في مديحِ البُراز / طارق خميس

وإذا حدث وصادفت شابًّا أو فتاةً تفوح من ملابسهم رائحة البراز، عانقهم، إنهم قادمون لتوهم من مواجهة مع الاحتلال.. عانقهم وإياك أن تظن أن عطرك الباريسي الفاخر يجعلك أجمل رائحة منهم.

في مديحِ البُراز / طارق خميس

يعرض بيرانديللو في مسرحية "لكل حقيقته"، شخصية امرأة مجنونة، وهناك من يبرهن أنها مجنونة، وهناك من يبرهن أنها عاقلة، لكن هناك من يبرهن أنها ليست موجودة على الإطلاق، لكلّ من هؤلاء حقيقته التي يؤمن بها..

تبدو كل الأشياء خاضعة للتأويل، وأيا كان التأويل، فهو عمل القوة لا الحقيقة بحسب نيتشة.

وأنا عائد من الخليل، ومن شارع الشهداء على وجه الخصوص، حيث كانت مواجهة بين الفلسطينيين  مع الاحتلال، راودتني فكرة التأويل أعلاه: من الذي حدد أن البراز شيء مقرف؟! لا بد أنه الاستعمار من أقنعنا بذلك حتى يسهل عليه محاصرتنا به.. أعجبني هذا التأويل وأرضاني مدة كافية حتى الوصول للاستحمام.

يبدو أن الاحتلال الاسرائيلي الأقذر على الإطلاق، وإلا كيف خطر في ذهنه أن يقمع المتظاهرين بالمياه العادمة والبراز؟!

هذا يذكر بمارك توين عندما وقف ناصحا لوزير الحرب الأمريكي بكيفية القضاء على الهنود الحمر، مبينا أن عليه جمع كل الهنود في مكان مناسب وذبحهم مرة واحدة وإلى الأبد.

"وقلت له (يقول مارك توين)، إذا لم توافق على هذه الخطة، فإن البديل الناجع هو الصابون والتعليم soap and education ، فالصابون والتعليم أنجع من المذبحة المباشرة، وأدوم وأعظم فتكًا.. إن الهنود قد يتعافون بعد مجزرة أو شبه مجزرة، لكنك حين تعلم الهندي وتغسله، فإنك ستقضي عليه حتمًا، عاجلاً أم آجلاً.. التعليم والصابون سينسفان كيانه ويدمران قواعد وجوده."

وأضاف مارك توين: "سيدي، اقصف كل هندي من هنود السهوب بالصابون، والتعليم، ودعه يموت".

المستعمر الأمريكي كان يفكر بالصابون بوصفه أداة لإخضاع المستعمر وإعادة تشكيله، فيما يفكر الاحتلال الاسرائيلي بالبراز كأداة لإعادة التشكيل.

 أُخذت الهيئة المحلية للهنود الحمر على عاتقها، وهي مشكلة في الهنود الحمر أنفسهم، إخفاء الوجه القبيح للاستعمار وتمجيد الصابون، بينما تأخذ هيئة محلية أخرى، في زمان ومكان مختلفين، على عاتقها، تقبّلَ البراز وتمجيده، وبين البراز والصابون تكمن حدود الاستعمار.

أما أنا فأفكر بمديح البراز بطريقة مغايرة، ليس بغية القبول به، ولكن بغية تجاوزه في أرض المعركة، وبعدها بغية إعادة تعريف حاسة الشم تماما كما عرفها الشباب والشابات العائدون من المواجهة، عندما كانت الرائحة الأشد نتانة تشير للشخص الأكثر إقداما، والأكثر قربا من خط المواجهة وشاحنة ضخ البراز، وبذلك كان الأقل نتانة يشعر بخجل خفي.

هكذا يغدو الشم حاسة ثورية يحتفي بالبراز أكثر من احتفائه بعطور العالم أجمع.. حاسة شم مقاتلة تجهز على خصومها بلا مبالاة، كما فعل "غرنوي"، بطل رواية العطر، وحين تمكنت منه المقصلة كان قد ابتكر عطره السحري فنجا.

جاء في لسان العرب: "البَرازُ، بالفتح: المكان الفَضاء من الأَرض البعيدُ الواسعُ.. حتى لسان العرب يمكنه أن يسعف التأويل، يمكنه أن يعطي للرائحة النتنة فضاء واسعا.

 لكل أنف حقيقته.. لكل عين حقيقتها.. ضوء القمر يتفوق على "نيون" المستوطنة.. الطريق الترابي أشد وسامة من الإسفلت.. القوام الهزيل بعد معركة أمعاء خاوية أشد أناقة من قوام يواظب على حضور صالات التدريب الرياضية.

في لحظة وعي تبدو الأشياء مُعادُ تعريفها والرّوائح مُعادُ تذوّقها..

وإذا حدث وصادفت شابًّا أو فتاةً تفوح من ملابسهم رائحة البراز، عانقهم، إنهم قادمون لتوهم من مواجهة مع الاحتلال.. عانقهم وإياك أن تظن أن عطرك الباريسي الفاخر يجعلك أجمل رائحة منهم.

التعليقات