العراء: رواية تونسية عن "السرطانين"! / رشاد أبوشاور

رواية "العراء" للقاصة والروائية التونسية حفيظة قاره بيبان، لم تُكتب عن معاناة امرأة من "السرطان" الذي اجتاح جسدها، عبر ثديها، فأتلف حياتها، وهدم عش زوجيتها، وأفقدها هناءة عيشها، وقلب مسار حياتها، فخطورة ووحشية ما اقترفه هذا المرض الخبيث اللئيم الذي لا يرحم، تتخطى المعاناة الفردية الشخصية لتأخذ بعدا أشمل، فهذا السرطان الذي يتلف البدن هو نفسه الذي يؤدي إلى اكتساح حياة شعب بكامله، والتسبب في عذاب هذا الشعب: تشريدا، وموتا، وغربةً، ومعاناة لا تتوقف.

العراء: رواية تونسية عن

- رشاد أبو شاور -

رواية "العراء" للقاصة والروائية التونسية حفيظة قاره بيبان، لم تُكتب عن معاناة امرأة من "السرطان" الذي اجتاح جسدها، عبر ثديها، فأتلف حياتها، وهدم عش زوجيتها، وأفقدها هناءة عيشها، وقلب مسار حياتها، فخطورة ووحشية ما اقترفه هذا المرض الخبيث اللئيم الذي لا يرحم، تتخطى المعاناة الفردية الشخصية لتأخذ بعدا أشمل، فهذا السرطان الذي يتلف البدن هو نفسه الذي يؤدي إلى اكتساح حياة شعب بكامله، والتسبب في عذاب هذا الشعب: تشريدا، وموتا، وغربةً، ومعاناة لا تتوقف.

هذه الكاتبة تنتمي لمدينة "بنزرت" الساحلية، التي رست فيها فجر يوم 28 آب عام 1982، السفينة القبرصية اليونانية "سولفرين"، والتي حملت أكثر من ألف ومائة مُرحّل عن بيروت - كنت أنا شخصيا أحدهم - ولست أشك أنها كانت هناك في فجر ذلك اليوم البعيد مع ألوف التوانسة الزاحفين المحتشدين لاستقبال أهلهم الفلسطينيين المنفيين بعيدا عن وطنهم، بقرار أمريكي غربي ظالم منحاز للكيان الصهيوني، هدف إلى إنهاء ثورة الشعب الفلسطيني، واقتلاع جذور كفاحه المسلّح، ومعاقبة مقاتليه بتوزيعهم على عديد البلدان العربيّة، حتى لا يجتمع شملهم، وليكونوا مزقا لا رابط بينها، ولا قيامة لها.

هل كان لذلك الفجر، والمشهد الرهيب الأسطوري للسفينة المتهادية لدخول الميناء في فجر ذلك اليوم البعيد، أن يغيب عن بال الكاتبة الحساسة، حفيظة قاره بيبان، التي برعت في الكتابة للأطفال، برقتها، ونبلها، وإنسانيتها؟!

بعد كل تلك السنين التي مرّت، ها هي ابنة البحر، كما تلقب نفسها، ابنة بنزرت المدينة التي تضم مقبرتها ألوف الشهداء الذين سقطوا برصاص الاستعمار الفرنسي، وقذائف طائراته.. ها هي أصيلة المدينة المناضلة تكتب عن السرطان الذي يجتاح الجسد، تماما كما يجتاح جسد فلسطين، ويفتك بها، ويعمل على تخريب بدنها وروحها منذ العام 48، أي منذ الحرب الظالمة التي أدت لنكبة شعب فلسطين، وتشريد أهلها، ومنهم أسرة الشاعر غسان سلمان، الفلسطيني الذي حضر إلى تونس على متن السفينة سولفرين، والذي فقد مدينته حيفا إبان نكبة 48، حين كان طفلاً، فتح عينيه على مشهد ضياع مدينته، وموت أهلها، واقتلاعهم من مدينتهم العريقة.

