عن العالم الافتراضي والانفصام../ نضال داوود*

في البداية كان الهدف محاكاة العالم الحقيقي، ولكن النتيجة كانت عكسية تمامًا؛ حصل ابتعاد عن العالم الحقيقي. ابتعاد حقيقي. ابتعاد حتى الفصام.

عن العالم الافتراضي والانفصام../ نضال داوود*

في البداية كان الهدف محاكاة العالم الحقيقي، ولكن النتيجة كانت عكسية تمامًا؛ حصل ابتعاد عن العالم الحقيقي. ابتعاد حقيقي. ابتعاد حتى الفصام.

في هذا العالم الافتراضي المجنون، بات لكلٍ منّا توأمه الافتراضي. توائم، تحمل نفس الاسم ونفس الصورة.  هي حاضرة في شبكات التواصل الاجتماعي، تنشط وتتشارك في الأفكار والصور والموسيقى. أعتــادت أن تتحدث مع بعضها البعض، وأن تتبادل الاعجاب والتعليقات حول منشورات بعضها البعض. وقد فُتحت الأبواب أمامها أيضًا للدعوة إلى المناسبات، دون الحاجة إلى وسائل الاتصال التقليدية. وتغيـــّرت طرق التعارف بين الأجناس. فصار الالتقاء والإعجاب افتراضيّين، قبل أن يتحولا إلى حقيقيّين. أمّا الحب، فبات حبّاً افتراضياً، قبل أن يتحول إلى حبّ حقيقي. وأصبح نشر الدين والمعتقـدات، عند التوائم الافتراضية المؤمنة، شغلهم الشاغل. وصــارت تتـشكّل الاجتماعات بين التوائم الافتراضية هناك، ومن ثم تنتقل إلينا. وأصبح تنظيم المظاهرات جزءاً من أعمال توائمنا الافتراضيّة اليومية. وبدأت تُضاء شعلات الثورات هناك. وآلت الأمور أحيانـًا إلى تبادل الاتهامات والمعاتبات على نشاطنا هناك. وصار كل شيء افتراضيا، وولد عالم جديد؛ عالم افتراضي، يتوقف عندما تتوقف قلوبنا عن النبض، لكنه يبقى موثّقـاً.

يقول بيتر ييلوليز (Peter Yellowlees)، مُحاضر علم النفــس في جامعه كاليفورنيا، الذي درّس عن فصام الشخصية (Schizophrenia) طوال 20 عاما، أنّه كان يستصعب على مرّ السنين، أن يشرح لطلابه ما هو مرض فصام الشخصية ومِمَ يُعــاني المرضى، إلى أن دخل العالم الافتراضي ورأى سكّان ذلك العالم العجيب، كيف يبنون مزارع افتراضية ويلعبون "كازينو" بأموال افتراضية ويجمعون أسلحة افتراضية، في لعبة "World of Warcraft"[1] (وكأنّ الأسلحة الحقيقية لا تكفي).

ويجب الّا يظننّ احد أنّ ذلك العالم تسكنه توائمنا الافتراضية فقط، فهو عالم قائم بذاته، تسكنه جواسيس افتراضية أيضاً. والجواسيس الافتراضية أنواع، لمن يرصدهم. هناك من يَتَتَبع نشاط توائمنا الافتراضية بهدوء، ومهمّته مُراقبـة نشاط توائمنا الافتراضية فقط، وهناك نوعٌ آخر، يَنشط، يَكتب، يُحلّـــل ويُبــدي رأيه، لأهداف قد يعلًمها من يَعي ذلك. وفي هؤلاء يسكن الانفصام المريب[2].

بكل الأحوال، يمكن أن نتجادل على مدى دقّه التسمية: "مواقع التواصل الاجتماعي" كمثال حي لذلك العالم  الافتراضي العجيب. فيقول الأول: صُرنا نتواصل مع بعضنا البعض أكثر، ويردّ الثاني: التواصل هو بين توائمنا الافتراضية فقط، فنحن لا نتواصل بالحقيقة، لأنّ كل واحد منّا متقوقع أمام شاشته الصغيره، يتكـلّم افتراضياً ويغضب افتراضياً ويبتسم افتراضياً ويضحك افتراضياً. في حين أنه ينسى ابتسامات من حوله وصوت من حوله وحُب من حوله. 

السياسي الافتراضي والدوله الافتراضية

يدّعي المُنظّرون، أنه ليس مهمــاً أبدًا ما هو الواقع، فالأهم من ذلك هو ما هو مفهومنا للواقع. كيف ننظر إليه؟ وكيف نفهمه؟ وبذلك يتغيّر تعاملنا معه ومع كل ما هو حولنـا (وكل من حولنـا). في نظريات الحرب مثلاً، يُخطّط العسكريون كيف يُمكن التأثير على العدو كي يغيّر نظرته للواقع، ويَحسب أن المعركة قد حُسمت، دون أن تُحسم فعلاً. والمقصود هو الحسم الافتراضي للمعركة (قبل حسمها عملياً). 

وتطورت الأمور وصار العالم الافتراضي وسيلة، ليس لكسب المعركة الحربية فحسب، بل أيضا لتولي مناصب في عالم السياسة البغيض. ففي واقعنا السياسي مثلاً، يخرج بعض السياسـيين عن طورهم ويبدأون بتمثيلٍ مسرحيّ بهلوانيّ، لا بدايةً له ولا نهاية، لا يوجد به منفعة أبداً لِمن يُفترض على هؤلاء تمثيلهم، سوى كسب معركة افتراضية بامتياز، مدعومة من وسائل إعلام رسمية وتجارية (والتجارية هنا هي أيضاً رسمية) بوضوح. هدفها خلق وعي جديد لدى الناس وكأنّ هؤلاء البهلوانيون الجدد يسهرون على مصالحنا، في حين أنّهم لا يُؤسسون فِكرا ولا يُثقفون طِفلا ولا يَبنون حزبا. وكأن المسألة، مسألة مَسرح ومُمثّل مسرحي وجُمهور وتصفيق. وهناك من يشتري البضاعة الافتراضية، وهناك من يبيعها.

