"أحمد اليماني في مذكراته: فن العودة إلى فلسطين بالكلمة"..

-

كتب صقر أبو فخر في "السفير 23/08/2007":

عاشت فلسطين تحت أجفاننا حلماً بهياً، وطالما طرّزت مخيلتُنا هذا البهاء بألف لون ولون. ومنذ يفاعتنا حفظنا خريطتها كما حفظنا ظاهر كفنا: قرية قرية وخربة خربة. وكان المخيم هو المكان الدافئ الذي نسجت المخيلة الفلسطينية فيه صور الأمس وروعته الآسرة والحنين الدائم. ولولا المخيم لما تمكن الفلسطينيون من الاحتفاظ بذاكرتهم المعذبة وتذكاراتهم الأليفة.

وتحت عرائش السطوح ابتكر الفلسطينيون طرائق مدهشة لبقائهم. أما سكان المخيم فهم، في معظمهم، فلاحون تحولوا بين ليلة وضحاها، الى لاجئين في مخيمات غريبة لم يألفوا صورتها البتة. لكنهم، على الرغم من تصاريف الدهر القاسية، جعلوا من سطوح منازلهم ما يحاكي اخضرار القرى في منابتها الأصلية. وفوق سطوح هذه المنازل بالذات عرّشت دوالي العنب لتلوّح لكروم الجليل، وأينعت رياحين شتى لتستحضر، بقوة المخيلة، تلال الكرمل وأزهار المراعي في فلسطين.

وكي لا يفلت هذا البهاء كله من شباك الأيام وشقوق الأزمنة، انصرف أحمد اليماني الى التقاط ما أمكنه من تفصيلات الحياة اليومية في فلسطين، فجاءت مذكراته شاملة وغنية، تماماً مثلما تكون كتب السِيَر والذاكرة والأمكنة. وها هو، بعدما أفنى أياماً طويلة من عمره المديد في النضال الفلسطيني يقدم إلينا مذكراته لتكون ذخيرة لفلسطين التي لن تكف عن التوهج في وجداننا أبداً.

ومذكرات أبي ماهر اليماني طراز محبب في الكتابة عن المكان وعن الماضي، وهي محاولة لإعادة رسم صورة فلسطين، لا كما عاشها المؤلف فحسب، بل كما استقرت عليها حياة الفلسطينيين في المخيم أيضاً. إنها، بلا ريب، أحياء للذاكرة القريبة حتى لا تتلاشى، وكي تبقى فلسطين متقدة في الفؤاد بأجمل ما يكون الاتقاد والاشتعال. وهذا الكتاب نموذج في فن العودة إلى فلسطين، لكن بالكلمة هذه المرة.

هكذا عرفته

لعل من حسنات أيامي أنني عشت في زمن أحمد اليماني ورفاقه من صانعي مجد الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة أمثال ياسر عرفات وجورج حبش وخليل الوزير. وسأغتنم "السلطة" الممنوحة لي هنا على الورق لأروي أنني في أوائل سبعينيات القرن العشرين، حينما بدأ وعينا النقدي يتبلور مع صعود الكفاح المسلح الفلسطيني، كان أبو ماهر اليماني يشد انتباهنا كقائد لامع في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومكافح مشهود له في حركة القوميين العرب، وعضو مشاكس في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

ومع هذا تأخرت معرفتي المباشرة به حتى أوائل سنة 1974 على الأرجح، عندما كان السجال السياسي الصاخب قد بلغ مداه في تلك الحقبة بين فكرة الدولة الفلسطينية على الضفة والقطاع، وأنصار تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني. وجرى اللقاء، عفوياً، قبالة جامعة بيروت العربية. كان أحمد اليماني يسير في تلك المنطقة ماشياً بلا حراسة أو مرافقين، فتحلقنا حوله، نحن مجموعة من الشبان الرافضين الناقمين، وتحدثنا في فكرة الدولة الفلسطينية. وأتذكر أنني دُهشت كيف أن هذا القائد يمشي وحده، هكذا مثلنا نحن، بينما كان مَن هو أدنى منه منزلة بكثير لا يرتضي أقل من أربعة مرافقين.