في الرواية تتعرف دجلة العامري بالشاعر الفلسطيني غسان السلمان، والذي يقدمه لها هو الشاعر العراقي خليل المهاجر مضطرا من وطنه العراق، والمقيم في تونس، أثناء لقائهم جميعا في معرض الكتاب.

يتساءل غسان مفصحا عن مشاعره تجاه دجلة: أكنت تدركين يومها أن يديك التونسيتين قد أخذتا ترممان بعض انكساراتي؟! (ص 35)

الفصول الأولى في الرواية يكتبها غسان الشاعر الفلسطيني، ولكن فصول الرواية بأكثرها تكتبها دجلة، لأنها تحكي تجربتها مع السرطان، ومشاعرها الصداقية المتعاطفة مع مأساة غسان الذي تفلت منه عبارات توحي بحاجته لحبها، رغم أنها متزوجة، ومخلصة لزوجها الرياضي الوسيم حسام، وأم رؤوم لابنها وابنتها سناء وعلي، وهي مكتفية حبا بزوجها الذي يملأ عليها حياتها.

لا شك أن الكاتبة برعت في تصوير مشاعر غسان، وحاجته هو الغريب للحب، وهي تتفهم مشاعره، وتضعها حيث هي، فلا تنفر منه، ولا تزجره، ولكنها تضع لجموح مشاعره حدا بمنتهى اللطف والرفق.

يقترح غسان على دجلة أن يكتبا معا رواية، وإذ يدهمها السرطان، فإنها تعيش وإياه الرواية الواحدة، رواية السرطان الذي لا يرحمهما بدنا ووطنا، فتكون الكتابة المشتركة هي المواجهة المشتركة، والمقاومة المشتركة، والخيار الواحد المشترك والمصيري لهما.

الرواية مؤثرة، موجعة، فاجعة، والروائية بقدرة مذهلة تنقل تفاصيل تسلل المرض وانتشاره في الثدي، واضطرارها للقبول بإزالة الثدي، ومشاعرها كامرأة وهي تعاني قبح صدرها بعد استئصال الثدي، والظلمة التي تهوي إليها مع استفحال السرطان.

أعترف بأنني كنت أرتجف وأنا أقرأ بعض الفصول، وأتساءل: أيمكن لهذه الكاتبة أن لا تكون قد مرّت بهذه التجربة -المأساة؟ وكم تمنيت أن لا تكون قد عانت هذا العذاب الجحيمي، وهذه التجربة التي لا تحتمل.

قلت لنفسي وأنا أقرا الرواية: إذا كانت هذه الروائية قد كتبت روايتها، في جانبها الشخصي، معاناة المرض الخبيث "السرطان"، ولم تكن قد أصيبت بهذا المرض، فهي حقا قد كتبت نصًّا مذهلاً، وقد يعود هذا إلى كونها امرأة.. وهل لغير امرأة أن تكتب عن سرطان الثدي الذي يُفقد الزوجة التواصل مع زوجها الحبيب الذي طالما استمتع بهذا الجسد، وأمتعه، فعاشا معا الحب، والألفة، والسعادة، حتى أفسدها هذا المرض اللعين.

تختتم الرواية بتوقيع غسان السلمان ودجلة العامري، وهكذا تكون روايتهما معا، رواية "سرطانيهما" الذين خرّبا حياتيهما.

لا يمكن لمن يقرأ الرواية إلاّ أن يلعن السرطان بكافة أنواعه، ويدينه، ويرى فيه "مرضا" واحدا، سواء غزا جسد امرأة شابة تونسية، أو وطن غسان المشرّد منذ طفولته، والمحروم من حقه في الحياة والعيش كباقي البشر.

ربما تكون هذه الرواية هي أوّل رواية تونسية تعنى بالموضوع الفلسطيني، مع التنبيه إلى حضور فلسطين في الشعر التونسي، والكتابة السياسية، وحتى الفلسفية والفكرية.. وهذا، مع موضوعها القوي المؤثر والذكي، ما شدني إليها، ويدفعني للترحيب بها، وتحية مبدعتها العميقة الرؤية.. العروبية الهم والمشاعر، الروائية التونسية الموهوبة حفيظة قاره بيبان.

التعليقات