني بعامين؟/ جهاد هديب

يا اللّه..! غسان كنفاني .. ويصغرني بعامين؟/ جهاد هديب
لما كنا صغارا ونلعب "الغميضة" في الأزقة الموحلة، شتاء، كان لزاما على أيٍ منا أنْ يتخيّل في أيِّ مكان قد اختبأ الآخرون.. بسمة وبشيرة ذهبتا الى المغارة، أيمن الخبيث ذهب الى بيت أبيه وربما لا يعود أما محمود فأحمق ولا يحسن الاختفاء غير أنه متهور إذا جرى، وليس بمقدوري ان أردَّه بذراعي فيسبقني إلى المكان الذي ينبغي أن أسبقه إليه.
لو أغمضت عيني ثانية ومارست اللعبة ذاتها بعد ثلاثين سنة من العيش في ذاك المخيم الذي ما يزال يحمل اسم مُحسنٍ ألماني يُدعى ثيودور شنلر لقلت: إنني أرى غسان كنفاني غزالا راكضا في البرية مثل طلقة طائشة.
يفيض هذا الكلام بالبلاغة حقا، وأعرف. لكن الأمر هنا شخصي محض ويحكم العلاقة مع هذا الكاتب الشهيد، أي مع إنتاجه الإبداعي وسيرة حياته.. ويربكني جدا ان يأتي الى منامي.
إنني أتذكَّر بوضوح تلك الاقتطاعة البعيدة من طفولتي، عندما أنا وأمي وحدنا في الخلاء ذات صباح ربيعي . أمي تقطف "الخبيزة"، في ما كنا نسميه "الكراج" والذي هو مساحة واسعة كانت محطة لباصات "عمان – أريحا" التالفة أو المهملة والمحاطة بسياج شوكي تكومت عليه زجاجات خضراء فارغة بدا أنها غير مفيدة فانتركت نهبا لأطفال الجوار وأشقيائه مع ان فيه حارسا ويركض خلف المتسلّلين إلى مساحته.
أمي تلقط الخبيزة وسط تلك المنطقة المحاطة بذلك السياج وأنا أتراكض حولها. أتبع سرب نمل او ألحق "فرس النبي" على أربع فأكور قبضتي فوقها ثم اطلق سراحها فأعود فأكور قبضتي فوقها.. كان ذلك يجعلني مسرورا كلما ضربَتْ "فرس النبي" في الاتجاهات خبطَ عشواء.. كان ذلك مطلع السبعينات على الأرجح.
هذا المشهد في ذاكرتي ملونٌ جدا.. حتى ثوب أمي ظلَّ ملونا بلا شك.
غير أنه في الحلم كان بالأبيض والأسود فحسب، بل وأقرب الى أن يكون فاحما، بالكاد يكاد المرء يتأكد منه لولا أنَّ النفْسَ في نومها العميق تخبر صاحبَها أن المكان هو هذا المكان بالذات.
كنت الى جوار أمي الطفلَ ذاك الذي يلهو ثم مرّ هو، شابا نحيلا هبط هادئا تلك التلة الصغيرة المحاذية للسياج ثم اختفى خلفها في ممشى متعرج. انه غسان كنفاني الشاب دائما في الذاكرة وفي المخيلة.
وماذا يعني ان يرى المرء حلما، سوى انه يتفرج على شريط سينمائي في قاعة النوم المغلقة التي هي قاعة سينما مطفأة وينظر الى الشريط الذي بالأبيض والأسود حيث الحالم واحد من شخوصه.
ربما جاء الامر كله من المحبة الخاصة التي أكنِّها لغسان كنفاني شهيدا قبل ان يكون كاتبا.. كان هذا الوعي المراهق بالمعنى السياسي ينظر الى غسان كنفاني بوصفه واحدا من انبيائه الخالصين له.. له وحده دون سواه.
غير ان الأمر اختلف وبات غسان واقعا في الأدب والسياسة ومن الممكن الاختلاف معه أو حتى الابتعاد عنه الى هذا القَدْر أو ذاك.
ربما تعرفت الى ابداع غسان اوائل الثمانينات في طفولتي المتأخرة.. كان في مدرسة طه حسين الثانوية مكتبة إذا فكَّر المرء الآن بما كانت تحتويه من الكتب اليسارية فإنه يرجِّح ان المدرسة كانت خارج مسؤولية وزارة التربية والتعليم التي للإخوان المسلمين السيطرة المباشرة على تسيير شؤونها من ألفٍ إلى ياء فلقد جعلت منا نذهب يسارا أكثر من اليمين أو الوقوف في الوسط، ولم يكن عددنا بسيطا نحن الذين نكثر من استعارة تلك الكتب آنذاك التي من أكثرها تداولا بيننا كانت كتب الوجودية.
