رواية «الغَشْوَة» بحلوها ومرّها/ أكرم حداد

أحببت كل أحداث الرواية، فضحكت مرات حتى اغرورقت عيناي بالدموع، وحزنت كثيرا مع الحزانى المتدفقين مع تدفّق أحداث الرواية، فتتبعت بشغف، تماهيت وتعاطفت معهم فعلا. كل هذا بفضل إبداع الكاتب وصدقه.

رواية «الغَشْوَة» بحلوها ومرّها/ أكرم حداد

رواية “الغشوة” عمل روائي ضخم يستحق الثناء والتقدير، وجدير بالقراءة، فهذه الرواية كتبها الفنان القدير راضي شحادة، وصدرت حديثا في بيروت عن دار الجديد –شركة المطبوعات للنشر والتوزيع.  

   الرواية تتحلّى بسَرد متدفق، ووضوح اللوحات، وما احتوته من صفاء، رغم طولها  وضخامتها، هو هو  ما جعلني أسيرًا مُسَيَّراً مع النص الهاديء حينا والهائج الهادر أحيانا.  

 رافقني شعور مستمر خلال قراءتي للغشوة بأنّ مؤلّفها الصادق والشديد الإحساس بما يدور من أحداث يتفاعل معها، كأنّما كان يعلق في عنقه كاميرا رقمية تصور ما ترى، فتأتي الصور دقيقة مطابقة للأصل، تُبرز الشخصيات المصوّرة كأنها نتاج طبيعي لتلك البيئة والخلفية. لابدّ لشخصيات، كفريد وجوهرة ومهنّد، أن تُزيّن خلفية كتلك التي ابتدعها خيال الكاتب، وجعل أشخاصها تتحرك بعفوية وصدق في الإطار الذي حدده لها.

وفي جوّ من الاستطراد المحبّب يتلاعب راضي بلغته الجميلة، متنقلا بين العامية السلسة   والفصحى السهلة، فتتعاطف مع هذا الخيار وتحبه، وتشعر انه نحَتَ ما اختار من الكلمات ورَصّع كتابه الرائع بها، أنت القارئ لا تقوى على تغيير اللون الذي اختار، فهذا الخيار ربما هو جزء من إبداعه ومنه. وأقول:إن رشفت لا ترتوي، وإن جرعت لا تنقع.

يجوب معك مؤلّف “الغشوة” في شعاب ومتاهات تاريخ فلسطين المعاصر، فيجعلك تتحسّس وتعيش بين أبطال النكبة الكبرى، ويرغمك بأن تحاول أن لا تمر مرّ الكرام، أنت لا تتألم او تتعاطف وحسب، وإنما من خلال شخصياته التي ابتدعها يحاول ان يفتح عينيك لترى هول المآسي وقرف المؤامرات، وانعكاس وتأثير الجهل والفقر علينا، فينقلك الى جو خاص بك، لتبحث عن شخصيات روايته بين أهلك وفي أزقّة قريتك وبيتك، فما يدور بين هذه الشخصيات من حوار وصدام هو نتيجة حتمية لما صوّره وقصّه الكاتب راضي شحادة، الناقد الحساس والمفرط بحسّه.

 نتعرّف من خلال “الغشوة” على الناس البسطاء والطيبين الصادقين من أمثال حنّة وحنا الطَّواشى، وعلى المنافقين المستخفّين والظاهرين كعائلة الدّبعي، ونتعرّف على مناضلين مندفعين الى درجة التهوّر كشخصية المناضل التقدمي فريد، جميعهم أفرزتهم بيئة ما زالت تتعشّق ظلمة الماضي السحيق وتخاف الدخول الى نور التغيير.

لله درّ هذه الكاميرا الرقمية التي رافقت راضي وصوّرت كل أشكال حياتنا، مرورا بآلام التهجير والضياع حتّى صغائر الأمور، فيُبرِز لك شخصيات كشخصية الياس صهر فريد.. تدخل أعماق مجتمعاتنا المنقسمة الى حارات مقفلة يصعب اختراقها، تلتحف بستار التدين والتقوقع..عادات متخلّفة في كل حارة تخلق الصدام والعنف حتى القتل والحرق دون مبرر،  برز كل ذلك بجرأة وصراحة منقطعة النظير في قرية “جب السّرّيس”، وكم كانت الصورة واضحة ودقيقة.  أحببت كل أحداث الرواية، فضحكت مرات حتى اغرورقت عيناي بالدموع، وحزنت كثيرا مع الحزانى المتدفقين مع تدفّق أحداث الرواية، فتتبعت بشغف، تماهيت وتعاطفت معهم فعلا. كل هذا بفضل إبداع الكاتب وصدقه.

رواية “الغشوة” رواية جريئة جدًا وعصرية، ممتعة ومشوّقة وهادفة، وأستطيع القول بكل ثقة بأنها من أجمل وأصدق ما قرأته في حياتي. هي سيرة روائية متدفّقة عن شعب عريق وبلد عظيم، وبالسرد الصادق الشاعري المرِح الآسر والمتسلسل كجبال الكرمل، يعبّر الكاتب عن أحوالنا الاجتماعية والسياسية بعمق وبوعي راقٍ ملموس، وبحس مرهف، فتنطق شخصياته التي أبدعها بما يحويه قلبه الكبير الغني بالمحبّة والعاطفة، وبما يحويه عقله من معرفة وعلم ،كأنه موسوعة ومورد ضخم مليء بالجواهر والدرر.

___________________________________________________________________________________

أيضا في عــ48ـرب:

 


التعليقات