هاجس الاستقلال يساور الكتّاب الفلسطينيين في حيفا / أنطوان شلحت

قبل أن يرحل عام 2010 أعلن في مدينة عكا عن تأسيس «اتحاد الكتّاب العرب الفلسطينيين - حيفا»، وذلك بعد جهود ومساعٍ حثيثة، واتصالات مطوّلة ومتشعبة تولى دفعها قدماً على نحو خاص الشاعر سامي مهنا الذي اختير في الجلسة التأسيسية رئيساً للاتحاد.

هاجس الاستقلال يساور الكتّاب الفلسطينيين في حيفا / أنطوان شلحت

قبل أن يرحل عام 2010 أعلن في مدينة عكا عن تأسيس «اتحاد الكتّاب العرب الفلسطينيين - حيفا»، وذلك بعد جهود ومساعٍ حثيثة، واتصالات مطوّلة ومتشعبة تولى دفعها قدماً على نحو خاص الشاعر سامي مهنا الذي اختير في الجلسة التأسيسية رئيساً للاتحاد.

ويتميّز هذا الاتحاد بتصوّر فكريّ يرى في الأدب والفكر والثقافة خندقاً أساسيّاً يمكن من خلاله أن يحافظ الأدباء الفلسطينيون في الداخل على تماسكهم وهوّيتهم الوطنية والقومية لا سيّما بمفهوميها الثقافي والحضاري، ويحترم التعددية الفكرية والعقائدية والحزبية.

وهو يتميّز بتصوّر تنظيمي يتيح من جهة أولى إمكان ضم أكاديميين إليه، بحيث تنبثق عنهم لجنة أكاديميّة تقوم بمواكبة الأدب الفلسطيني المحلّي في شكلٍ خاصّ بحثاً ونقداً وتقويماً، ويخصّص من جهة أخرى لمن يصفهم بأنهم أدباء من الرعيلين الأوّل والثاني «وصلوا إلى مكانة عالية في المشهد الثقافي الفلسطيني والعربي والعالمي» موقعاً خاصّاً كمجلس استشاري فعليّ هو المرجعية الفكرية العليا للاتحاد، وتبقى مكانتهم في هذا المجلس دائمة، وهم فوق الإطار التنظيمي العام وغير خاضعين له، عدا إمكان الترشيح والانتخاب، فهم ينتَخبون ولا يُنتخبون، لتبقى مكانتهم ثابتة، فوق المنافسة والتغيير.

ويحمل الاتحاد الجديد مشاريع عينية كثيرة وطموحة، على غرار: إصدار مجلّة أدبية فصلية تُعنى بنشر مواد أعضاء الاتحاد في شكل خاص ونشر وإبراز الأدب الفلسطيني والعربي والتواصل مع كتّاب العالم العربي، والعالم الأوسع وإقامة موقع الكتروني فعّال للاتحاد، وتسويقُه عربياً وعالمياً، العمل على تمويل طباعة إصدارات أعضاء الاتحاد في دور نشر عربية، التواصل مع المؤسّسات الأدبية محليّاً فلسطينياً وعربياً، إقامة مهرجان أدبي سنوي وأمسيات شعرية وأدبية في فترات غير متباعدة، العمل على فتح مقرّ خاص في إحدى المدن العربية، إصدار أنتولوجيا للأدب الفلسطيني في الداخل في دار نشر مرموقة، التواصل الفعلي مع الأوساط الأدبية والثقافية فلسطينياً، عربيًا وعالمياً، التواصل مع الهيئات الأكاديمية والمؤسسات الأدبية والثقافية في البلاد وفي مناطق 1967 وعربياً وعالمياً، التواصل مع الهيئات المسؤولة ومنظِّمي المهرجانات الشعرية والأدبية عربياً وعالمياً، التواصل مع اتحادات ورابطات الكتاب في فلسطين والعام العربي والعالم، التواصل مع لجنة المتابعة العربية في الداخل، واللجان الوطنية غير الحزبية، لأجل المشاركة الفاعلة في المناسبات الوطنية والقومية، العمل على قضية الترجمة والنشر في صحف أجنبية بما في ذلك العبرية، إقامة مكتبة وطنية تؤرشف كل ما صدر في البلاد والشتات لكتاب فلسطينيين وما سيصدر عن الاتحاد والمؤسسات الفلسطينية.