هذا هو أبو ماهر اليماني الذي كان لا يأوي إلى منزله قبل أن يجوس في أزقة المخيم ليباغت مَن ما زال من تلامذته يتسكع لاهياً كاسلاً عن فروضه فيقرعه تقريعاً. وكم شوهد وهو يطرق أبواب المنازل في الليل ليطمئن هل أن طلابه يذاكرون دروسهم حقاً، وأنهم ما ناموا قبل أن ينجزوا فروضهم.

هذا هو أبو ماهر كما عرفته وسمعت عنه. لكن ماذا عن أحمد حسين اليماني كما ظهر في مذكراته الخماسية الموسومة بعنوان: "تجربتي مع الأيام" (دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر، 2006)؟

الفردوس المفقود

لا أجازف في القول إن هذه المذكرات التي قدم لها جورج حبش مؤسس حركة القوميين العرب هي، في بعض جوانبها، استعادة للفردوس المفقود في قريته سحماتا، واستحضار للأمكنة الحميمة التي لم تبارح مخيلة أبو ماهر على الإطلاق.

إنها نداء الحنين إلى حواكير العريشة وإلى الوعر الشمالي ووادي الحبيس، كأن أبو ماهر لم يغادر فلسطين قط، وكأنه ما زال واقفاً، في كل يوم، عند مفترق البقيعة وحرفيش يجول بخياله المتألم في أرجاء هذا الجمال الباهر، من ترشيحا ودير القاسي وكفرسميع وبيت جن حتى فسوطة ومعليا والرامة ويانوح والجاعونة والصفصاف.

وهذه المذكرات تفصح عن ذاكرة عجيبة ما زالت توغل في التفصيلات الدقيقة من غير أن تغفل أدق الصور، وكأن أبو ماهر لم يرتحل عن سحماتا؛ فهو يسترسل في وصف منزله القائم على أربع قناطر حجرية تحمل سقفاً من الخشب الوعري الذي تعلوه طبقة من التراب. وفي كل شتاء، حينما تنهمر المزن، تبدأ حفلة الدلف والحدل والطين المطيّن. وهذا الرجل الذي نشأ في هذا المنزل البسيط ما زالت ذاكرته مغمسة بصور التبان وقن الدجاج ورف الحمام واسطبل الدواب والمصطبة وحصيرة القش وموقد النار وخابية الزيت والكوارة وصندوق الملابس وسراج الزيت وبابور الكاز وعرائش الحواكير وبئر الماء وبيادر الصيف ورجوم البراري.

يتقافز أبو ماهر اليماني من بين صفحات هذه المذكرات كطفل قروي فقير. وأتخيله يلعب في أزقة القرية بالبنانير، أو يسبح في بركة الماء بشنتان بوبلين، أو يرشق أشجار الجوز بالحجارة، أو يتسلق شجرة التين، أو يدمي يديه بشوك الرمان، أو تنغرز إبر الصبار في أصابعه. ومن ذاكرة تلك البقاع الخضر يغرف أبو ماهر حكايات الفقر والعذاب، ويغزل بالكلام صور المعاناة والأرجل الحافية وسني الشقاء. ومع ذلك يروي، بفرح ولذة، كيف أشرف، في إحدى المرات، على الموت غرقاً في الوادي الذي يفصل سحماتا عن ترشيحا حينما علق تحت الجسر، وكاد السيل يجرفه، ولم ينقذه غير والده الذي كان يراقبه من موقع "الرحراح"، فانتشله وأوصله إلى ترشيحا مبللاً. وفي منزل محمد دباجة أوقدت زوجته النار كي يجفف هذا الطفل الوادع ملابسه، لأنه لم يكن يمتلك غيرها لتبديلها.