وإن ما جعلني أتعلق بادئ الأمر بكتابة غسان كنفاني هي تلك الطيبة التي كتب بها "موت سرير رقم 12" والتي ألَّف بها شخصية "محمد علي" الذي فَقَد اسمه وصار سريرا يحمل الرقم "12" أيْ أنّ محمد علي مات اسمه معه ومات ذكره بين الناس أيضا.
أما قصة "كعك على الرصيف" والطفل "حميد" ماسح الأحذية فقد جعلتني أتماهى به أيْ غسّان... جعلتني القصة ألتصق بصورته التي نسجْتُها أنا بوصفه نبيا لي إذ كشف فيها عن مكرٍ في الطفل الذي كنته أنا .. وكان دائما يشدُّني الى طفولتي كلما قرأت شيئا منه.
كنا نحلف بدمه فنصدق ولا نناقش.. كان الأشبَهَ بتعويذة في صدورنا ونؤمن ايمانا قطعيا بما قاله يوسف ادريس في تقديمه مجلد المجموعات القصصية: ".. واجعلها يا شعب فلسطين قرآنك"، ونرددها كما لو أن يوسف إدريس ما قالها إلاّ لنا دون سوانا من اهل الارض.. كان غسان محفِّزا غريبا على البهجة إذ نتذكر مقاطع أو مواقف من قصصه ورواياته فنضحك بسعادة مفرطة، غريبة ونادرة.. كان يجعلنا قادرين على الفرح بمعنى من المعاني إذ إنَّ غسان في آخر الأمر هو رفيق لنا وننتسب الى ما ينتسب إليه بأشواقه العليا وأفكاره التي مات من أجلها.
لا.. لا... لم يكن غسان رفيقا بل معلِّما ونحن تلاميذه الذين كان إيمانهم به أرثوذكسيا تماما. واذا ما لمسنا كلاما عليه من احد وفيه تجريح او اساءة ولو بالإلماح والإشارة فإن ذك يعرضه لخطر الإطاحة به.. أيضا كنا عصابته ولم يكن يعلم.
ولما فرت منا أحلامنا بتغيير ثوري تفرق كل منا بغسانه عن الآخر. غير أنه بسبب استشهاده ظلَّ في مكانه العالي ذاك مثل مسيح ما زال نظيفا ولامعا، وتحديدا في هذه الأزمنة التي اتسخ فيها معنى "شرف" الكتابة ومجدها.
بادئ الأمر قلت إن القصص تأخذني إلى ماضٍ لا يطاق وإلى استرسال في تذكُّرِ الذي ما من جدوى من تذكره الآن. فلا مبرر لقراءتها. والروايات المكتملة مكتملةٌ، ودراساته السياسية والأدبية فثمة ما بات أكثر نضجا وأحدث منهجا، ومسرحه لم أحبه حتى في أعوام التعصب تلك. أما رواياته غير المكتملة فهي غرام حقا.. ذلك انها تتيح للمرء أن يسعى الى أقصى خيالاته في تدبُّر نهايات لها.. العاشق لا تحتاج الى اكثر من إعادة تركيب أو ترتيب للصوت السارد: الراوي وقاسم والشيخ سلمان، عِوَضا عن التوليفة التي هو عليها وبقَدْر من "اللعب" التخيلي سوف تكون الرواية منتهية نهايةً مفتوحة ومقترحة أما "الأعمى والأطرش" فتتوفر على حس السخرية من المعتقدات الشعبية ومن العقل "الريفي" الذي أمقتُه على نحو لم يتوفر في إبداع غسان سابقا . و"برقوق نيسان" فأحرى ان لا يتلاعب بها حتى الخيال وليبق اكتمالها في نقصانها العنيد، غير أن المرء إذ ينظر الى تلك العلاقة بين المتن والهامش يلحظ أنها رواية لا تخلو من نفَسٍ تجريبي إن أراد النظر إليها على أنّها كذلك.
ليس بوسعي أن أكون محايدا تجاهه حتى الآن، والحال أن تسلط صورة غسان كنفاني ما كان ممكنا النجاة منها إلا بتفكيكها.. أي أن تحبه نسبيا لا بالمطلق.. في لا اكتماله في الرواية وفي ضعفه الانساني في رسائله الى غادة السمان وفي مكانته الرفيعة لما استشهد ودفع ثمن قناعاته ثم أخيرا "كله على بعضه" لو جاز التوصيف لأنه أوقف حياته وأدبه معا كي يقول للفلسطيني: لا محيد عن الانتماء الى قضية الدفاع عن إنسانيتك التي هي الدفاع عن فلسطين في أي مكان أو موقع كنت فيه.
حقا، أمات غسان كنفاني في السادسة والثلاثين وظلَّ ذاك، الشاب الذي في السادسة والثلاثين؟ ثمّ أحقا، أنني أكبره الآن بعامين هذا الذي جاء الى منامي بالأبيض والأسود في ما الطفل الذي في العاشرة أو أقلّ؟ مَنْ قال له أنْ يفعل ذلك؟


التعليقات