وما العجب إذا كانت الدولة هي أيضا افتراضية (!) عندما تكلم أبو نصر مُحمّد الفارابي، عن الدولة الفاضلة، لم يكن يعني الدولة الافتراضية أبداً، على ما أعلم. العالم الافتراضي أتحَفنا بالدولة الافتراضية أيضاً:

تبلغ مساحه قطر حوالي 11437 كم2  فقط (بمساحه قُبرص تقريبــاً)، عدد سكانها أقل من 2،000،000 نسمة (أي بعدد سكان مدينه بيروت تقريباً)، 83% يسكن في العاصمة الدوحة، وغالبيتهم هنود وباكستانون وإيرانيون وعرب. أما عدد جنودها فيصل إلى حوالي 12،000 رجل. وبالمقابل، فهي تلعب دوراً رائداً في عدة ساحات دولية، بنحو يفوق قدراتها الجيو – سياسية الواقعية، بعشرات المرات، مقارنةً بدول مثل تركيا أو ايران أو مصر مثلاً[3].

واضح أن ذلك يعود إلى قدرة قطر الاقتصادية، إضافةً إلى قناتها الفضائية. ولكن هل قدرتها، اذا ما قيست بالموازين التقليديه للدول، تجعلها مؤثّرة بهذه الصورة؟ لنتذكر: في تونس، كانت دافعة نحو نجاح الثورة، وهي تدعم بوضوح حزب النهضه الحاكم اليوم. في مصر، كانت الداعمة بامتياز لثورتها الواعدة (مؤخراً، أعلنت عن استثمار يبلغ 18 مليار دولار، يضافون إلى 2 مليار دولار للبنك الوطني المصري سبق أن اعلنت عنهم في الصيف الماضي). في ليبيا، لعبت وما زالت، أدوارا متنوعة، ملامحها تتكشف يوماً بعد يوم. في السودان، رَعت التسوية بين الحكومة ومتمردي دارفور، وموّلت بنك دارفور برأسمال يبلغ مليار دولار. إضافة إلى هذا، فازت قطر باستضافة ألعاب كأس العالم بكرة القدم للعام 2022، كأصغر دولة في العالم (الحقيقي وليس الافتراضي) تستضيف الالعاب، حيث تغلبت على الولايات المتحدة وعلى اليابان وعلى أستراليا، معاً.

هذه الحالة الفريدة التي كسرت كل المفاهيم التقليدية لامتلاك طموحات إمبراطورية، أو وزن إقليمي كبير كالذي تمارسه حالياً، هي نتاج تحوّل نوعي في عالمنا، وبزوغ ذلك العالم الجديد المجنون، الذي لا نعلم معالمه بعد لأنه يتطور يوماً بعد يوم.

هل نحن أمام نشوء الدول الافتراضية التي تمنح كل من حرم من قيام دولته الواقعية، إنشاء دولته الافتراضية؟ هل يستطيع العالم الافتراضي الوليد إنشاء هويّة غير مرتبطة بالأرض، ويحثّ المواطنين الافتراضيين على تحقيق حلمهم في التوحد ككيان مشترك، منفصل عن الكيان الحقيقي المُمزّق؟ سنرى.

خاتمة

بكل الأحوال، العالم الافتراضي لم يتخطّ بعد عتبة حاستي النظر والسمع، بالرغم من ابتكار جديد يدعى "Virtual Cocoon"، الذي يعمل على تطويره طاقم من جامعتي يورك ووارك البريطانيتين، ضمن مشروع "نحو الواقع الافتراضي الحقيقي"، والذي يتمتع بالقدرة على إعطاء التجربة الافتراضية طابعاً واقعياً، وذلك بادخال الشّم والتذوّق والاحساس إلى العالم الافتراضي العجيب[4]، الشيء الذي يفتح المجال واسعاً أمام التوائم الافتراضية، سكان ذلك العالم العجيب، للمناورة بين الحيّزين: الواقعي والافتراضي.

باعتقادي، لا بد لنا من التوقّف لبعض الوقت والتأمل بجديّة، بكل ما يجري حولنا من تغييرات هائلة، التي تنال من كل المفاهيم التي كانت سائدة حتى الآن. وأن ندرك، أنه يجري تحوّل وانتقال يومي الى "الافتراضي"، في كل شيء.

ليس بالضروري التغيير هنا سلبياً، بالعكس. هناك بالفعل جوانب إيجابية، كما في كل شيء. ولكنها مجرد دعوة متواضعة لنا للتفكير قليلاً والتأمّل في التغييرات الجارية حتى نعي كل هذا، لأن الانفصام بيننا وبين توائمنا قائم، والشيء يبرز أحياناً، عندما نلتقي، في العالم الحقيـقي، الجميـل.


[1] مجله ايكونوميست، Living a second Life""، 28.9.2006.

[2] في فيــــــسبوك مثلاُ، يوجد (باعترافها هي)، حوالي 8.7% اصحاب "بروفايلات" مزيّفه (Avatar) راجع الرابط: http://technation.themarker.com/digital/1.1810192.

[3]  حارث الحسن، "في الظاهرة القطرية – عصر القوة الافتراضية"، الاخبار، 22.2.2012.

[4] روني عبد النور، "الواقع الافتراضي الحقيقي... قريباً"، الاخبار، 12.3.2009.

 

التعليقات