إنه الفقر الذي ما زال محفوراً في ذاكرة أحمد اليماني كالوشم الدامي. وأحمد اليماني الذي تعلّم في ثانوية صفد بتنكتي زيت، واحدة لأجرة الغرفة، وواحدة لمصروفه الذي لم يتجاوز 30 قرشاً في الشهر، عرف ضروباً من الألم التي طالما احتملها بصبر وكرامة. وكم أحس بالمرارة عندما لم يتمكن من استقبال معلم الرياضيات في منزله، فاستقبله في منزل خاله. وكم تعذب حينما سرق له زميله في السكن مصروفه الشهري، فأكل"قتلة" من والده، ولم يأكل بعض وجبات طعامه غيظاً وتقتيراً. وكان غيظه أشد إيلاماً من كفي والده. وربما فاق شعوره بالحرج آلامه عندما لم يستطع، في الكلية العربية في القدس، أن يشتري اللباس الموحد الإلزامي، فتبرع حامد أبو ستة له بالجاكيت، وقدم له محمد يوسف نجم ربطة العنق. ويبدو أن محمد يوسف نجم كان صاحب "مقالب" في الكلية العربية. وها هو أبو ماهر يخبرنا كيف صاغ محمد يوسف نجم إعلاناً تهكمياً عن مزرعة يمتلكها شقيق معلم الاجتماعيات يدعى الحاج مير. ويقول الإعلان: "أيها الأهل الكرام، أيها السادة العظام، حافظوا على صحتكم وصحة عيالكم، وخاصة صحة أبنائكم، واشربوا حليب الحاج مير، وكلوا بيضات الحاج مير، وشوفوا بعد ذلك صحتكم كيف بدها تصير".

إن الإحساس بآلام الفقر لم يحوِّل أبا ماهر الى شخص باحث عن الثروة، بل أمده بوعي اجتماعي، فأيقن أن سبيل الفكاك من الفقر هو الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية لا الجري المتوحش وراء المال. ولهذا التحق مبكراً بالعمل النقابي، وناضل في صفوف "جمعية العمال العربية الفلسطينية"، ثم اشتبك نضاله الاجتماعي بنضاله الفلسطيني. وهذه المسيرة الطويلة منحت أبا ماهر اليماني هذا الحضور المتألق، ومنحتنا نحن أيضاً مثالاً نادراً للنزاهة.

خمسون عاماً من العواصف

طالما اعتقدت أن عائلة أبي ماهر تتحدر من اليمن مثل الكثير من العائلات العربية. لكن هذه المذكرات أوضحت لي أن "اليماني" لقب أُطلق على جده أحمد لأنه خدم طويلاً في الجيش العثماني في اليمن من دون أن تعلم عائلته عنه أي خبر. وعندما عاد بعد خمسة عشر عاماً اكتسب كنية "اليمني" في البداية، ثم "اليماني" في ما بعد.

وهذه المذكرات التي تغطي نحو خمسين سنة من الأحداث العاصفة التي شهدتها فلسطين والدول العربية المجاورة، ليست مجرد سيرة ذاتية لصاحبها، وإنما هي سيرة وتأريخ وتوثيق في آن؛ فهي تروي صفحات شبه ضائعة من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية مثل تأسيس "المنظمة العسكرية الفلسطينية"، وتميط اللثام عن أسماء المؤسسين الأوائل وهم: فايز فضة وصالح قاسم ومحمد عطوي وخالد عبد الوهاب وأبو ماهر نفسه. كما أنها تروي كيف رأى والده في منامه أن اليهود اعتقلوا ابنه أحمد (أبا ماهر) ثم قتلوه. فتوجس واضطرب، ولم يلبث أن غادر قريته إلى عكا ثم إلى حيفا ليبحث عن ابنه. وظل يومين بليلتين من دون نوم. وفي أحد منعطفات ميناء حيفا شاهد أبو ماهر والده نائماً على الأرض وقد هدّه التعب. فعاد وإياه الى سحماتا، ثم بدأت مرحلة جديدة في حياته. وفي هذه المرحلة سقطت البلدات المجاورة لسحماتا في أيدي "الهاغاناه"، فيروي قصة سقوط شفاعمرو والناصرة وترشيحا وقصف معليا ومعركة الشجرة، وكيف تهدمت بيوت سحماتا وتصدعت جدران منزله، الأمر الذي أرغم والديه على اللجوء الى المغارة في كرم الزيتون. ولعل أقسى المواقف وقع عندما رفض مغادرة سحماتا، وبقي مع أهله حتى سقطت قريته، فاعتقل وطرد أهله الى لبنان.