ولقد شهدت الحركة الأدبية الفلسطينية في الداخل في الماضي غير البعيد بضع تجارب في هذا المضمار بدأت بالقدر نفسه من الطموح، لكنها اندثرت بسبب الخلافات السياسية والحزبية، وبسبب «الحروب الصغيرة» بين الأدباء أنفسهم. مع ذلك، فمن الجليّ أن طريق هذا الاتحاد الوليد لن تكون كلها مفروشة بالورود، وحتى إذا ما استثنينا أشواكاً كثيرة تحيل إلى النفوس الفاعلة، كما هي الحال في أي مجتمع، تبقى ثمة أشواك كثيرة أخرى في تلك الطريق، في مقدمها مسألة العلاقة البنيوية للاتحاد مع المؤسسة الإسرائيلية أو مع اتحادات الكتاب الأخرى في إسرائيل. وهي مسألة لا بُدّ من أن تنعكس في الوقت نفسه على علاقة الاتحاد مع العالم العربي. وبناء على ذلك فإن أول موضوع سيكون هذا الاتحاد مطالباً بحسمه هو موضوع الاستقلالية الثقافية، الذي يحيل إلى ما هو أعمّ وأشمل، أي مستقبل المجتمع الفلسطيني في الداخل في ظل المفترقات الراهنة التي وصلت إليها القضية الفلسطينية. ومن المعروف أن موضوع الاستقلالية الثقافية لا يحظى بإجماع - كي لا أقول إنه موضع جدال وخلاف كبيرين - في صفوف القوى السياسية - الفكرية الفاعلة لدى الفلسطينيين في الداخل، والتي تتوزّع على ثلاثة تيارات رئيسة هي الإسلامي والشيوعي والقومي. وبينما يرى التيار الأقدم (الشيوعي) ألّا غضاضة بتاتاً في الحصول أو في تحصيل أموال دعم من المؤسسة الإسرائيلية بحكم واقع المواطنة، ويتطلع إلى أن يحظى بالمساواة في مواجهة سياسة إسرائيلية عامة قائمة على الإقصاء والتهميش والتمييز العنصري، فإن التيارين الآخرين ولا سيما التيار القومي يريان أن هذه الأموال وإن كانت حقاً يجب ألا يضيع وأن يكون وراءه مُطالب، لن تكون بحال من الأحوال متنائية عن الغايات العامة للمؤسسة الإسرائيلية التي تناصب المجتمع الفلسطيني في الداخل العداء الشديد، خصوصاً أن سياسة الإقصاء والتهميش والتمييز العنصري في ما يتعلق بالحقوق الجماعية لهذا المجتمع قد ازدادت غلواء في الآونة الأخيرة ولا تزال.

يواجه المجتمع الفلسطيني أولاً ودائماً تحديين يسيران في شكل متداخل: التحدي الأول في مواجهة ذاته - بناء مؤسساته السياسية، الاقتصادية والثقافية المختلفة التي تستطيع أن تعبر عن خصوصيته، انتمائه، احتياجاته وتطلعاته التي يقف في صلبها الحوار البنّاء بين مختلف تياراته السياسية الفاعلة، وبناء ديموقراطيته الاجتماعية وفي مقدمها المساواة بين المرأة والرجل. والتحدي الثاني - في مواجهة الآخر، المتمثل في الدولة بسياساتها ومؤسساتها وفكرها.

وبالنسبة لاتحاد الكتاب فإن ما يجب أن يُقال هو: لكل شيء زمان ومكان، ومثلما أن للكفاح الشعبي زماناً ومكاناً - مع العلم أن معركة الفلسطينيين في الداخل مفتوحة على الأزمنة والأمكنة كلها - فإن للكفاح الحقوقي زماناً ومكاناً أيضاً، والوضع الأفضل يكون عندما ندرك أن ما من تناقض بين هذين الكفاحين اللذين يكملان بعضهما، وأن التعامل معهما كنقيضين ينم عن تقصير في المسؤولية الجماعية، باعتبار أن تأسيس اتحاد للكتّاب يشكل مرحلة متقدمة من التحلي بهذه المسؤولية ومن النمذجة عليها في حقل ليس من المبالغة النظر إليه على أنه بمثابة جدار أخير.

ثمة هاجس آخر: إن مسألة تواصلنا الثقافي مع العالم العربيّ هي مسألة محسومة تاريخياً ومبدئياً، فضلاً عن أنها تتم في أشكال مختلفة في الحدود الدنيا. مع ذلك، فإن السؤال هو: هل هي مُدرجة في جدول أعمال القيادة العربية في الداخل؟ إن هذا التساؤل لا يأتي من فراغ، ذلك بأنها لو كانت مُدرجة فمن الحتم أن يسفر ذلك عن اعتماد خطة أو برنامج عمل في سبيل دفعها قُدماً. وربما حان الوقت من ضرورة الهجس بخطة كهذه، على أن تُطرح أيضاً بمبادرة منّا على أجندة وزراء الثقافة العرب، وعندها لا مفرّ كذلك من الإلحاح على مطلب إزاحة «عقبات قانونية» عربية تحدّ بدورها من تكريس هذا التواصل، حتى على المستوى الفرديّ. والتقصير في هذه المسألة أيضاً هو تقصير في المسؤولية الجماعية. وهذا التحدّي هو من صنف التحديات التي لا مفرّ من أن يتصدّى لها اتحاد الكتّاب الوليد في مواجهة ذاته الخاصة والعامة.

_________________________

عن الحياة السعودية

التعليقات