وعندما أطلق سراحه، في ما بعد، سيق الى بلدة المنصورة، وهناك قال له الضابط الإسرائيلي: "انظر، تلك هي الأراضي اللبنانية. اذهب، وإياك أن تفكر في العودة. سِرْ مباشرة، وإياك أن تلتفت الى الخلف، وستصل الى بلدة رميش، ومن هناك تدبر أمرك".

وبدأت رحلة المنفى الى رميش فبنت جبيل وصور وطرابلس، وهناك عثر على عائلته في عنابر الميناء. ومنذ تلك اللحظة سيدشن أبو ماهر اليماني طوراً جديداً في حياته كان من علاماته أنه دخل السجن نحو 55 مرة. وهذه المذكرات تكشف بعض الجوانب المبكرة من تلك المرحلة، وكيف اشترى أبو ماهر رشاشاً من طراز كارلو من قرية حبوش الجنوبية، وكيف جرى تفكيكه كي يتسنى لأم ماهر أن تنقله الى مخيم النبطية مخفياً في قماط ابنها مهند. وتعيد هذه المذكرات رواية العملية العسكرية الأولى لحركة القوميين العرب التي قامت بها مجموعة "شباب الثأر" في 2/11/1964 واستشهد فيها خالد الحاج أبو عيشة. والى ذلك تروي، بالتفصيل، وقائع استشهاد شقيقه محمد اليماني في العملية الثانية للحركة في 18/10/1966 التي استشهد فيها سعيد العبد سعيد ورفيق عساف وأسر سكران سكران.

مثل صبار الوعر

إذا كانت الفاقة والأحوال العسيرة أوقدت الشعور بفقدان العدالة الاجتماعية لدى أحمد اليماني، فإن الاستعمار الإنكليزي أشعل في فؤاده جذوة النضال الوطني. وقد احتفظ هذا السحماتي الرقيق في خياله وعقله بثلاث وقائع ربما تكون قد ساهمت في تكوين وعيه السياسي. وربما كان السابع عشر من حزيران 1930 الواقعة الأولى أو بداية التكوين السياسي لأبي ماهر؛ ففي هذا اليوم شاهد بأم عينه الشهداء الثلاثة، شهداء ثورة البراق (فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير) معلقين في باحة سجن عكا المركزي. وكان ذلك اليوم هو المرة الأولى التي يغادر فيها أبو ماهر القرية.

أما الواقعة الثانية فتقول إنه بينما كان ذاهباً مع والده لحراثة "أرض القواطيع" بين سحماتا وترشيحا صادفتهما دورية إنكليزية، وعلى الفور بادرت عناصر الدورية والده بالضرب وألقت به أرضاً، وراح أحد أفراد الدورية يضربه بالمنساس حتى أدماه، ثم اقتادوه وسجنوه عدة أيام. والواقعة الثالثة أن هذا الوالد المجروحة كرامته لم يتخلف عن الالتحاق بثورة 1936 بعد أن باع البقرة واشترى بندقية.

هذه الوقائع التي شكلت المداميك الأولى للوعي السياسي لدى الفتى أحمد، أينعت، في ما بعد، حقولاً من الوطنية الصافية، وراحت هذه الحقول تتفتق أزهاراً ورياحين وزنابق، اشتممنا عبيرها في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني العظيمة، وكان هذا العبير يفوح في صورة مناضلين هنا وشهداء هنالك.

منذ نحو ثلاثين سنة أعرفه. وديع كحمائم البيادر، جريء في قول ما يعتقد، أصيل في انتمائه الى العروبة، صلب كصخر البازلت، شديد كمطارق الحديد على من تهاون، ثابت كزيتونات الجليل، شوكي مثل صبار الوعر، رقراق كمياه الوديان في الكرمل، متجذر لا تتمكن الأيام منه، راسخ تعجز الأحوال المتقلبة عن تقليب مبادئه. ومنذ أكثر من ثمانين سنة وأبو ماهر ما برح فقيراً مثلما ولد في سحماتا ومثلما كان في جمعية العمال العربية الفلسطينية، ومثلما هو الآن، وما زال يجمع أناشيد الفتوة في فلسطين ليعلمها للفتيان في لبنان.
 

التعليقات